
د عزة بدر
النيل مفتاح الحياة ورمز الحماية وسر الأسرار
أجمل المشاعر، وأكثرها نبلا وعاطفية هى التى جمعت بين المواطن المصرى ونهر النيل، ولا توجد علاقة أقوى بين إنسان ونهر مثل تلك العلاقة التى ربطت بين المصريين ونيلهم منذ اللحظات الأولى للميلاد وحتى لحظة الممات مما دفع الكثيرين ممن يدرسون علاقة الإنسان بالنهر إلى القول بأن النيل ليس عصب الحياة الاقتصادية فى مصر فحسب لكنه عصب الثقافة الشعبية بل يكاد يكون المحرك الرئيسى لحركة المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية فى المجتمع المصرى.
• النيل ظاهرة ثقافية
بل إن النيل فى حياتنا ظاهرة ثقافية قبل كونه ظاهرة طبيعية بمعنى أن النيل هو الظاهرة التى يمكن عن طريق فهمها بشكل جيد على المستوى الثقافى والشعبى فيمكن فهم المجتمع المصرى والثقافة المصرية بشكل أكثر عمقا.
هشام عبدالعزيز : 2011 (فولكلور النيل)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 22 .
فالنيل كانت له صفة القداسة فقد جعله المصرى القديم فى عصر الفراعنة إلها هو الإله حابى، ومن أقدم الأساطير المصرية التى دارت أحداثها فى نهر النيل أسطورة إيزيس وأوزوريس التى تدور حول قصة وفاء إيزيس لأوزوريس فهى التى جمعت أجزاء جسده بعد أن القى إله الشر ست به فى النيل بعد أن قطعه أربعين قطعة، الأمر الذى جعل بعض الأساطير تقول إن هذه المياه الوفيرة التى يجرى بها النهر هى دموع إيزيس التى ذرفتها حزنا على مصرع أوزوريس زوجها الحبيب، وكأن إيزيس هى أيضا قد تعلمت الوفاء من النيل الذى يفى بوعده فى الفيضان بالماء فى كل عام فيسقى الأرض وينبت الزرع ويقيم الحياة (فمنذ آلاف السنين اشترك المصريون مع النهر فى صنع الحضارة فكان النهر معلمهم الأول؛ فالنيل هو الذى علم المصريين معنى الاتحاد لمواجهة الخطر أو لاغتنام الخير، علمهم معنى (الوحدة) والتماسك والتآزر، كما علمهم الزراعة التى كانت ولاتزال أهم اكتشاف فى حياة بنى الإنسان، ومن أجل الزراعة اكتشف المصريون علم الكتابة والحساب والهندسة والفلك وعلم قياس الأرض.
وفيضان النيل هو الذى علمنا أن السنة تتكون من 365 يوما وربع يوم. وأنها مقسمة ايضا إلى فصول ثابتة تتكرر كل عام.
مختار السويفى : 1996 (مصر والنيل) فى أربعة كتب عالمية، الدار المصرية اللبنانية، ص 73).
• مفتاح الحياة
وقد تحدث على باشا مبارك فى (الخطط التوفيقية) فربط بين شكل مقياس النيل وبين شكل مفتاح الحياة عند المصريين القدماء, مشيرا إلى أنهم كانوا يتيمنون به، ويجعلون منه صورا يأخذها المرضى ويجعلونها فى أعناقهم بقصد الشفاء من الأمراض, ولذا ربط على مبارك بين شكل مفتاح الحياة وشكل نهر النيل.
وكما كانت إيزيس تتجه إلى النيل لتجمع جسد أوزوريس مبتهلة أن تعود إليه الحياة، صار ذلك الارتباط بين الجسد الإنسانى والنيل، واضحا فى طقوس الميلاد والممات.
فكانت النساء يلقين بخلاص أطفالهن فى النهر يرجون بذلك طول العمر بل كان وحام بعضهن مرتبطا بأكل بعض من طين النهر !
وكان من يريد أن يطول شعره ويصبح أطول وأغزر وأجمل يلقى ما قص من خصلاته فى النهر.
وكما يحضر النيل فى مشهد الميلاد كان يحضر أيضا وبقوة فى مشهد الوفاة فكان أهل المريض الذى يحتضر يطلب جرعة أخيرة من مائه العذب.
• رمز الحماية
وبينما كانت مصادر المياه دائما محل اعتقاد بوجود الجن فيها كما أنها مصدر خوف، كان نهر النيل مصدرا للشعور بالأمن والاطمئنان, وهو ما أشار إليه صلاح الراوى عندما أشار إلى أن الجماعة الشعبية بعد هزيمة يونيو 1967 مثلا أو وقت وفاة عبدالناصر خرج الناس للشوارع، واتجهوا إلى النيل وكأنه رمز الحماية وإعادة الحياة.
وظل نهر النيل مرتكزا لمجموعة من المعتقدات الشعبية المصرية , وبخاصة فى وقت الفيضان فتوجد حكايات كثيرة عن كرامات أولياء وصالحين كانت مرتبطة بالنيل مثل كرامة السير على الماء، التى تذكر المرويات الشعبية أنها حدثت لغير واحد من الصالحين، وفى المعتقد الشعبى أيضا أن جبريل هو الذى شق بحر يوسف بخفقة من جناحه بعد أن يأس يوسف عليه السلام من شق هذا التحويل لنهر النيل.
وكان النبى يوسف قد استعان حسب الرواية الشعبية بمائة ألف رجل للحفر فحفروا ثلاث سنوات فلما جاء النيل سد جميع ما حفروه فبدأ الحفر مرة أخرى حتى مضت السنوات السبع المعروفة بسنوات الخصب، وجاءت سنوات الجدب فظهر جبريل وشق البحر اليوسفى.
• عرق الصبا
ومن المعتقدات الشعبية أيضا - التى أوردها هشام عبدالعزيز فى كتابه (فولكلور النيل)- أن نهر النيل يمنح فى لحظة للموعودين (عرق الصبا) أى قوة بدنية ليس لها مثيل حتى ولو كان الموعود ضعيف البنية أو مريضا!، ويقوم هذا المعتقد على أساس أن النيل كائن حى مثل كل الكائنات الحية يستيقظ وينام، وفى اللحظة التى ينام فيها قد ينعم الشارب من مائه بجرعة تهبه قوة بدنية ليس لها مثيل تُكتب للموعودين.
وكما شَكَّل النيل أحلام الناس وآمالهم شَكَّل خيالاتهم وحكاياتهم عنه أيضا من خلال عوالم ساحرة ومسحورة يتداولها الناس، والمرويات الشعبية ومنها حكاية (الجنّية والمسحور) حيث يظهر المسحور فى وقت الظهيرة تحديدا، وهو ما يشير إلى أن جزءا من حكايات الآباء عن (المسحور) كانت بهدف تخويف الأطفال من الاقتراب من مجرى النهر وقت (القيلولة) عندما يكون الآباء فى غفوة الظهيرة وغير منتبهين لمتابعة أطفالهم، لكن الكثيرين من كبار السن أو من التصقت حياتهم بالنهر بشكل أو بآخر وعلى وجه الخصوص الصيادين الذين يقيمون بشكل كامل فى قواربهم فى النهر، هؤلاء لا يخافون الجنيات ولا المسحورين، ولا يصدقون وجود هذه الكائنات، ويبدو أن السبب فى ذلك يرجع لكونهم يحيون بشكل كامل فى النهر أو قريبا منه.
ولا ينسى السارد الشعبى أن يحدد أولا شكل هذه الكائنات المخيفة فالجنّية امرأة والمسحور رجل، شعر كليهما طويل، وأظافرهما كذلك، وزاد بعضهم أن (شَرطة عين الجنية واسعة)، ويوجد خط بالطول على عينيها !، الجنية غرضها خطف الرجال أو النساء وإغراقهم، أما المسحور فهو عادة محكوم عليه بعمل من أعمال السحر رتبته له امرأة فى الغالب، وهو بالتالى يعيش تحت الماء.
ويبدو أن هذه المرويات الشعبية تحمل صدى من اصداء ألف ليلة وليلة وحكاياتها التى اقتربت من حكايا المجتمع النهرى فى مصر على وجه الخصوص مثل قصة (الصياد والعفريت) إحدى حكايات الف ليلة وليلة الشهيرة التى تبدأ فى الليلة الثالثة ولا تنتهى تماما إلا فى الليلة التاسعة، وهى قصة شهيرة تحكى قصة الصياد الذى عثر على قمقم ففتحه فخرج له جنى محبوس من الف وثمانمائة عام ! ولم يأت أحد ليخلصه فأقسم أن يقتل من يخرجه وهو ما تعجب منه الصياد ثم احتال على العفريت حتى أدخله مرة أخرى فى القمقم، وذهب يرميه فى البحر ثانية فرجاه العفريت ألا يفعل فأخذ عليه الصياد عهودا ومواثيق ثم أخرجه من القمقم فكافأه العفريت، وانتهت الحكاية بأن تزوج بنات الصياد ملوكا، وعاش الصياد سعيدا.
وحيث يرى الباحث هشام عبدالعزيز (أنه لا يمكن فهم علامة الجنية والمسحور من دون ربطها بالعلامة المنبع وهى النيل الذى تخرج منه الجنية، ويدخل إليه المسحور فهو مخزن الأسرار).
وأتفق معه فى ذلك، وأرى أن القصتين سواء قصة (الصياد والعفريت) - من ألف ليلة - وقصة (الجنية والمسحور) إنما تؤكدان على قيمة الحرية فالعفريت المسجون فى قمقم، والإنسان المسحور كلاهما سجين عمل من أعمال السحر هما ينشدان الحرية التى طال انتظارها فى عالم حافل بالغموض والأسرار يلعب فيه النهر الدور الرئيسى كبطل للأحداث فى مجتمع نهرى كل ما ينشده عطاء النهر، وأخوف ما يخافه هو جفاف هذا العطاء أو انحساره, وهو ما دعا ابن خلكان الذى يورد قصة عن (سحر النيل) وهى عن المعتقد الشعبى الذى يخوف من قراءة بعض التعاويذ على نهر النيل بغرض تجفيفه، وهو ما يؤكد الحرص الشديد على النهر، وضرورة حمايته كما صورها المخيال الشعبى، والقصة تقول أن أحد العلماء جلس على درج مقياس النيل يقطع عروض الشعر (موسيقاه) فسمعه رجل فقال : هذا يسحر النيل حتى ينقص فرفسه فألقاه فى النيل فغرق.
• سيرة النيل
ومن أشهر السير الشعبية سيرة الأمير سيف بن ذى يزن التى تعتبر هى سيرة النيل وكما يقول مصطفى جاد : (بل إننا نستطيع أن نقول باطمئنان إنها سيرة مصر أيضا وهو ما يتضح بجلاء من المدن المصرية الكثيرة المنتشرة فى طول السيرة وعرضها كأسماء شخصيات السيرة مثل إحدى زوجات الملك سيف نفسه وهى الملكة (الجيزة)، وكذلك ابنه (بولاق) وأمه الملكة (تكرور) ابنة الملك الشيبان، بل إن أحد أبناء الملك سيف اسمه (مصر) وهو ما يعطى للأماكن دلالة رمزية، وهو ما نجده فى استخدام السيرة لـ (كوبرى قصر النيل) حيث جعل الراوى كتاب النيل محفوظا تحت الكوبرى بعد أن وضعوا له أساسا فى الأرض يبلغ طوله أربعين مترا، ولم يستطع الإنجليز عند احتلالهم مصر العثور على هذا الكتاب إذ أن وجود كتاب النيل قد منع محاولة الإنجليز سد المياه عن المصريين, وهو تفسير حديث لما ورد فى النص المدون الذى يشير إلى أن الأحباش باستيلائهم على كتاب النيل سيحجزون مياهه عن مصر إلا أن الراوى قام بتحديث الرؤية. مبينًا استهداف كتاب النيل الحامى لمياهه من الإغارة عليه أو حرمان المصريين منه.
أما الكتاب نفسه فقد اختلفت المرويات عن مكان وجوده فكما يبين هشام عبدالعزيز فى دراسته الميدانية عن فولكلور النيل أن بعض الرواة يرون (كتاب النيل) تحت كوبرى قصر النيل، ويقول آخرون إن الكتاب تحت مقياس الروضة، فحركة السرد فى هذه السيرة الشعبية تتجه فى الأساس نحو البحث عن كتاب النيل ومحاولة الوصول إلى منابعه الأولى، فقد كانت مهمة سيف الأولى هى إحضار كتاب النيل الذى هو فى بلاد الأحباش، وتخيل الكاتب أنهم باستيلائهم على هذا الكتاب قد حجزوا النيل عن مصر فإذا ما جاء سيف بن ذى يزن واستولى على هذا الكتاب أجرى ماء النيل - ويرى الباحثون فى أحداث السيرة ردا على رسالة أرسلها ملك الأحباش عام 1325م إلى سلطان مصر المملوكى مهددا فيه بسدمجرى النيل كإجراء انتقامى ضد مصر فكانت أحداث السيرة، وقدرة سيف بن ذى يزن على الحصول على كتاب النيل بحد السيف، فالسيرة هى سيرة النيل والبحث عن منابعه وكتابه.
• حكاية هيرودوت
ولم يكن النيل بطل أحداث سيرة سيف بن ذى يزن فحسب، أو بلغ صداه حكايا ألف ليلة وليلة فقط لكنه كان أيضا حاضرا موجودا فى حكايات هيرودوت عن مصر الذى أطلق مقولته الشهيرة (مصر هبة النيل) ففى كتابه الأثرى المهم فى دراسة تاريخ مصر من الأسرة السادسة والعشرين إلى القرن الخامس ق. م - الذى نقله عن اليونانية وهيب كامل - يتناول هيرودوت جزءا غامضا من مأساة هيلين التى كانت سببا فى إشعال الحروب الطروادية (1192-1183 ق.م)، وقصة حبها لباريس الذى خطفها من اسبرطة مدينتها، ومن زوجها مينيلاوس.
وهذا الجزء الغامض لم يرد فى ملحمة (هوميروس) وهو أن هيلين وباريس قد وصلا إلى مصر، حينما كانا فى بحر إيجه وطوحت بهما رياح جارفة إلى البحر المصرى وحيث إن الرياح لم تسكن فقد وصلا إلى شاطئ مصر ومنه إلى ما يسمى الآن بفرع النيل الكانوبى والملاحات، وعندما وصل خدم باريس إلى معبد (هرقل) فوق الشاطئ تخلوا عنه وجثوا ضارعين، ورووا للكهنة فى مصر ما حدث من أمر هيلين والجرم الذى اقترفته (باريس) فى حق زوجها فأرسل الكهنة هيلين وباريس وخدمهما إلى الملك المصرى (بروتيوس) الذى وقف موقفا حاسما من باريس فلم يدعه يأخذ هيلين ولا أموال زوجها قائلا : (لن أدعك تأخذ هذه المرأة والأموال بل سأحتفظ بهما لزوجها مينيلاوس إلى أن يأتى لاستردادها وأمره بمغادرة البلاد هو ورفاقه.
ولم ترد هذه القصة فى (إلياذة) هوميروس، على الرغم من علم هوميروس برحلة باريس وهيلين إلى مصر.
(هيرودوت : 2013 (هيرودوت فى مصر - القرن الخامس قبل الميلاد)، ت. وهيب كامل - دار المعارف ص85-ص 90.
ويحكى هيرودوت نقلا عما سمعه فى رحلته إلى مصر من الكهنة المصريين بأن زوج هيلين قد أبحر إلى منف واسترد زوجته وأمواله دون أن يمسهما ضُر لكنه ارتكب أمرا مسيئا فطورد حتى استقل مركبا وهرب إلى ليبيا.
وهكذا كان للنيل حضور واضح فى تطور أحداث قصة (هيلين وباريس) عندما وصلا إلى شاطئيه فلم يستطع خدمهما إلا الاعتراف بالحقيقة فى معبد (هرقل)، والمثول بين يدى ملك مصر (بروتيوس) الذى ورد ذكره فى أوديسية هوميروس باعتباره أحد آلهة البحر القابع عند الشاطئ المصرى، وعندما مثلا بين يديه أقام العدل فرد الزوجة والأموال إلى الزوج.
وهنا تصبح مرويات حسب هيرودوت دليلا آخر على حضور النيل وشاطئيه كقيم من شأنها البحث عن الحقيقة وإقرارها، وتبجيل القيم الأخلاقية (حماية الأعراض والأموال).
• مرويات وأمثال وتفسيرات اجتماعية
وتقدم لنا المرويات والأمثال التى تتصل بالنيل سواء بشكل مباشر أو غير مباشر تفسيرات لبعض الآراء الاجتماعية أو التعبيرات الشعبية التى يتداولها المصريون وهى تدل فيما تدل على علاقة الإنسان بالنهر, تلك العلاقة العميقة الممتدة المؤثرة فى حياة الناس، ومن أشهر الأمثال: «إن كان لقلعك ريح انفضه» وقد فسره أحمد تيمور فى معجم الأمثال العامية بقوله «أى أنت أبصر بمصلحتك، وأعرف بأمورك فإن صادفت ريحا تسير سفينتك فانشر قلعك لها وافعل ما فيه مصلحتك».
بينما يراه البعض دعوة للتحدى فقائله يريد التأكيد على أن الخصم لن يستطيع بكل ما أوتى من قوة أن يفعل شيئا، وهنا اختلفت دلالة المثل بشكل كلى.
وهناك المثل القائل: «إن كان لك دفة خش وادفي»، وهو مثل مرتبط بعادة من عادات المصريين أثناء فيضان النيل فهم يلجأون إلى المركب كوسيلة المواصلات الوحيدة بين القرى الغارقة فى الماء، وكانت المراكب الصغيرة وسيلة مواصلات ووسيلة للتزاور الاجتماعى فمن لديه مركب فلا خوف عليه، فالمركب بالدفة سيمكنه من العودة إلى منزله».
وربما ينسحب هذا فى تفسيرى على امتلاك ناصية الأمر «مستلزمات الرحلة أو إمكانيات المغامرة أو القدرة على التصرف فى الأزمات» وكلها معانٍ قد تفهم من هذا المثل السائد.
وهناك أيضا المثل المشهور المرتبط بفيضان النيل والقائل «إن جاك النيل طوفان خد ابنك تحت رجليك»، وشرحه أحمد تيمور بأنه يضرب للمبالغة فى حب المرء لنفسه ويروى أيضا: «إن جاك الهم طوفان حط ولدك تحت رجليك» أى اطرحه واهتم بنفسك.
لكن «الباحث هشام عبدالعزيز يقدم تفسيرا جديدا لهذا المثل فيقول: «لقد كان النيل يأتى أحيانا بشكل مفاجئ حيث يزيد زيادته كلها بين ليلة وضحاها، وقتها يكون على الفلاح المصرى أن ينجز عمله من تجهيز الأرض وحرثها، وبذر البذور استعداداًَ للماء الآتى طوفانا فليس هناك أى متسع من الوقت لأى شيء سوى إنجاز العمل، ووقتها أيضا لا يوجد من يستطيع مساعدة الغير فى تجهيز أرضه فليس أمام الفلاح إلا الاستعانة بولده «خد ابنك» مهما صغرت سنه فلو كان الابن كبيرا لكان كتفا بكتف ولكنه إذا كان صغيرا، فلا بد أن يكون تحت الرجلين».
ويتشابه هذا المعنى من كون النيل عندما يفيض يحتاج للعمل قبل كل شيء مع المثل القائل:
«سلامتك يا دماغي»، حيث يحكى أن صيادا كان يعيش فى قاربه مع زوجته وأولاده فعلا الماء فجأة فقذف بالرجل وقاربه وأهل بيته إلى وسط النيل وغرق القارب بالأسرة، وصارع الصياد الأمواج فنجا، فقال: «سلامتك يا راسي» ولامه البعض، لكنه تزوج وأنجب ثانية وقال لعاذليه ولوامه: هذا هو معنى سلامتك يا راسي!
وهنا نرى أن الرجل فقد كل شيء إلا رأسه ونفسه فكان ممكنا فى رأى المخيلة الشعبية أن يستعيد كل شيء، حيث لا يحتاج النيل فى الحقيقة غير إنسان قادر على العمل والتفكير، وقتها يمكن تدبير كل شيء لأن الخير من النيل والقدرة فى الإنسان والتوفيق من الله والرزق تساهيل.
هشام عبدالعزيز: «فولكلور النيل»، ص ـ166.. ومن هنا نستطيع القول أن القيم الإيجابية متمثلة فى العطاء والوفاء، وامتلاك ناصية القدرة هى التى تمكن ابن النيل من تحقيق آماله فهو الممسك بالدفة، النافض قلعه فى الريح، الآمل فى عرق الصبا، الموعودة بقوة بدنية وروحية لا مثيل لها إذا شرب جرعة من ماء النيل فى لحظة سباته، فالنيل هو مفتاح الحياة، ورمز الحماية، وسر الأسرار، وهو التجدد الذى لا يجعل ساعة على شاطئيه تشبه ساعة، ولا ليل يشبه ليلاً، ويكفى أن تسمى نفسك «ابن النيل» لتفتح لك الحياة ذراعيها كما يقول محمود درويش الشاعر الفلسطينى فى قصيدته «فى مصر»:
«فى مصر، لا تتشابه الساعات/ كل دقيقة ذكرى تجددها طيور النيل/ كنت هناك، كان الكائن البشرى يبتكر/ الإله/ الشمس، لا أحد يسمى نفسه/ أحدا، «أنا ابن النيل- هذا الاسم يكفيني» ومنذ اللحظة الأولى تسمى. نفسك «ابن النيل» كى تتجنب العدم/ الثقيل». •