السبت 28 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عمتى.. الله يرحمها.. الجنازة الحارة .. والجنازة الباردة!!

عمتى..  الله يرحمها..  الجنازة الحارة ..    والجنازة الباردة!!
عمتى.. الله يرحمها.. الجنازة الحارة .. والجنازة الباردة!!


كنا وعمتى نسكن بناية واحدة بالقرب فى قلب حى المنيرة منذ سنوات طويلة.. كانت العمارة تحت التشطيب، ذهبت مع شقيقها - أبى - إلى صاحبها.. هى اختارت شقة بالدور الثانى واستأجر هو الشقة التى تعلوها بالدور الثالث.


قلة من قدامى سكان الحى العتيق كانوا يعرفون بعضهم بعضا.. ويتابعون أخبار وأحوال أصحابهم وجيرانهم كما لو كانوا فروعاً لعائلة واحدة تتجاور فى مكان يضمهم بلا كثير أحقاد أو حسد.. كانوا بشراً من نوعية أخرى.. يُجل الصغير منهم الكبير.. ويساند القادر منهم المحتاج معنوياً أو مادياً ويشاركون جميعا فى الأفراح والأحزان، وربما كان التزامهم بواجبات الثانية أكثر وأعمق من الأولى.. ولدت فى هذا الحى وتربيت.. وعشت فيه مراحل الصبا والمراهقة والشباب.. حالفنى الحظ أن أبقى به بعد تخرجى والتحاقى بالعمل فى واحدة من مؤسسات الدولة المرموقة التى اتخذت من حى جاردن سيتى مقرا لها.. لكى أكون بالقرب من والدى بعد زواج شقيقتىَّ.
كان الجيران الذين كبرت وأنا أناديهم أعمامى وعماتى، إذا تصادف ولقيتهم داخل البناية أو خارجها، يبادرون بالسؤال عن والدى وعن عمتى وزوجها.. وبعدها يسألون عن شقيقتيّ وزوجيهما، ثم عنى وعن أحوالى.. حوار.. غالباً ما ينتهى باستفهام أبوى حميم «مش ح نفرح بيك بقه؟».. وكلهم يوصوننى خيراً بالجميع بلا استثناء «خلى بالك منهم يا بنى.. عشان ربنا يبارك لك».. كثيراً ما كنت أستغرب هذا السلوك، لأن هجمات سنوات تسعينيات القرن الماضى العاتية فرقت بين أفراد العائلة الواحدة.. ومزقت ما بَقى من أواصر مودة بين الأصحاب.. ويسرت للغالبية ادعاء الانشغال وقلة العافية ومُضى الوقت دون أن يدرى أحد، لكى يكون أى منها أو كلها مبرراً لعدم السؤال وقلة التواصل..
ولم أجد إجابة شافية لسؤال بقى يلح عليَّ طويلاً «اشمعنى دول - الجيران - ما شغلتهمش الدنيا زى غيرهم، وخلتهم يتخلوا عن أصدقاء وينسوا جيران كانوا قريبين منهم من زمن مضى وراح لحاله؟».
لما ماتت عمتى عرفت إجابة مقنعة وشافية لما كنت أبحث عنه.
انتبهت فجر ذاك اليوم على نقر خفيف على زجاج باب الشقة.. هذا معناه فأل غير طيب.. حددت ملامح ابن عمتى الأكبر عندما أضأتُ نور السلم.. فتحت.. لمحت الدموع فى عينيه.. لم أسأل.. قال باختصار.. «عمتك تعيش أنت».. احتضنته.. انعقد لسانى.. تركنى وهبط السلم.. كنت أفكر فى خطوتى التالية.. فوجئت بأمى تسأل.. «ماله حسام».. تقدمت خطوات ناحيتها.. دون أن أنبس بكلمة.. أجلستها على أقرب مقعد.. كررت ما سمعته.. «عمتى تعيشى أنت».. سمعنا صوت أبى الواهن وهو يقول باستسلام «إنا لله وإنا إليه راجعون».
• كانت أمانى
حزنت على عمتى بشدة.. لأنها كانت أماً لى مع أمى.. وزاد حزنى لما لمحت أبى وأمى ينهاران معاً كمداً لمدة دقائق.. ثم يتماسكان.. وفى لحظات استعدا للهبوط معا إلى شقة المتوفاة.. توقف أبى عن البكاء ليطلب منى أن أتصل بشقيقتيَّ.. وخالى وخالتى لأبلغهم الخبر.. أومأت برأسى مضيفاً «وبعد شوية ح اتصل بالمكتب علشان أطلب أجازة بقية الأسبوع».
لما انضممت إلى أسرة عمتى بعد فترة وجيزة.. رأيت الوجوم على وجه زوج عمتى.. ينصت لأبى بانتباه.. دموعه متحجرة.. حسام يُجرى بعض الاتصالات الهاتفية من تليفونه المحمول.. توليت من جانبى مسئولية الرد على خط الهاتف الأرضى كلما رن جرسه..
بين المكالمة والتالية لها.. كنت أسمع والدى يعرض على زوج عمتى بعض المقترحات التى تفرض نفسها عليهما فى مثل هذا الظرف الطارئ.. يبدو أن الرجلين بحكم العشرة الطويلة وصلة القرابة وسنوات التواصل العائلى، أصبحا روحا واحدة وتفكيرا متقاربا وجسدين.. فى هذا الموقف العصيب كانا يتشاطران الأحزان للحظة.. وفى اللحظة التالية يتقاسمان تحمل تبعات الوفاة ويتعاونان معا فى توزيع المهام.
دبيب خطوات أرجلنا بين الدورين صعوداً وهبوطاً نبه الجيران.. وبالسؤال عرفوا.. وأبلغوا الآخرين.. سرعان ما انقسمت شقة عمتى إلى جزئين.. السيدات مع والدتى بالقرب من الغرفة المُسجى بها جسد المرحومة.. صالون الاستقبال اتسع للرجال.. الكثيرون كانوا يقدمون واجب العزاء وينصرفون لحال سبيلهم لإفساح المكان لمن هم أكثر قرباً.. سمعت بعضهم يتعهد بإنهاء بعض الترتيبات، كاستخراج شهادة الوفاة وتصريح الدفن واستقدام الحانوتى، حتى يُخفف عن أبى وزوج عمتى عبأ ومشقة مصابهما الأليم.
تم كل شيء بالتوافق بين أبى وزوج عمتى، الذى لم يعارض أن يتم الدفن فى مقابر أسرتنا بالدراسة، بدلاً من مدفن أسرته بمدينة الفيوم.. أشار إلى أبى برأسه.. تقدمت منه.. همس فى إذنى «اتصل بعمك فؤاد، تمر عليه، وتاخدوه وتروح المدافن بتاعتنا علشان يقول للتربى يعمل إيه».. هززت رأسى موافقا وأنا أمسح دموعى، وانصرفت.
فور انتشار خبر الوفاة فى أرجاء الحى العتيق.. توافد على مسكن عمتى الكثيرون من الأقارب والأصدقاء.. محل الفراشة الذى سيتولى تجهيز إحدى قاعات مسجد عمر مكرم القريب، رص عدد من الكراسى فوق الرصيف وبذلك تحول مدخل البناية التى نسكنها إلى مكان مصغر للعزاء ظل يتزايد القادمون إليه بالعشرات إلى أن حانت لحظة نقل جثمان المتوفاة إلى السيارة التى ستحمله إلى مثواه الأخير.
فوجئت عند صلاة المغرب فى الجامع، بأناس لم أرهم منذ سنوات.. أكثرهم لحق به الكبر والعجز، ولكنه تحامل على نفسه وأتى لتقديم الواجب.. وأدهشنى أن فراغ وامتلاء قاعة المسجد عقب كل ربع ينتهى قارئ القرآن الكريم من تلاوته، بقى متواصلأً زمناً طويلاً..
الأقارب الذين حضروا الدفنة وليلة المأتم.. بقوا إلى جوارنا لعدة أيام وتوزعت مناماتهم بين الشقتين.. أما الأصدقاء والمعارف فكانوا يواظبون على الحضور لأيام كثيرة دون كلل أو شكوى.. حتى من كان منهم قليل الكلام فى مثل هذه المناسبات كان يجلس لفترات طويلة يستمع بإمعان لتلاوة القرآن الكريم التى كان يبثها المسجل دون انقطاع.
بالتدريج تحاملت الأسرتان على تجاوز أحزانهما، وإن لم ينس أى منا فقيدتنا الراحلة.. تساند أبى وزوج عمتى على ما بقى لهما من صحة لتخطى عتبة الحزن الشديد.. وعاد الأبناء إلى أعمالهم وأسرهم الصغيرة ومشاكل حياتهم اليومية.. ولم يبق من عمتى إلا ذكرى ما تفتأ ترددها الألسن مصحوبة بـ «الله يرحمها رحمة واسعة».
• لما توفيت شقيقة زميلى فى العمل
يفرض انضمامك للعمل خارج الوطن ضمن فريق متخصص فى تسويق السيارت بكل أنواعها أن تكون علاقاتك العامة على أعلى درجة من التميز والحساسية فى نفس الوقت.. قد تعتذر عن تناول المشروبات الكحلية وقد لا تشارك فى الرحلات الجماعية إلى بعض أماكن اللهو غير البريء.. لكن أن تتأخر عن القيام بالواجبات الإنسانية، فهذا يقلل من قدراتك فى التسويق ويقلص من إمكانياتك فى التواصل.
كنت أعرف هذه القاعدة الذهبية قبل أن أتوجه إلى باريس.. قررت منذ يومى الأول أن أفتح ذهنى لكل ما يقال لى خلال أشهر التدريب الأولى.. سعيت للانتشار على مستوى المؤسسة الدولية التى انضممت لها.. لم أكتف بمد ذراعىَ ناحية الإدارة وصوب التخطيط والإنتاج.. بل تعمدت أن أرنو إلى توثيق صلتى بكل من أتزامل معه فى لقاء أو ورشة عمل أو من أشاركه فى عمل بحثى عبر النت.
سرعان ما كونت شبكة واسعة من الأصدقاء.. أزعم أنها سهلت لى الكثير من العقبات التى تُصادف كل مغترب يجد نفسه فى وسط اجتماعى وثقافى لم ينشأ فيه ولا يعرف من ثقافته إلا أقل القليل..
مشكلتنا فى مصر.. أننا بسرعة شديدة نتعلم قواعد اللغة الأجنبية.. وربما نبرع فى التحدث بها والترجمة عنها، لكننا نجهل الكثير من عادات وتقاليد أهلها.. ومن ثم يصطدم الكثيرون منا بمكونات هذه المجتمعات وعاداتهم الموروثة وتراثهم الثقافى..
المصيبة الأكبر أن يتحصن البعض منا داخل حوصلته وهويته، مخافة أن تنتقل إليه عدوى ما يراه من عادات وتقاليد وموروثات!! رغم أن العديد منها لن يضره لا دينياً ولا معنوياً ولا ثقافياً إن هو استحسنه ولم يَنفر منه وفق القاعدة التى تقول «المعرفة بالشيء خير من الجهل به» أو على سبيل إضافة جديدة لمعارفه.
مؤسسات صنع وتسويق السيارات على مستوى العالم، تتميز بأنها تضم تشكيلة عريضة من أبناء المجتمع الذى تتواجد فيه ومعهم تنويعة متسعة من أبناء الجنسيات الأخرى.
• خليط إنسانى
فى باريس شكل هذا الخليط الإنسانى متعدد الثقافات ومن ثم التقاليد والعادات، هيكلا وظيفيا مهنيا وحرفيا بالدرجة الأولى وبشريا بالدرجة الثانية.. فهناك رئيس مجلس الإدارة الألمانى ونائبه الفرنسى.. وكبار المديرين يتشكلون من جنسيات أوروبية وآسيوية.. ومساعدوهم يتوزعون بين عدد لا بأس به من بلدان الشرقين الأدنى والأوسط.. أما رؤساء قطاعات التصنيع فغالبيتهم قادمون من أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا.
هذا الخليط، إن لم تكن مستعداً للتعرف عليه والتجاوب معه على مستوى العلاقات العملية من ناحية والإنسانية من ناحية ثانية، ستُسد فى وجهك الكثير من أبواب التواصل والتحابب التى هى ببساطة أقصر الطرق نحو نجاحك فى عملك، الذى إذا عززته بما يتوافر لديك من مهارات وقدرات أمسكت بمقوض التميز.. وإذا أدرت له ظهرك متأففاً أو متعالياً، فسيكون صعباً عليك أن تعتمد فقط على مهاراتك وقدراتك فى تصريف عملك !! أما إذا كنت من الحالمين بالتفوق الناظرين إلى أعلى دائما ضمن بيئة إنتاجية شغل أفرادها الشاغل هو التطلع للقمة والسعى لبلوغها، فعليك أن تكون منفتحاً على كل ما حولك دون وجل ولا خوف.
بمرور الوقت اكشتفت أن تخيلى المسبق لطبيعة العلاقات الاجتماعية بين طوائف الشعب الفرنسى يحمل فى طياته خطأ كبيرا وصورا نمطية عفا عليها الزمن، لذلك قررت أن أوسع من مدارك معرفتى به عن طريق التثقيف الذاتى بالقراءة.. وعن طريق الملاحظة واختزان التجربة وتراكماتها.. من هذه وتلك، توقعت أن تكون مظاهر الحزن بين الفرنسيين مختلفة عما أعرفه وعايشته مرات كثيرة فى مصر.. وجاء توقعى قريباً من الواقع، فما شاهدته ومررت به من تجربة، أضاف إلى معارفى شيئا جديدا.
فوجئت ذات صباح بسكرتيرتى تبلغنى أننى سأجد بين بريدى الفضائى رسالة قامت بإرسالها منذ دقائق بناء على طلب زميلى فى قطاع تسويق سيارات النقل.. يخطرنا فيها أن شقيقته الكبرى توفيت فى ساعة مبكرة من هذا الصباح.. وأبدت استعدادها لتوفير أى معلومات قد أحتاج إليها فى هذا الخصوص.. طلبت منها أن تُعد لى كوب قهوة الصباح.. وأن تمهلنى عشر دقائق أنظر خلالها فيما هو عاجل.. بعدها أرتب معها ارتباطات اليوم، وكيف سأتصرف فى مسألة وفاة شقيقة زميلنا هذا.
• رسائل
أول رسالة عثرت عليها بين بريدى الفضائى كانت من منسق عام التسويق الذى كان مقرراً أن أقابله بعد ساعة الغداء.. يقترح فيها أن نؤجل اللقاء إلى الغد بسبب حالة وفاة شقيقة زميلنا المشترك.. مررت سريعا على باقى الرسائل.. وزعت بعضها على الزملاء.. استبقيت عددا قليلا منها لما بعد التعرف على الكيفية التى سينقضى بها اليوم، لأنها تحتاج لجمع معلومات وترتيب أولويات..
عرفتنى السكرتيرة على الجانب الأكبر مما كنت أجهله حيال هذا الأمر، اكتشفت أن الأمر أبسط مما كانت تهيئ لى البيئة التى تربيت فيها.. تبرع المنسق العام بإفهامى ما غَمض عليَّ، الأمور هنا سهلة وميسرة.. مكتب الخدمات المتخصصة الذى لا بد أن يتصل به زميلنا فرانسوا، سيقوم بتجهيز كل شيء وفق تكلفة الفاتورة التى يستطيع أن يسددها.
منتصف النهار تجمعنا فى ساحة الكنيسة القريبة من منزل زميلنا.. وجدت وجهه حليقا وهندامه متناسقا.. ملامحه لا تحمل تعبيرات الحزن التى تعودت أن أراها فى مثل هذه المناسبات.. داخل مبنى الكنيسة جاءت جلستى إلى جوار منسق عام التسويق.. همس فى أذنى «زى ما شرحت لك.. كل حاجة مترتبة.. كيفية تجهيز المتوفاة للدفن.. نوعية خشب الصندوق الذى ستدفن داخله وألوان الزهور التى ستوضع فوقه وطراز السيارة التى ستحمله، كله مترتب ومتفق عليه».
لما لاحظ أندريو علامات الاندهاش على وجهى.. أضاف «حتى كمية الشموع التى تراها مضاءة من حولنا.. لها ثمنها.. وعدد القساوسة الذين سيتحركون بعد قليل للمشاركة فى الصلاة.. وكم من الوقت ستستغرقه الموعظة.. كله محسوب بدقة ياعزيزي».
صدق أندريو فى كل ما قاله، كل خطوة محسوبة ومرتبة ولها تكلفة مالية متفق عليها.
بعد انتهاء مراسم الدفن.. اصطحبنى أندريو فى سيارته إلى الحانة التى سيستقبل فيها فرانسوا المعزين ليتبادلوا معاً أطراف الحديث.. بحكم نشأتى استغربت الموقف.. وسألت نفسى.. شقيق المتوفاة يتلقى عزاءها فى الحانة؟!.. الإجابة التى لم أعثر عليها داخلى.. وجدتها هناك.. بين كلمات المواساة الصادرة عن اللسان.. يحتسى كل ضيف مشروبه المفضل.. على حسابه.. لا مكان للحزن هنا.. لم أسمع من يذكر الفقيدة بكلمة واحدة.. الحياة تسير ولا يعطلها الحزن.
توزعنا مجموعات داخل الحانة. بعد نحو ساعة.. انصرفنا.. عدت وزملاء العمل إلى مكاتبنا.. وتركنا فرانسوا وزوجته يتفقان أين سيتناولان وجبة العشاء. •