لويس جريس وسناء جميل ترنيمة الحب الخالدة
مي منصور
بين الماضى والحاضر تعشش وتتمدد الذكريات.. بين اليقظة والمنام تختفى أشياء وتتجدد مشاعر.. وتبقى إرادة الإنسان ورغبته فى التوحد مع الأشياء.. فهو يذهب إلى ما يحب ويهجر ما يريد.. فنحن لا نختار عندما نحب ولا نحب عندما نختار.
رحلت ولم تودعنى، رحلت دون استئذان أو علم، تركتنى وحيداً أعانى ظلام الليل، والوحدة القاسية، كثيراً ما أسمع صوتها تنادينى فى منتصف الليل، بنبرة محتدة عصبية ربما لأننى نسيت فنجان قهوتى فى غير مكانه، أو ربما لأننى غفوت بغير ملابس النوم، لم تكن زوجتى فحسب، وإنما كانت أمى التى تربت على كتفى عندما تشعر بهمّ يتسلل إليّ، وكانت أختى، وصديقتى وصديقى أحياناً، فمن الممكن أن أشكو لها منها عندما أرغب فى ذلك، وقلما حدث ذلك، أفتقد حنانها وقسوتها، وإبداعها الذى تركها ترحل بمفردها، أفتقد صوتها وضحكتها الدامعة، وهمسها، وأغفو كل يوم على أمل أن أجدها بجوارى فى الصباح الباكر، وحدها التى عرفت كيف تصنع لى عائلة كاملة من أب وأم وأطفال يلعبون ويجلجلون فى أرجاء المنزل، دون أن نملك رائحة الأطفال، لن أنساها ولم ترحل، وعندما أشعر بالافتقاد الموحش أفتح أحد أفلامها فأشاهدها وهى تتحرك حولى وليس على الشاشة.
المحب العاشق
- كل هذا الحديث وأكثر رأيته فى عين المحب العاشق لويس جريس أو «لويجي» كما كانت تناديه الجميلة بنت جميل، زوجته ومعشوقته الأبدية الفنانة المبدعة سناء جميل، لم أقل شيئاً إنما بمجرد أن جاء اليوم الموافق 19 ديسمبر، يوم رحيلها قال كل هذا الكلام بعينه التى تدور طوال الوقت تبحث عن أمانها وحضنها وطمأنينتها، وفى الحقيقة ليس هذا هو يوم وفاتها المسجل بالأوراق الرسمية إنما 22 ديسمبر، فالكاتب الصحفى الكبير والعاشق الأكبر ترك زوجته 3 أيام دون أن يدفنها، وهو يقول إن السبب هو أنه أراد أن يأتى أقاربها ويحضروا الجنازة وتشييع الجثمان، ولكنى اكتشفت من خلال بعض الأسئلة التى سألتها له أن ليس هذا هو السبب، فهو تركها بالمستشفى وكان يذهب كل يوم ليراها وكل يوم بحجة غير الأخرى، يراها ويتخيل أنها نائمة فى سبات عميق فحسب، وعندما تستيقظ سيخبرونها أن وحيدها وطفلها المدلل وزوجها وسندها جاء ليسأل عنها، فتستفيق متهللة وتطلب منهم التليفون لتقول له كما اعتادها: «لويجى أنا صحيت من بدرى إنت فين؟»
لا مفر من الوداع
لم يأت أحد من أقاربها واضطر أن يخرجها لمثواها الأخير، ولا مفر من الوداع، ولا مفر من الفراق الموجع.
جمعتهما قصة حب عنيفة، حيث يحكى لى جريس يقول: كنت قبل لقائى بالفنانة سناء جميل مقيماً فى أمريكا، حيث كنت فى بعثة هناك ودرست هناك سنتين ثم عملت لمدة عام فى الصحف وحصلت على درجة الزمالة من جامعة ميتشجان.
وفوجئت أثناء إقامتى فى أمريكا بخطاب من الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، رئيس تحرير «روزاليوسف»، يقول فيه: «عزيزى لويس ماذا تفعل هناك، مكتبك فى انتظارك»، وذلك لأننى كنت أنتمى إلى كتيبة «روزاليوسف» قبل السفر إلى أمريكا، وبالفعل عدت إلى مصر، وأول مناسبة حضرتها ودعيت إليها، كانت حفلة وداع تقيمها صحفية سودانية اسمها «خديجة» كانت تدرس الصحافة فى مصر وكانت مبهورة بتجربة الرائعة «روزاليوسف»، وجاءت للقاهرة لدراسة الصحافة ثم تطبيقها فى الخرطوم وقبل رحيلها إلى الخرطوم أقامت حفلاً كبيراً لتوديع أصدقائها فى منزل سناء جميل، وذهبت شأنى شأن زملاء كثيرين، وليلتها التقيت بالرائعة سناء جميل، وطوال تلك الليلة كانت سناء تخطئ فى اسمى، وأصححه لها، وفى آخر الحفل أعطتنى رقم تليفونها وقالت لى بكل ثقة «هتتصل بيا بكره وهنتقابل»، أخذت الورقة وضعتها فى جيبى ونزلت ولم أهتم بالموضوع، واليوم التالى قررت أن أتصل بها وعزمتها على العشاء، وتوالت بعدها مقابلاتنا، إلى أن جاءت لى فى يوم إلى المجلة وقالت «يلا تعالى اعزمنى على الغدا فى شارع المعز»، وبعد تناولنا وجبة الغداء قالت «لويس يلا نتجوز»، قلت لها «أيوا بس إزاى يا سناء، انتى مسلمة وأنا مسيحي»، ردت مسرعة: «لا يا لويس أنا مسيحية يلا نتجوز»، وفكرت قليلاً ثم قلت: «طيب أنا مش معايا فلوس»، فقالت يا لويس معاك تلاتة تعريفة فقلت لها معايا قرشين صاغ. فردت قائلة: طيب عال خالص تعالى يلا بينا، وأخذتنى من يدى ودخلنا محل جواهرجى طلبت منه دبلتين وكتبت عليهما التاريخ وبجوار واحدة لويس جريس، والأخرى ثريا عطا الله، فقلت للرجل: استنى ياعم مين ثريا دى اسمها سناء، فردت لا أنا يا لويس اسمى ثريا يوسف عطا الله. تزوج لويس من سناء ولم يستجب إلى نصائح مصطفى أمين وغيره من أساتذته وزملائه المتكررة بالتوقف عن محبة النجمة الصاعدة سناء جميل، التى ستتسبب شهرتها لا محالة فى وضعه - كصحفى مغمور وقتها- فى حرج شديد. كما ستظل شهرتها طاغية على أى شهرة أو مجد مهنى يحققه مادام اسمه مقرونًا باسمها. وظل لويس فى صمت واجتهاد شديد يبنى اسمه اللامع كأحد أفضل أبناء جيل الستينيات بين الكتاب الصحفيين والنقاد العرب، متعه الله بطول العمر ودوام العافية والعطاء رفض النصيحة
تفادى العظيم لويس جريس جميع النصائح المحملة بطاقة سلبية ضد العلاقة، وبحث عن أخرى تحافظ على حبهما وتدعم جذور ارتباطهما، وقام بدأب ومحبة بتنفيذ نصائح الأساتذة الكبار زكى طليمات، وألفريد فرج، ولويس عوض حول كيفية التعامل مع موهبة متفردة مثل موهبة سناء جميل، وعدم الوقوف بينها وبين فنها، بل طرق مساعدتها والمساهمة فى اختمار موهبتها وزيادة ثقافتها، كما خلع عباءة الرجل الصعيدى المتحكمة غيرته فى معاملته لزوجته، وظل على عهد محبته والتزامه بما يتطلبه الزواج من فنانة. وكان ذلك بدرجة أثارت غيرة كثير من المحيطين ليقذفه أحد السخفاء عقب أداء سناء جميل لدورها العظيم فى فيلم «فجر يوم جديد» - الذى تضمن لقطة لها فى الفراش مع شاب يصغرها بأكثر من 20 سنة- قائلاً له: انتا مبتغيرش يا لويس لما مراتك تبقى عاملة دور فى السرير مع راجل تاني؟ ليجيب الأستاذ الكبير عليه بكل ثقة واعتداد: خليك فى حالك.
ويظل لويس المحب يخطو طريقه المهنى بثبات ونجاح فى صمت، منكرًا ذاته ومتطلباته النفسية، والاجتماعية كى لا يطغى أى مؤثر على تركيز سناء جميل فى فنها، حيث يعلم كل المتابعين لمسار زيجات الوسط الفنى أن أول صورة فوتوغرافية جمعتهما وهما متزوجان كانت سنة 1975 أى بعد مرور حوالى 15 عامًا على زواجهما، كما استسلم لويس إلى طلب سناء بعدم إنجاب أطفال كى لا تشغلها التزاماتها كأم عن فنها، وهو ما ندمت عليه سناء ندمًا شديدًا بعد فوات الأوان، وبدلاً من أن يعاتبها لويس على ذلك كان يشد من أزرها، ويؤكد أن لديهما من رصيدها الفنى ما تزيد قيمته عن غلاوة الأبناء.
فضة المعداوى
تجاوز لويس جريس بقلب المحب أى منغصات على قصة الحب التى أراد لها الاثنان الخلود فكان لهما ما أرادا، فقد وصل تفهم لويس إلى سناء حد متابعة عملها ومعايشتها فيه، فذات يوم كانا فى الإسكندرية وفوجئ لويس بزوجته دمثة الخلق ذات التعليم الفرنسى تتصرف بعدائية شديدة، وتتعامل بلغة حادة لم يعهدها طوال فترة ارتباطهما الطويلة معًا، لكنه آثر ألا يبدى أى رد فعل تجاه ذلك كى لا يخرجها من معايشة أحد أجمل أدوارها أثناء تصوير مسلسل «الراية البيضا»، فتحمل لويس من المعلمة «فضة المعداوي» فى الحقيقة ما لم يستطع جميل راتب تحمله منها أمام الكاميرا.
يشرد جريس قليلاً ليعود قائلاً: «كنت أتمنى أن أرى أقاربها.. كثيراً كانت تقول إن لها شقيقة توأم وعاشت على أمل اللقاء معها، ولكن مرت الأيام ومضى العمر بأكمله ولم يجمعها القدر بأى شخص من أقاربها». روت سناء القليل عن حياتها حتى لزوجها، حيث قالت إنها عندما انتهت مرحلة الثانوية العامة عرضت عليها صديقة والدتها وزوجها الإقامة معهما، وكان منزل هذه الأسرة يقع فى منطقة غمرة وكان هناك شخص اسمه «محمد سيد أحمد» يهوى التمثيل وشديد الشغف بالعمل فى المسرح وعندما رأى سناء جميل عرض عليها العمل فى المسرح وقدمها بشكل طيب.. ولكن كانت هناك عقبة كبيرة أمامها، وهى أن سناء جميل تتحدث باللغة الفرنسية ولا تجيد الحديث باللغة العربية الفصحى، وكانت تتغلب على هذه المشكلة عن طريق كتابة النص العربى بالحروف اللاتينية، لكن سرعان ما طورت من نفسها وأتقنت اللغة العربية.. وأتذكر أن سبب عدم دراسة سناء جميل للعربية يعود إلى أن المدارس الإفرنجية فى ذلك الوقت كانت تحرم دراسة اللغة العربية، ووقف زكى طليمات بجانبها، حيث أسند مهمة تعليمها العربية للأستاذ أحمد بدوى مدرس اللغة العربية بمعهد التمثيل لتحسين مستواها.
فيلم العمر
كانت تعيش حياة عادية، وعندما أحبت التمثيل صارحت الرجل الكبير الذى فتح لها بيته، لكنه صفعها على وجهها وقال لها اخرجى من بيتنا، مفيش عندنا مكان، فخرجت ليقف بجانبها زكى طليمات وسعيد أبوبكر، وبعد ذلك تم تعيينها فى المسرح القومى بأجر مقابل ستة جنيهات شهرياً، وراحت تمارس موهبة التمثيل وتقوم بتفصيل الملابس والمفارش حتى تستطيع مواجهة الحياة الصعبة التى لم تختر تفاصيلها بمحض إرادتها، وخرجت من بيت هذه الأسرة يوم حريق القاهرة وبالتحديد يوم 26 يناير عام 1951، كانت تشعر بالخوف مما هو قادم من رحم الغيب، وهداها تفكيرها إلى اللجوء للفنان الكبير زكى طليمات الذى وفر لها إقامة فى بيت للموظفات والطالبات المغتربات، وعندما تم تعيينها وأصبحت تمتلك دخلاً 12 جنيهاً بحثت عن شقة فى شارع عبدالعزيز للإقامة فيها وساعدتها فى ذلك الفنانة نعيمة وصفى وكانت تسكن فى نفس العمارة «حكمت أبوزيد» وهى أول وزيرة شئون اجتماعية قام جمال عبدالناصر بتعيينها بعد الثورة، وكان إيجار الشقة أربعة جنيهات. وقرار عدم إنجاب الأطفال كان خاصاً بها، كانت ترى أن الفنانة نعيمة وصفى عندما أنجبت جلست فى المنزل عشر سنوات وأنها لا تريد أن تكون مثلها، وعندما أرادت الإنجاب كان الوقت فات ومضى العمر ولم يعد هناك أمل.. والحقيقة أنها قبل الرحيل قالت لى إنها ندمانة على عدم الإنجاب ولو عاد بها العمر لأنجبت أولاداً كثيرين يعيشون معها ويؤنسون وحدتها.
وتمر السنون على رحيل العظيمة سناء جميل الآن 13 عامًا، ولا يكاد يخلو أى حديث للعاشق لويس جريس دون ذكر اسم محبوبته سناء التى يعكف الآن على كتابة قصة حياتها، تمهيدًا لتحويلها إلى مسلسل تليفزيونى يأمل الزوج المحب، ونأمل معه، أن تتبنى جهة إنتاجية تنفيذه فى القريب العاجل، كما ساهم فى إنتاج فيلم تسجيلى عن الفنانة الراحلة سناء جميل والذى تصوره حاليا المخرجة روجينا بسالى، حيث يظهر فى الفيلم النجم جميل راتب ويتحدث عن مسيرة سناء جميل الفنية والأعمال التى قدماها معا، ومنها مسلسل «الراية البيضاء» ومسرحية «الزيارة» وغيرهما.
كما يظهر فى الفيلم الإعلامى مفيد فوزى الذى يكشف الكثير من الأسرار حول حياة سناء جميل ومدى حبها للفن وعشقها له، ومن المقرر أن يتم التصوير مع النجمات سهير البابلى وسهير المرشدى وسميحة أيوب وليلى علوى ومحمود قابيل، ليتم الانتهاء من تصوير الفيلم فى شهر ديسمبر المقبل، حيث تأمل روجينا أن يخرج العمل بشكل يتناسب مع حجم وقيمة الفنانة الراحلة سناء جميل التى تعشقها على المستوى الشخصى. وفوجئت المخرجة روجينا بسالى أثناء تصوير الفيلم بأن هناك العديد من الأعمال الفنية التى قدمتها سناء جميل لكنها ليست معروفة بشكل كبير ومنها مسلسل «إصلاحية جبل الليمون» مع أحمد زكى، و«المعذبون فى الأرض» و«الامتحان»، وستظهر ضمن أحداث الفيلم الكثير من الصور النادرة لسناء جميل أهداها للعمل الناقد لويس جريس، كما أهداها لمحبوبته مجلة «صباح الخير».•