آل هيرشفيلد وبهجورى
«عَرّابين» الخط الواحد
تامر يوسف
لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.
طيلة هذه السنين كان اهتمامى منصبًا على وضع الخط المناسب فى المكان المناسب.. لكنى ما زلت مسحورًا من الخط غير المحسوب عندما يغير ويصف ما لا يمكن تفسيره.

هكذا وصف فناننا التاريخى للحالة التى يعمل من خلالها ليبدع عبر مسيرته مع فن الكاريكاتير، وبالأخص فن البورتريه الكاريكاتورى.
إنه ألبرت هيرشفيلد المولود فى يونيو 1903- وهو رسام الكاريكاتير الأمريكى الشهير الذى اشتهر برسم لوحات كاريكاتورية لنجوم ومشاهير.
وتميزت لوحاته ذات اللونين الأبيض والأسود بسخريتها اللاذعة.
ولد آل هيرشفيلد بسانت لويس بولاية ميسورى ثم انتقل للعيش بمدينة نيويورك بصحبة عائلته.
تدرب فى معهد طلاب الفن بنيويورك. وفى عام 1943 تزوج من الممثلة الألمانية - دوللى هاس، وفى عام 1945 رزقا بابنتهما الوحيدة نينا.
إلا أنه تزوج مرة أخرى من لويز كيرز عام 1996 وهى مؤرخة فى مجال المسرح.

تنقل ما بين باريس ولندن. حيث درس الرسم والتصوير الزيتى والنحت.
وعند عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عرض صديق له أحد أعماله على محرر بصحيفة هيرالد تريبيون النيويوركية. وبدوره تحمس له واستعان بأعماله بـ«جريدتى هيرالد تريبيون ونيويورك تايمز» الواسعتى الانتشار.
آل هيرشفيلد كان له أسلوب فريد فى الرسم.
وهو ما كان يميزه عن عن أى رسام آخر.
حيث تميزت خطوطه بالمرونة والرشاقة والسلاسة والبساطة الشديدة. رغم كونها لم تخرج عن الحبر الأسود على الورق الأبيض، مع القليل من التظليل مستعينًا بالتهشير.

ولذلك لقِّب بملك الخط.
رسوم هيرشفيلد من أبرز الإبداعات فى مجال الفن الحديث، حيث ساهمت بشكل كبير فى تطوير لغة الفن البصرية من خلال فن الكاريكاتير فى القرن العشرين.
ظهرت أعمال هيرشفيلد فى معظم المطبوعات الرئيسية على مدى تسعة عقود - بما فى ذلك علاقته التى استمرت 75 عامًا مع صحيفة نيويورك تايمز - الأكثر توزيعًا على مستوى العالم - بالإضافة إلى العديد من أغلفة الكتب، والأقراص المدمجة المسموعة، وخمسة عشر طابع بريد.
يعتبر آل هيرشفيلد وبحق من أهم رسامى الكاريكاتير المعاصرين. وتأثر به عدد كبير من رسامى الكاريكاتير حول العالم. وهو ما أهله لأن يحصل على لقب رمز ثقافى حى من لجنة الآثار بمدينة نيويورك عام 1996.
منحته مكتبة الكونجرس الأمريكى لقب أيقونة ثقافية عام 2000. كما حصل على الميدالية الوطنية للفنون. ويذكر أنه كان عضوًا بالأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب.

صدر لهيرشفيلد العديد من الكتب التى وثقت أعماله الكاريكاتورية.
وكتب مؤلفين هما واحات مانهاتن، وعالم الترفيه ليس عالمًا جديا، بالإضافة إلى عشر مجموعات من أعماله. علمًا بأن العديد من المتاحف العالمية تضم أعماله، ومنها متحف متروبوليتان، ومتحف ويتني، ومتحف الصور الوطنى، ومسرح جامعة هارفارد.
لخص هيرشفيلد تجربته مع فن الكاريكاتير فى أن مساهمته تكمن فى إعادة ابتكار الشخصية التى ابتكرها الكاتب المسرحى وأداها الممثل، وجعلها قريبة من ذهن القارئ. كما كتب الكاتب المسرحى تيرينس ماكنالي: «لا أحد يُعبّر عن فنون الأداء بدقة أكبر من آل هيرشفيلد. فهو يُبدع على ورقة فارغة بقلمه ويده فى بضع لمسات، ما يحتاج الكثير منا إلى عمر كامل من الكلمات للتعبير عنه».
وفى 2003، توفى هيرشفيلد عن 99 عامًا، وترك تركة إبداعية ثرية جدًا من الأعمال الفنية.
واعترافًا بدوره المؤثر فى نشر الإبداع من خلال فن الكاريكاتير، خصصت مكتبة نيويورك العامة ركنًا خاصة يعرض بشكل دائم مكتبه وكرسيه وأدوات الرسم التى كان يستخدمها طوال حياته إلى جوار صورة مجسمة له، وكذلك بورتريه شخصى بريشته.

كما تم الاحتفاء به وبذكراه بعرض أعماله فى عدة مناسبات بالمكتبة.
ويذكر أنه تم تحويل اسم مسرح مارتين بيك الأيقونى الذى تأسس بمانهاتن بمدينة نيويورك عام 1924، إلى مسرح آل هيرشفيلد تكريمًا له.
ويعلو اسمه على المسرح كاريكاتير شخصى بريشته مضاءً بالنيون.
فى عام 2024، تم الاحتفال بمئوية هذا المسرح تماما كما كان مخططا ومقررًا بالاحتفال بمئوية آل هيرشفيلد فى حياته.
وقامت ابنته نينا بتأسيس مؤسسة آل هيرشفيلد التى تهدف إلى تعزيز الاهتمام بالفنون المسرحية من خلال دعم المتاحف والمكتبات والمسارح وغيرها من المؤسسات الثقافية غير الربحية. وتحقق المؤسسة هذا الهدف من خلال تقديم التمويل لهذه المؤسسات، وعقد معارض لأعمال والدها آل هيرشفيلد الفنية فى المتاحف والمواقع الثقافية الأخرى، بالإضافة إلى تبرعها بهذه الأعمال أو إقراضها لهذه المؤسسات.

وبعد كل ما ذكرت من تكريم واحتفاء بسيرة آل هيرشفيلد، وجدتنى وقد شردت بذهنى كثيرًا حول مسيرة الفنان الكبير جورج بهجورى ــ ملك الخط الواحد ــ بلا منازع.
وهى لا تقل مسيرته أبدًا عن مسيرة هيرشفيلد، بل ربما تزيد.
وتساءلت متى يتم تكريم بهجورى ويتم الالتفات إليه وإلى تاريخه الكبير مع الفن التشكيلى، والفنون الصحفية، وفن الكاريكاتير على وجه الخصوص؟
سؤال أطرحه بمحبة المريدين فى تقدير العارفين (نقطة).