السبت 28 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قرآن وإنجيل .. لقطة لندنية..

قرآن وإنجيل .. لقطة لندنية..
قرآن وإنجيل .. لقطة لندنية..


كان علينا أن نصحو مبكرين فى ذلك اليوم من أيام شهر إبريل التى تتميز بقسط لا بأس به من الدفء فى لندن التى توشك أن تدخل بنا فى أشهر الصيف الأقل غيوماً.
مبكرين، لنلحق بموعد التسجيل بالمستشفى الجامعي.. حيث ستجرى زوجتى فحصاً بالمنظار على قصبتها الهوائية بناء على نصيحة طبيبها المعالج، للكشف عما بها من أعراض تجعلها فى حالة يُرثى لها كلما تعرضت لـ«لطشة برد».
نوبات الكحة التى تتعرض لها تجعلها فى غاية من الألم.. تنخلع لها قلوب عائلتنا الصغيرة.
صحونا قبل الموعد.. بسبب القلق والتوتر، ربما.. بسبب هاجس عواقب عدم اللحاق بالموعد المبكر الذى تحدد لها قبل فترة، ربما.. بسبب عادة الالتزام بما يتم الاتفاق عليه من ارتباطات وتوقيتات، التى اكتسبناها منذ أن استقرت أمورنا فى هذه المدينة شديدة الانضباط!! ربما..
وصلنا إلى مكتب تسجيل المرضى القادمين للعرض على الإخصائيين بالمستشفى، قدمنا الخطاب الذى يحدد إلى أين سنتوجه.. قام أحدهم برصد البيانات .. ثم أشار إلى مكان بعينه.. سرنا إليه.. أخذت زوجتى دورها بين الحضور.. بقيت بجانبها مشجعاً، وأتفكه معها أحيانا نتذكر معا قدرة الله على أن يشفيها أحياناً أخرى.. حتى جاءت ممرضة قامت بترتيب المرضى فى مجموعات وفق حالة كل منهم.. بعدها طلبت من المرافقين أن يغادروا الحجرة إلى مكان الانتظار القريب.. وأن نبقى فيه حتى تنتهى مراحل الكشف والفحص وما يتبعها من إجراءات.
مكان الانتظار متسع.. عن يساره مقهى هادئ يُقدم الوجبات السريعة والمشروبات الساخنة والباردة.. وعن يمينه مكاتب إدارية وخدمية لتلبية احتياجات المترددين على المستشفى.
لم أجد فى نفسى استعدادًا للجلوس بالمقهى، فليست لدى رغبة فى احتساء أى مشروب.. فضلت الجلوس فى قاعة الانتظار.. اخترت كرسياً فى نهايتها يقع بجوار نافذة يأتى منها شعاع شمس يبعث على الدفء والأمل معا.. سرحت بعض الوقت فيما يمكن أن تسفر عنه نتيجة الفحص التى تجريها زوجتى بالمنظار فى هذه اللحظة.. سألت الله أن تأتى إيجابية وبلا تعقيدات علاجية وأن يكتب لها الشفاء مما تعانيه.
تغلبت على حالة الشجن التى هزتنى بالاستعاذة من الشيطان.. شعرت بهاتف ينصحنى بأن أتلو بعض آيات القرآن الكريم.. لعلى أجد فيها ما يُطمئن قلبى ويفتح لأسرتى باب بشارات الخير.
أخرجت المصحف الذى غالباً ما أضعه فى جيب السترة التى أرتديها عند الخروج للعمل أو لقضاء أى مصلحة.. استفتحت باسم الله وبدأت بالتلاوة.. استغرقتنى حالة من الرضا التى فرشت مظلتها على داخلياً وخارجياً..
بعد فترة لا أدرى طولها، أحسست بمن يقف بالقرب منى.. رفعت عينى إليه.. غمرتنى ابتسامته المحبة الودودة.
تحركت شفتى مصدقاً بالله العظيم.. اعترضت صفحات المصحف بإصبع من يدى اليسرى.. هممت بالقيام لتحيته.. رجانى ألا أفعل.. مبدياً ، بلغة إنجليزية راقية، اعتذاراً مهذباً عما يكون قد سببه لى من إزعاج.. نفيت ذلك بلطف.. طيبت خاطره..
استفسرت منه عن الخدمة التى يمكن أن أؤديها له .. جلس إلى جوارى وأكد أنه لا يحتاج إلى أى خدمة مادية.. هو يسأل فقط.. هل أنا أقرأ فى الكتاب المقدس الذى يعلمنى أصول دينى؟؟ قلت نعم.. قبل أن استفهم منه عن سبب سؤاله.. شرح هو لى مقصده..
فهمت منه أنه هو أيضا جاء مصطحباً زوجته إلى نفس القسم العلاجى للكشف بالمنظار على معدتها.. وأنه جلس فى مواجهتى بلا صخب يقرأ فى الإنجيل طلباً للسكينة.. ولما جذب انتباهه جلستى المستغرقة، خمن أننى أيضا أقرأ فى الكتاب المقدس الذى يخص ديانتى .. واستنتج أننا نمر بقلق نفسى بسبب الحالة المرضية التى تعانى منها زوجتانا.. وأننا نعيش لحظة صفاء يتوجه فيها كل منا إلى إلهه، نتوسل إليه أن يصرف عن نصفه الآخر ما يعانى  من آلام ويحقق له الشفاء ولا يعرضه لمزيد من التعب!!.
أثلج صدرى أنه طلب منى أدعو ربى أن ينقذ زوجته إلى جانب دعائى لزوجتى.. ووعدنى أن يفعل هو كذلك ويدعو ربه أن ينقذ زوجته وزوجتى مما يعانيان منه..
لم أعلق واحتبس الكلام فى حلقى..
عبرت دمعة طفرت من عينى عن امتنانى، لمحها الرجل وهو يقوم منصرفاً، ولم يعلق..
عاد إلى كرسيه فى الطرف الآخر من حجرة الانتظار..
نظرت ناحيته.. شاهدته وهو يمسح عينيه.. ثم ينظر ناحيتى محيياً بانحناءة سريعة من رأسه.. عدت إلى مصحفى، بولد كما عاد هو إلى إنجيله..
أما هذه فقاهرية..
خط المترو الذى يربط بين محطتى المرج وحلون، يعج دائماً بالركاب.. زحامهم لا ينقشع إلا لفترت زمنية قليلة.. معظم الوقت عربات هذا الخط بمحطة ناصر أو الإسعافا كما يسميها البعض - فى حالة الزحام هذه .. لذا أفضل لكبر سنى انتظار القطارات الأقل ازدحاماً.
رتب أحد الأصدقاء المقربين أن يعقد قران ابنته بواحدة من قاعات مسجد عمرو بن العاص بحى مصر القديمة.. وشدد علينا أنا ورفيق عمرى.. شقيق زوجتى الأكبر.. أن نحضر هذه المناسبة لكى نباركها ونضيف إليها تكريما فوق التكريم.. بصفتنا الأكبر بين شيوخ العائلة..
تواعدنا أن نلتقى على رصيف المحطة.. تساندنا بعد أن التقت الوجوه لنجلس معاً على واحد من المقاعد الحجرية حتى يأتى القطار الأقل ازدحاما..
بعد قليل جاء القطار المناسب.. وفقنا فى الدخول إلى إحدى العربات.. مررنا بين الأجساد المتراصة.. أفسح أحدهم مكانا لكلينا بالقرب.. استند مصطفى على ذراعى اليسرى وأمسكت أنا بمقبض المقعد باليد اليمنى لكى أحافظ على توازننا.
من وراء نظارتى أدرت عينى فيمن حولنا من الجالسين.. أتفرس فى وجوههم المجهدة برغم أن ساعات اليوم لم تصل إلى نهايتها.. الغالبية بلا استثناء يبدو عليهم التعب وقلة النوم.. وكلهم من ذوى الأكتاف المهدلة من شيل الهم.
شغلت نفسى لبرهة بتتبع الأربعة الجالسين أمامنا مباشرة.. ناحية اليمين فى اتجاه سير القطار إلى ناحية الشباك.. يجلس شاب من أبناء الكنيسة يقرأ فى الإنجيل.. لمحت عن بعد أنه يتمعن فى آيات من سفر التكوين قصة نوح والطوفان.. إلى جانبه تجلس فتاة يبدو أنها قادمة من إحدى قرى القليوبية القريبة فى طريقها لزيارة مريض بمستشفى قصر العينى.. رائحة الطبيخ الذى أعدته تفوح من الإناء الذى غطته بقماش حتى يحتفظ بحرارته.. فى الناحية الأخرى المواجهه لقارئ الإنجيل، يجلس رجل كهل مغمض العينين.. يستند بذقنه الكثيفة على عصاه الخشبية ويبدو سارحاً فى ملكوت الله.. إلى جواره شاب فى مقتبل العمر لا تكف أصابعه عن العبث بأزرار الموبايل ..
الضجيج من حولنا لا يهدأ.. الأصوات متداخلة.. معظمها يتحدث فى الهاتف المحمول بصوت مرتفع.. قلة منهم تهمس بكلمات مضغمة وعيونها تتجول هنا وهناك، لا يدرى الآخرون عما تبحث عنه.. البعض يَفرض على الآخرين الاستماع إلى ما يفضلونه من أغنيات ومقاطع إعلانية.. والبعض الآخر ممن يجلس القرفصاء مستندين إلى الأبواب التى لا تفتح أثناء الوقوف بالمحطات، يتبادل الأخبار والتعليقات التى كثيراً ما تنتهى بقسم مٌغلظ على صدق حديثهم.. يشاركهم فى هذا الادعاء هؤلاء الذين يتحججون بأن مسيرة الخط البطيئة هى السبب فى تأخرهم عن مواعيد بدء أشغالهم.
قبل أن يصل القطار إلى رصيف محطة السيدة زينب.. احتضنت فتاة الطبيخ حمولتها وانتصبت قائمة.. أفسح لها الواقفون مساراً.. خطت فيه بصعوبة إلى أن اقتربت من باب الخروج.
تنازل لنا واحد من الواقفين عن دوره فى الجلوس مكان الفتاة.. شكرناه معا.. ساعدت مصطفى على الجلوس.. تنفس الصعداء وهو ينحنى ناحية المقعد.. فور اعتداله.. أخرج المصحف من جيب البالطو الثقيل.. وأزاح التلفيحة التى يدفئ بها رقبته عن فمه وأنفه.. وبدأ فى التلاوة.. انتبهت للشيخ الجالس فى الناحية الأخرى وهو يلكز صاحبى بطرف عصاته.. انتبه مصطفى.. تبادل معه النظرات، يبدو أنه لم يفهم مقصده.. فعاد إلى قراءته.
بعد دقائق خلا المقعد الذى بجوار الشيخ.. للمرة الثانية أجد من يفضلنى على نفسه من الواقفين.. ما أن جلست حتى مال على هامسا فى أذنى.. بدل مكانك مع صاحبك.. وخليه هو اللى ييجى يقعد جنبى.. نظرت إليه نظرة باردة ولم أرد.. قلب شفته السفلى على العليا بامتعاض.. رسمت ابتسامة غير ذات معنى على وجهى..
لما اقتربت محطة الملك الصالح.. طوى مصطفى صفحة المصحف.. وقمنا يسند كل منا الآخر.. وصلنا ناحية الباب بسهولة.. نزلنا معا.. بعد خطوات وجدنا الكهل فى أعقابنا.
وضع يده على كتفى.. التفت إليه وكذا فعل مصطفى.. قال موجهاً كلامه لمصطفى بجدية لا معنى لها: إزاى تقعد تقرأ فى المصحف الشريف.. وجنب منك واحد قبطى؟؟ وقبل أن يرد مصطفى.. وجه كلامه لى مؤنباً: وأنت ليه ما سبتش كرسيك علشان هو يقعد جنبى؟
بادر مصطفى بالسؤال.. وإيه الغلط فى كده؟ ابتسم الكهل.. مستغرباً ألا ندرك الأمر بالبداهة الواجبة.. نظر إلينا بتأنٍ شديد.. كمن يلقى حكمة، ما كان يجب أن تغيب على فطنتنا نحن الاثنين.. قال وهو ينظر فى عينى مصطفى: يا راجل انت على طهارة.. وهو لأ!!
لم أفكر كثيراً فى الرد الذى سرعان ما جرى على لسانى.. وإيه اللى عرفنا إنك أنت نفسك على طهارة؟
لم يتوقع مثل هذا الرد.. بَسمل وحَوقل.
أسرع الخطى بعيداً عنا.. وهو يُحسبن على كلينا وعلى اللى خلفونا.. ويلعن المترو الذى جعله يلتقى بنا فى مثل هذا النهار الأغبر. •