الخميس 13 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكاية من ألف حكاية فــــــى دار الحبايب

حكاية من ألف حكاية فــــــى دار الحبايب
حكاية من ألف حكاية فــــــى دار الحبايب


كثيرا ما ينتابنا الشعور بالوحدة، ونشعر بالاحتياج لرفيق يهون علينا هذا الشعور، نتحدث معه عما يدور حولنا، ونشاركه لحظات حيرتنا وفرحنا وحزننا، ومشاعرنا، وما يطرأ على حياتنا من تغيرات، فكيف لك أن تشعر بالفرح وأنت وحيد، يمر عليك يومك ليله كنهاره، تشاهد برامج وأفلامًا وتريد الحديث حول ما يدور بالشاشة، ولكن لا تجد الونيس الذى تتحاور معه، كم قاس هذا الشعور!
ما الحل لوحدة تشعر بها حين لا يشعر بك من حولك، هل تلجأ لمعرفة أصدقاء جدد؟، هل تبحث عن أقارب لا يعرفون عنك شيئا وليسوا مستعدين؟، أم ستلجأ لطبيب نفسى تتحدث معه؟، أم ستتجه لجلسات الحكي؟
«أبويا وأمى ماتوا وماليش غير أخين مابيسألوش فيا ونفسهم يخلصوا مني»، هكذا قالت بمجرد سؤالها عن سبب تواجدها بدار مسنين بهذه السن، جذبنى إليها نظرتها المليئة بالشجن والمرار المطلة من عينيها، والتى تجبرك على الذهاب إليها والحديث معها، ومعرفة سر تلك النظرة والوجه الشاحب، الذى على الرغم من صغر ملامحه تظهر عليه علامات العجز الداخلى والشيخوخة النفسية، ابتسامتها الباهتة التى لا تفارق شفتيها، لا تخبرك سوى بمعنى واحد «الناس مالهاش أمان».
حكاية نزيلة دار مسنين لم تكمل الـ40
عزة حسين ذات الخامسة والأربعين عامًا،  قررت بكامل إرادتها دخول دار للمسنين قبل أن تكمل عامها التاسع والثلاثين، بعد أن شعرت بالغربة والوحدة والتدنى فى المعاملة ممن تبقى لديها فى الحياة من ذويها «أخويها».
بعد أن توفى والدا عزة أصبحت وحيدة بالمنزل، فهى شابة ناضجة، لكنها لم تتزوج، عاشت عمرها فى خدمة والديها والعمل على إسعادهما بكل ما استطاعت وبكل ما امتلكت، حتى إنهما شعرا بأنها ابنتهما الوحيدة، رغم  وجود شقيقيها الرجلين، اللذين اعتمدا عليها بشكل كامل فى تواجدها مع الوالدين، ناكرين عليها حقها فى أن تكون لها حياتها الخاصة كسائر البشر.
 «مين هيخدم أبوكى وأمك»، هكذا كانت العبارة دائمة التردد من قبل الأخوين، فهى لم تشعر يومًا بالملل من وجودها مع والديها، لكن حياتها هى التى تمر عليها دون الشعور بها، دون التمتع بشبابها، دون إطلاق العنان لمشاعرها كأى فتاة.
عزة : «دار المسنين أهلى وعيلتي»
توفى والداها، وتكررت محاولات أخويها لإخراجها من شقة والديها، هربًا من تحمل مسئوليتها، أو السماع عنها مطلقًا، هكذا عبرت بكل أسي، وهى بحاجة لونيس لوحدتها هذه التى لم تجد لها نهاية، وحينها اقترحت عليها خالتها الالتحاق بإحدى دور المسنين، ولم تعلم عزة حتى هذه اللحظة نية خالتها الحقيقية من وراء هذا الاقتراح، لكنه وجدته لا يختلف كثيرا عن الحياة التى تعيشها، بل من الممكن أن تجد هناك من هم على نفس حالتها، يريدون أيضًا من يشاركهم يومهم، ويأسها من محاولات الإصلاح المستمرة بينها وبين أخويها، قررت البحث عن دار مسنين بعيدة عن الحى الذى تقطن به بالعباسية، فهى وصلت للمرحلة التى لا تريد بها رؤية أى ممن تعرف من أهل وأقارب لم يشعروا بها يوما، ولم يكلفوا أنفسهم حتى السؤال عليها تليفونيا!
دار الحبايب كان اختيارها بعد رحلة بحث لم تطل كثيرًا، فبتجولها فى المعادى وقعت عيناها على مكان هادئ ومستواه يتناسب معها، وشعرت براحة نفسية غير مبررة تجاهه، فقررت الدخول والسؤال عن التفاصيل ورؤيته من الداخل، كل هذا جعلها تتخذ قرار الالتحاق بدار الحبايب، فصاحبة الدار ومديرتها والعاملون بها والنزلاء أيضًا، جميعهم يرحبون بكل من يزور دارهم، سواء زائرًا عابرًا أو نزيلاً أو أيًا كان.
وبحديثها مع بعض النزلاء بدأت تشعر بأن هناك من يستطيع مشاركتها الحياة، بمن تتناول وجبة الإفطار معه، وبمن تخرج للتنزه معه يومًا آخر، وبمن تستطيع الحديث معه عما بداخلها فى ليلة ما دون الشعور بأى حرج، فجميعهم لهم نفس حالتها، فهى نعم دار للمسنين، ولكن كثيرًا من نزلائها ليسوا مسنين، فحالهم كحال عزة.
فى دار الحبايب «لقيت اللى أحكى لهم ويحكوا لى ويشاركونى الأكل والفرجة والقعدة»
وبالفعل دخلت عزة دار الحبايب، أصبحت عندها حقًا دار ومكان وملتقى الحبايب، «كل اللى هنا أهلى وحبايبى وعوضونى وملوا فراغي»، هكذا عبرت ببسمة راضية عن وضعها الحالي، لكن تلك البسمة لم تتمكن من التغلب على نظرة عينيها الحزينة، فكل ما حدث معها بالماضى ترك أثرا بنفسها لم يستطع أى شيء محوه.
«بنصحى بدرى كل يوم نفطر سوا ونشرب الشاي، ونقرأ الأخبار من الجرايد، وبعدين نطلع نقعد فى الجنينة شوية نتكلم مع بعض، كل واحد يحكى اللى عنده، وندخل نشوف فيلم سوا»، هكذا تقضى يومها، وأحيانًا كثيرة تذهب لغرف أحد زملائها للحديث سويًا والجلوس معًا، وكثيرًا ما تتجه خارج الدار سواء وحدها أو باصطحاب أحد النزلاء لممارسة رياضة المشي.
هكذا وجدت عزة رفيقها بقية عمرها، الدار ومن فيها هم رفيقها، فهى الآن لم تعد بحاجة لمن تركوها وتخلوا عنها وتنكروا لها دون الشعور يوما بالذنب، مؤكدة أنها لم تتوقع ترك الدار أبدًا إلا فى حالة أن تتبدل حياتها بأكملها لوضع أفضل.