سبع جنات الحلقة 9
منير مطاوع وريشة هبة المعداوي
«15»
«سلطــان»
«راجية راجي».
لم أقابل فى حياتى، على كثرة من عرفت وقابلت من نساء، من هى مثل هذه الكاتبة الصحفية المتميّزة بالشجاعة والثقافة والمبادرة والجسارة.
أعرفها جيدا، وأعرف أنها أنثى كاملة الأنوثة.
لو كنت قارئا لكتاباتها ومواقفها، وجرأتها، وقدرتها العالية على اقتحام القضايا الشائكة، والمناطق المسكوت عنها، والمحظورة، ولم تتنبه لاسمها وصورتها، لفكّرت أنها رجل يكتب بشجاعة.
هى أصغر منى بأكثر قليلا من عشر سنوات، لكن تفكيرها ودراستها وثقافتها، وحبّها للمعرفة والاطلاع، وخبرتها المباشرة بالحياة والناس، تجعلنى لا أشعر بفارق السن هذا.
حاولت فى بداية تعارفنا أن أختبر معدنها.. ووجدتها من النوع المتين الذى لايلين.
لو فكّرت فى الزواج فهى الأفضل.
لكنّها مثلى، لا تريد أن تتزوّج!
ومشكلتها معى هى أنها لا تعترف بالحبّ.. وتقول إنها لا تعرف تماما، ما هو؟!
وتعيش الحياة بمنطق التحدّى، وهذا يجعلها فى حال يقظة ومتابعة وحيوية.. وقوّة.
ونظرتها للرجل تقوم على النديّة والمنافسة، والتحدّى.
وعندما اقتربنا من بعضنا البعض وجدتها متقدمة جدا فى فهمها للعلاقة بين الرجل والمرأة.. تراها رغبة مشتركة ومتساوية، وترفضها لو كانت علاقة يتفوّق فيها الرجل.. أو تكون فيها المرأة مجرد فريسة.
وذات مرة كشفت لى عن أنها لا تمانع أن تكون للمرأة سيادة بدرجة ما على الرجل!
وتفسيرها لهذا هو أنه يحقق نوعا من التوازن والتعويض عن ديكتاتورية الرجل التى مارسها على المرأة عبر العصور!
تناقشنا كثيرا واختلفنا كثيرا واتفقنا قليلا.. لكن بقيت «راجية» المرأة المفضلة عندى.
ولا أعرف لماذا تصر على تصوّر أنها سبب ما جرى لى.
هل هى رغبة مكبوتة لديها فى أن تكون الفاعل المحرّك للأحداث، حتى لو كانت مصائب، مثل الغيبوبة التى أنا فيها الآن؟!
أم هو الإحساس الزائد بالذات؟
وربما يكون ميلا غامضا للوم الذات؟..
لا أدرى، فهذه مسائل تحتاج إلى طبيب نفسى، لا رسّام.
ويعجبنى فى «راجية» أيضا أنها لم تطلب منى أبدا الزواج.. ولم تفاتحنى فيه.. مع أننا عشنا فترات كما لو كنا زوجين بالفعل. كانت تعيش معى 24 ساعة.. فى المجلة، وفى نقابة الصحفيين، وفى المعارض والمتاحف والأحياء الشعبية وحتى فى الواحات والبحيرات.. كانت معى.
مرّات بحجة رحلات العمل المشتركة والريبورتاجات التى تكتبها هى وأرسمها أنا. ومرّات للنزهة والتسلية والثقافة والمتعة.. والصحبة.
وكانت إنسانة مريحة وناضجة وقديرة.. لو تناسينا جدلها وإصرارها على موضوع قوّة المرأة، وتحدّيها للرجل.
وكأنثى، هى باهرة، وزاخرة وساحرة.. تستمتع باللقاء، وتعطى، وتؤديه كعبادة.. بتبتـّل. وتقديس. وتسام.. وإقبال.. وحرارة.
لكنها كانت تعتبر ارتباطها بيّ نوعا من التحدّى والمنافسة لمن تعرف أن لهن علاقة بى..
تعرف عن «جنّات» و.. «ماشالله».. و«لحظة».. و«هدي».
ولا أعرف إن كانت تعرف عن «سماء».. أم لا.
ومع ذلك خاضت تجربتها معى.. لم تقل لى إنها تتحدّى أحدا. ولم تذكر أى واحدة منهن.. وكانت تتعمّد تجاهل وجودهن، وحتى لو ذكرت أنا إحداهن لسبب أو آخر، كانت تعامل الأمر كما لو كان لوحة.. أو شغلا من أشغالى الخاصة التى لا تتدخّل هى فيها.
وكان هذا يثير عجبى قبل إعجابى بـ«راجية».
ولما جاءت معى يوم موضوع «العتبة» حاولت أن أستكشف حدودها، فوجدتها محددة تماما، لم تسمح لى بأكثر من القبلات واللمسات.. وعندما وضعتها موضع الموديل لأرسمها - كما طلبت - عرّيتها، فاستجابت.. ولم تعترض أو حتى تتمّنع.. ولما بدأت أنا أتعرّى، قفزت وجرت.. هربت.
وفهمت أنها لا تنساق وراء رغباتها. وأنها عاقلة، ومسيطرة على نفسها.
واحترمت ذلك جدا.
والحقيقة أن سلوكها هذا جعلنى أتلهّف عليها، وأتشوّق إليها، ومع أننى رسمتها، بعد ذلك، عارية تماما. إلا أنها لم تمكّننى من أكثر من القبلات واللمسات.
قالت لى إنها لا تحبّنى، وتعرف أننى لا أحبّها، وهى لا تحبّ أن تمارس العلاقة الحميمية مع شخص لا يحبّها ولا تحبّه.
ومع أنها قالت لى مرات كثيرة أنها لا تعرف ما هو الحبّ، ولم تعش خبرة أو تجربة حبّ. فقد أكدّت لى أنها يوم ترغب فيّ سوف تأتى، وتغتصبني!
وزادنى كلامها ومفاهيمها العجيبة هذه تعطشا إليها.. ووجدت نفسى أتلهّف على لقائها وأتوسّل إليها أن تمنحنى نفسها، وأعرض عليها نفسى بسعادة.. وهيام وتضرّع.
وكان هذا يزيدها تدللا وتمنّعا.
إلى أن فاجأتنى يوما بزيارة غير متفق عليها، وكان ما كان.
«16»
«سمــــاء»
قطعت «جنّات» حديثى فى زيارتى الأولى، بدخولها غرفتك هنا..
وهذه المرة أنا متأكدة من أنها لن تكون هنا قبل ساعتين.. وهذه فرصتى لأكمل حديثى معك.. هل أنت معى يا «سلطان» الآن؟
عموما.. ما كنت أريد أن أقوله هو أننى ُطلّقت من صديقك وصديق أخى.. المهندس «يوسف السحلاوي».. الخائن.
أنت تعرف أننى تزوّجت منه قبل خمس سنوات. ولا تسألنى لماذا؟.. ستقول إنه خائن، لك ولـ«سمير».. ورفاقكما، وإنه سبب اعتقالكم وتعطيل دراستكم.
أتفق معكما فى هذا تماما الآن.
قبل ذلك لم أكن أوافقكما.. صدّقته وشعرت بأنه إنسان طبيعى، يخاف، ولا يكابر..
أقنعنى بأن تصرّفه كان سليما وتلقائيا..
قال لى إنكم كنتم جميعا- وهو معكم - فى حال هياج سياسى عاطفى، بعد سنة على الهزيمة، وشاركتم فى المظاهرات، وخيّل لكم أن ما ستقدمون عليه، سيترتّب عليه وقوع ثورة شعبية ضد «جمال عبدالناصر»..
وجاراكم هو فترة - كما روى لى - لكنّه فى اللحظة الأخيرة، انتبه إلى أن وهما كبيرا كان يغلّف عملكم، بغلالة ضبابية أفقدتكم القدرة على الرؤية الصحيحة.
قال لى إن وطنيته وحبه للثورة، ردّته عن فكرة مشاركتكم مشروعكم مع أنه لا يشك فى وطنيتكم.
لكنّه خاف على نفسه وعليكم، وفكّر أنه لو انسحب دون أن يبلغكم بشيء، فربما اعتبرتموه خائنا أو جبانا.. ولو جاراكم، فربما كشف عضو آخر منكم كل شيء لأجهزة الأمن.. فيضيع مستقبله!
صدّقته.. وأقنعت أهلى به.. وحتى أخى «سمير» الذى روى لى قصة اعتقالكم، كان يستمع لكل ما قاله، دون مناقشة، وحاول أن يتجاهل وجوده، وترك لى الأمر بعد أن ناقشنى على انفراد، ودحض كل ما قاله «يوسف السحلاوي».
قالت لى أمى وقتها:
- يا بنتى إذا كان ده الراجل اللى انت مطمئنة على مستقبلك معاه، خلاص إنسى كل الكلام ضده.. وصدّقيه هو.
كنت أعرف»يوسف السحلاوى « الطالب بقسم العمارة، من أيام زياراتى لكلية الفنون الجميلة، للقائك ولقاء «سمير».. تعرّفت على كثيرين، ومنهم زميلكم «يوسف».. وكانت له اهتمامات مختلفة.
ومع الوقت انقطعت صلتى به، إلى أن التقينا مصادفة، تذكّرنى هو وذكّرنى بنفسه، وتكرّرت مرّات اللقاء.. وطلب أن يتزوّجنى.
كنت بعدما فشلت فى الفوز بك، قد قرّرت أن أقطع علاقتى بك، وأنسى موضوع الحبّ والزواج لفترة.. ربما أيضا بعد الدراسة التى استغرقت سنوات، وخوفى من أن يتكرّر ما حدث بيننا، مع شخص آخر.
.. وجاء «يوسف» فى وقت هدأت فيه، قليلا، عصبيتى واضطرابى وتوتّرى.
قلت لنفسى إن هذه هى فرصتى الوحيدة فى البقية الباقية من العمر.. للزواج، فإما أن أقبلها، وإما أن أقول على الزواج السلام.
سمعت كلام أمى.. ولم أسمع كلام أخى «سمير».. وتزوّجت الرجل الذى خانكما.
وكان ذلك أغبى قرار اتخذته فى حياتى كلها، مع أننى كنت قد أصبحت أستاذة علم النفس التربوى بكلية آداب عين شمس.
أستاذة علم النفس التربوى، ناقصة تربية!
فالتربية ليست آدابا وأخلاقا، وحسن سير وسلوك يا «سلطان»..
التربية الصحيحة وعى، إدراك، ضمير.. منهج فكرى إنسانى، نشأة سويّة، بيئة سليمة، قيم ومبادئ ثابتة ورفيعة ومحترمة.. مقدسة.
وطلعت أنا الدكتورة «سماء نور» لا سما ولا نور.. ولا حاجة!
شفت خيبتى دى على حدّ قبل كده؟..
وافقت على الزواج من رجل أعرف أنه خائن.
وبرّر لى خيانته، لأنه كان بحاجة إلى امرأة، وفعلت أنا الشيء نفسه.. كنت بحاجة إلى رجل، فماذا كانت النتيجة؟.. خيانة طبعا.
لو كنت فكّرت بعقل ولو للحظة، لوصلت لهذه النتيجة المنطقية، فى لحظة.
.. وسقطت «سماء» أرضا..
أعترف لك الآن يا «سلطان» أننى خسرتك، فشلت فى الفوز بك.. فشلت فى الحفاظ عليك.. فشلت فى إقناعك بأفضليتى، وفشلت فى فهم ظروفك وتقديرها، صادرت عليها وأصدرت أحكاما تعسّفية تضمّنتها رسالتى الغبيّة للدكتوراه.
هل من حق صاحب الرسالة الجامعية أن يسحبها ويتراجع عنها، ويعدّ رسالة مناقضة لما وصلت إليه؟
أنا أشعر أننى لا أستحق أن أحمل لقب «الدكتورة»..
فهل يمكننى التنازل عنه؟..
حكايتى مع «يوسف» علّمتنى أكثر مما حصّلته فى كل مراحل تعليمى، حتى الدكتوراه.
خدعنى، ولا أعرف لماذا أنا؟.. ربما لأننى كنت أبعد امرأة، يعرفها، عن عالمه الذى لا أعرفه.. ربما لأن النساء اللاتى يعرفنه، يرفضنه، وهذا سرّ تأخره فى الزواج.
لماذا لم أسأله، وأسأل نفسى، وقتها هذا السؤال؟.•
ملخص ما نشر
«سلطان» يروى حكايته مع زميل العمر «سمير نور»: من 1964 وأنا وأنت اخوات لانفترق فى المدرسة، فى الكلية، فى المجلة، وحتى فى المعتقل!
ونتعرف على اللحظة التى شهدت وقوع «سلطان» فى الغيبوبة لضيقه بأحوال البلد.. الدمار والفساد والعشوائية.
ويتخاطر مع «سمير»: لاتبك.. لاشىء يستحق البكاء عليه، وحال مصر سينصلح يوما ما بنا أو بغيرنا.
وتظهر «راجية» زميلة «سلطان» التى ترى أنها سبب غيبوبته، تحدثه عن علاقتهما وتحديها له ثم انجذابها إليه: لم أكن أحبك، ولا أعرف ما هو الحب، لكن ربما جذبنى إليك عامل خفى هو أن لك أكثر من امرأة!
