الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
هى برضه «القهوة»!

هى برضه «القهوة»!

سليم البدري، سليمان غانم، نازك السلحدار، النجوم التاريخيون الثلاثة لخماسية ليالى الحلمية، الكل يذكرهم ويشاهد إعادة المسلسل من أجلهم، لكنهم ليسوا بمفردهم أصحاب هذا المسلسل، شخصيات رئيسية أخرى صنعت تاريخها فى ليالى أسامة أنور عكاشة، أبرزها بعد الثلاثة الكبار، زينهم السماحي، ليس فقط لطبيعة الشخصية المتفردة، وإنما للموقع الذى كان يحتله فى الأحداث، للمكان الذى كان شاهدا على كل ما يجرى فى المسلسل..للقهوة، المكان الذى يجمع المصريين من كل فئة وطبقة على الارتباط به، هل وجدت مصريا أيا كان لم يجلس ولو لساعة واحدة على قهوة، هل سمعت عن زائر عربى أو أجنبى لم يطلب الجلوس ولم يسأل عن قهاوى مصر الأشهر كى يشرب على مقاعدها كوبا من الشاي؟ فى كل مرحلة زمنية يظهر الجديد ليزيح القديم، فى السيارات، فى أنواع الأجهزة الكهربائية، المبانى والعقارات، المنتجات الفنية والتكنولوجية، لكن تظل هناك ملامح مصرية لا يمكن الاقتراب منها، مطاعم الفول والطعمية والكشرى لم تتأثر بسلاسل مطاعم الوجبات الحديثة، قهاوى وسط البلد والحسين وباقى أحياء القاهرة والمدن الكبري، لم تتراجع أمام سلاسل «الكوفى شوب» ليس فقط لأن أسعارها 10 أضعاف أسعار القهاوى فهناك مقاهٍ رفعت أيضا من أسعارها وبات الحصول على كوب شاى بأقل من 2 جنيه معجزة حقيقية، لكن لأن الأجواء فى القهوة التى هى غالبا محل صغير والباقى على الرصيف، الأجواء فى القهوة من الصعب نسخها، الحرية فى الجلوس والتنقل بالكرسى من طاولة لأخري، أن تدفع الحساب للقهوجى دون انتظار حساب ضريبة الخدمة والمبيعات، أن ترفع صوتك إذا أردت، أن تشاهد المباريات المشفرة، والأهم أن تدخن كل أنواع الشيشة، من قص إلى سلوم إلى تفاح وكريز وعنب وكل الفواكه التى تختار، لا شيشة فى الكوفى شوب الفاخرة، لا حياة حقيقية إلا على القهوة. • وعندك واحد شاى وصلحهسهولة الوصول للمقاهي، أسعارها المناسبة للجميع، العشرة التى تتولد مع العمال فيها، الذين يمكن أن تحفظ أسماءهم دون name tag عمال يعاملون الزبائن بلطف لأن ده أكل عيش لا، لأن قواعد المكان المستورد من الخارج تفرض عليهم ذلك، يحفظون طلبات الزبون الدائم دون أن يكرر الحاجة لذكرها أمامهم، كل ذلك جعل القهاوى فى مصر تصمد أمام أى متغيرات، وجعلها تتحول لما يشبه النقابات غير الرسمية، سواء للذين لديهم نقابات بالفعل، أو الذين لم يحلموا يوما بتدشين نقابة لكنهم وجدوا قهوة تجمعهم فى مكان واحد، أسباب أخرى لشهرة القهاوى تتعلق بالمثقفين، فعندما يختار أديب بحجم نجيب محفوظ أن يلتقى مريديه على القهوة فطبيعى أن تدخل «ريش التاريخ»، والآن لم تعد ريش كما كانت لأنها تحولت لمطعم له شروط وضوابط، وذهب البريق إلى «زهرة البستان» التى تقع على بعد أمتار منها، إذن القاعدة هي، افتح القهوة للبشر دون قيود، سيجعلوها دائما عامرة بهم. • عناب للمزمازيل!!بعيدا عن الجدل حول تعريف المثقف، يمكن القول إن كثيرًا من قهاوى وسط البلد حصلت على شهرتها لأن مجموعة من العاملين فى المجال الثقافى والمنشغلين بالرواية والشعر وغيرها من صنوف الأدب اتخذوها مقرا لهم، على رأسها بالطبع فى زمن ولى «ريش» وإلى جوارها زهرة البستان، التى تتسع مساحتها يوما بعد الآخر، وباتت هى المركز الرئيسى حاليا للمثقفين بوسط البلد ومن أبرز روادها، الروائيون إبراهيم عبد المجيد، مكاوى سعيد، وحيد الطويلة، والمطرب أحمد إسماعيل وغيرهم الكثير، حتى أن المثقفين العرب خصوصا الشبا ب منهم يقصدونها فور وصولهم للقاهرة بدون حتى مواعيد مسبقة لأنهم يعرفون أن كبار مثقفى مصر يستقرون هناك، كما ساهم قرب القهوة من ميدان التحرير فى اعتبارها شاهدا على الكثير من الأحداث الساخنة خلال السنوات الثلاث الأخيرة خصوصا أن قهاوى الميدان نفسها اضطرتها الظروف لإغلاق أبوابها معظم الأوقات، بالقرب من زهرة البستان توجد قهاوى شارع البورصة، المشهورة بكراسيها الصفراء والحمراء، سلسلة متصلة من القهاوى التى لا يعرف المار بسهولة من فين لفين حدود كل قهوة، ومعظم قاصدى هذه الأماكن من الشباب الراغبين فى تمضية الوقت بمنطقة وسط البلد بدون أهداف ثقافية أو سياسية، وبالتحرك صوب شارع شامبليون تظهر التكعيبة، أطول قهوة فى مصر من ناحية التخطيط الهندسي، فهى عبارة عن محل صغير جدا فى شارع ضيق للغاية، بالتالى يجلس الزبائن على خط مستطيل لا دوائر ومربعات كما هى العادة فى القهاوى التى تطل على شارع متسع، ورغم ذلك تعد من أكثر القهاوى جذبا لشباب المثقفين واليساريين، خصوصا أنها قريبة من مسرح روابط وجاليرى تاون هاوس، أما خلف سينما أوديون فهناك العديد من القهاوى أبرزها «غزال» وهى مسماة على اسم مدير القهوة الذى يقوم بنفسه بخدمة الزبائن، أما الاسم الأصلى للقهوة فلا يعرفه أحد، وتتميز هذه القهوة بأنها تقع فى شارع مرصوف بالبلاط ولا تدخله السيارات ومليء بمحلات قطع الغيار، أبرزها المحل المملوك للفنان سيد صادق، بالتالى بعد التاسعة مساء تغلق هذه المحلات ويستحوذ الزبائن على المساحة كلها، وتعد غزال هى نقطة التقاء رسامى الكاريكاتير فى مصر، بداية من الفرنسى الشهير جولو، وصولا لهانى شمس وعبد الله أحمد ومخلوف ومحمد أنور والسينارست والكاتب الساخر محمد صلاح العزب، وإلى باب اللوق حيث ثلاثية «الحرية» و«سوق الحميدية» و«الندوة الثقافية» ثلاث مقاهٍ تقع فى مربع واحد، وتشهد صالونات ثقافية وحفلات غناء غير رسمية طبعا كأن يجلس المطرب يغنى لأصحابه ولرواد القهوة دون إعلان مسبق، وكانت صالون الأديب علاء الأسوانى قد بدأ من «الندوة الثقافية» مما ساهم فى زيادة نسبة الإقبال عليها ومعرفة أجيال جديدة من القراء بأهمية القهاوى فى دوران الحركة الثقافية.• واحد كشرى وواحد تفاحبجانب قهاوى المثقفين، تبرز قهاوى الحرف، التى تجمع أصحاب المهنة الواحدة، وبالطبع لا يتم تأسيس القهوة من أجل أن يلتقى عليها أهل الحرفة، لكن ما يحدث أن موقعها يكون مناسبا لمجموعة منهم فيلتقون عليها مرة تلو مرة ويتوافد عليهم زملاؤهم فتأخذ القهوة اسم أصحاب الحرفة وينسى الناس وربما صاحبها نفسه اسمها الأصلي، مثل قهوة الطباخين والسفرجية القريبة من قصر عابدين، التى تعانى حاليا من رحيل الجيل الأول للطباخين وتراجع عددهم بعد تراجع استعانة القصور بهم والاكتفاء بطلب الولائم من المطاعم الكبرى حيث «الشيفات» على الطريقة الحديثة، وللحلاقين قهوة أيضاً يتقابلون عليها كل يوم اثنين فقط، وهو يوم الراحة الأسبوعية بالنسبة لهم. وتقع القهوة فى شارع نجيب الريحانى فى وسط البلد قرب متاجر مستلزمات أدوات الحلاقة، ويتجمع العاملون فى المهنة من أنحاء القاهرة ، ولهم شيخ هو فتحى أبو السعود حيث ورث المهنة عن الجد والوالد. ويرجع تاريخها إلى عام 1939 ومنذ هذا التاريخ وهى معروفة بقهوة الحلاقين، لكن المقصود بالحلاقين هنا القريبون من وسط البلد والعباسية والعتبة وغيرها، أما الأجيال التى دخلت المهنة مؤخرا من باب «الكوافير» فليست بحاجة للجلوس إلى شيوخها وتعلم الخبرة منهم، وفى شارع محمد على تكثر القهاوى التى يجلس عليها العازفون أو «الآلاتية» وأبرزها قهوة «نادى المشير» وقهوة «حلاوتهم»، وفى الشارع نفسه تقع قهوة «المنجدين» وأيضا «التجار» التى يزيد عمرها على 125 سنة، والتى كانت تجمع التجار الذين ينزلون للقاهرة لجلب بضاعة جديدة يعودون بها إلى الأقاليم مرة أخري، فيما تقع قهوة «القهوجية» فى العتبة، حيث كان يظن البعض أن القهوجية أنفسهم ليس لهم مكان يلتقون به، لكن طباخ السم لازم يدوقه، بينما تظل القهوة المهنية الأشهر على الإطلاق هى قهوة «بعرة» التى يلتقى عليها الكومبارس وممثلو الأدوار الثانوية.• اتنين مانو واتنين فى الخمسينةولا تنفرد المهنة فقط بالاستحواذ على القهاوى، فهناك فئات ومجموعات من الناس قد يربطهم ما هو أهم من المهنة فيحتاجون إلى مكان يتقابلون عليه تحت شعار «يلا نكمل لمتنا»، من أبرز هذه المجموعات، الخرس الذين يتخذون من قهوة بالتوفيقية مقرا لهم، القهوة التى يمكن وصفها بأنها أهدأ قهوة فى مصر والأقل من حيث إنتاج الضجيج، كذلك قهوة أهل النوبة فى عابدين التى يلتقى عليها أصحاب البشرة السمراء، فيما تظل القهوة الأشهر فى مصر كلها، هى الفيشاوى قبلة الزائرين لسيدنا الحسين.•قاهرة القهاوىفى كتابه الشهير «ملامح القاهرة فى ألف سنة»، لم يحدد الكاتب الكبير جمال الغيطانى تاريخ ظهور «القهاوى» فى المحروسة لأنها وجدت منذ قرر المصريون التجمع والالتقاء بعيدًا عن منازلهم، لكن اسم «قهوة» هو الذى ظهر عام 950 هجرية بعد دخول مشروب القهوة إلى مصر واستطياب المصريين له فقرر أصحاب المحلات التى يلتقى عليها الناس تقديمها لهم فبات الجلوس هناك لشرب القهوة سببًا لتسمية المكان بنفس الاسم، ويروى الغيطانى عن كتاب وصف مصر الذى أعدته الحملة الفرنسية وكان فيه جزء من القهاوى فى زمن الحملة وجاء فيه: «تضم مدينة القاهرة حوالى 1200 قهوة بخلاف قهاوى مصر القديمة وبولاق، حيث تضم مصر القديمة 50 مقهي، أما بولاق فيبلغ تعداد مقاهيها المائة»، وليست لهذه المبانى أية علاقة بالمبانى التى لها نفس الاسم فى فرنسا إلا من حيث استهلاك البن على الرغم من أن هذا المشروب يعد ويشرب بطريقة مختلفة، فليس فى هذه المبانى أثاثات على الإطلاق، وليس ثمة مرايا أو ديكورات داخلية أو خارجية فقط ثمة منصات «دكك» خشبية تشكل نوعًا من المقاعد الدائرية بطول جدران المبني، وكذلك بعض الحصر من سعف النخيل، أو أبطنة خشنة الذوق فى القهاوى الأكثر فخامة بالإضافة إلى بنك خشبى عادى بالغ البساطة.•