تحيــا.. مصــــر الجديدة
محمد سعد
لا تكاد تمر مناسبة التقي فيها بأصدقاء العمر من أبناء حي مصر الجديدة حتى نسترجع معها ذكرياتنا في الشوارع والمدارس والنوادي والمقاهي والمطاعم والملاهى، لا ننشغل في تلك اللقاءات المحدودة سوى كيف كانت حياتنا في حينا الهادئ، ولا نمل من عقد المقارنات مع الأحياء التي انتقلنا إليها بعدما غادرنا منازل آبائنا بعد الزواج إلا نفر قليل منا. في الحقيقة نحمل في صدورنا إجابة السؤال الذي تثيره الأغنية الشهيرة.. فيها حاجه حلوة؟ في اعتقادنا الشخصي لا يوجد في مصر الجديدة ما هو ليس جميلا، هل هو مجرد تعصب لموطئ الذكريات يشاركنا فيه أبناء الأحياء الأخرى كالمعادي والمهندسين والزمالك؟
طبيعة الحى الراقى
هنا كطبيعة خاصة لحى مصر الجديدة لا يدركها من لم يسكنها أو يعرفها حق المعرفة. الأغلبية يرون فيه حيًا راقيًا أسسه البارون البلجيكي إمبان في أوائل القرن العشرين وبنى في قلبه النابض قصره الشهير الذي يحتل مساحة متميزة بشارع العروبة - صلاح سالم حاليًا، وقام بمنح أراض لبناء عدد من الكنائس الخاصة بالطوائف الكاثوليكية الأجنبية التي عاش أبناؤها ومازالوا في مصر الجديدة. تصيب الدهشة الممزوجة بالإعجاب السائرين في شوارع مصر الجديدة، تنشرح صدورهم عندما يخطون إلى ميدان الإسماعيلية ومنه إلى شارع الأهرام الذي يتوسط جزيرته الوسطى كنيسة البازليك وينتهي بفندق هليوبوليس هاوس، ثم إلى ميدان الكوربة الرائع وشارع إبراهيم اللقاني الذي يمتد من كافيه (الأمفتريون) حتى ميدان روكسي الشهير، وعندما تكتفي من فن العمارة البلجيكي والفرنسي المميز يمكنك التجول في الشوارع الواقعة بين أبو بكر الصديق ونزيه خليفة (البارون سابقًا) لترى اللمسة المعمارية الإيطالية الأنيقة ببساطتها الشديدة.
جنسية مصر الجديدة
لم تكتسب جنسية مصر الجديدة إذا لم يسبق لك تناول إفطارك في كافتيريا ماجيك أو أضواء العالم، أو غداءك بمطعم رأفت بميدان تريومف، أو عشاءك في مطعم شيش كباب عادل، لن تستطيع أن تشارك في حوارات أبناء مصر الجديدة دون أن تكون من رواد (الميريلاند) قبل إغلاق أبوابه منذ سنوات طوال، ولا نعلم ما السبب الذي يمنع من استغلال مكان كهذا؟! في حقيقة الأمر حى الطبقة المتوسطة وبخلاف ما يعتقده الكثيرون لم تكن مصر الجديدة منذ تأسيسها حي الطبقة الغنية من الأجانب الوافدين إلى البلاد، ولكن تغيرت تركيبتها الديموغرافية بشكل كبير في غضون عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، فقد تحول الحي إلى جنة يسكنها أبناء الطبقة المتوسطة من كبار الموظفين ذوي المؤهلات العليا أغلبهم قاهريون بالأساس، إلا أنها لا تخلو من بعض النازحين من أبناء محافظات الوجه البحري الذين التحقوا بأعمال ثابتة بالعاصمة. قد يندهش البعض عندما يعلمون أن ذاك الحي الذي يضم الصفوة والنخبة المتعلمة كانت كل مساكنه حتى وقت قريب مؤجرة بنظام الإيجار القديم الذي لا يتجاوز بضع جنيهات شهريا. لا ينظر أبناء مصر الجديدة إلي غيرهم بنظرة استعلاء رغم أنهم يباهون على الدوام بانتمائهم للحي الذي كان الأكثر تنظيما ونظافة في شرق القاهرة. مع تعاقب الأجيال وبزوغ مناطق التجمع الخامس، الرحاب، مدينتي التي أعادت حملاتها الدعائية لبعض العائلات المنتمية الى مصر الجديدة ممن لديهم المقدرة المالية أحلام بالحياة في نفس الحي الهادئ الذي افتقدوه منذ سنوات، فحدثت هجرات متعاقبة من الأجيال الجديدة إلى تلك المناطق تدهور الخدمات فى مصر الجديده كما يشهد الحي بعض المستجدات منذ حوالي 10 سنوات أو أكثر فقد تدهورت خدماته ومرافقه بشكل واضح وغير مسبوق، وازدحمت شوارعه بعد بدء حركة بناء على قدم وساق لعمارات تتجاوز العشرة طوابق بعد هدم بعض الفيلات والعقارات ذات الثلاث طوابق التي كانت الطابع المميز للحي. تعالت أصوات الضوضاء بصورة مستفزة، كما كان لدخول محطات مترو الأنفاق أثر سلبي على أبناء الحي الذين اعتادوا شارع هارون الرشيد وميدان الجامع الواسع، فضلاً عن إزالة مترو مصر الجديدة الشهير الذي قررت الدولة بدون أسباب رفعه وإزالة قضبانه.
لن ينسى أحد وقفة أبناء مصر الجديدة والتصدى للفاشيست«الاخوان» في مقاومة التيار الظلامي الذي مثلته جماعه الإخوان بعد سيطرتها على مقاليد الأمور في أحلك فترة شهدتها بلادنا في تاريخها المعاصر، ومن أول لحظة خلال الانتخابات البرلمانية التي أتت بمجلس الشعب الإخواني المنحل كانوا في المواجهة وساندوا مرشحي التيارات المدنية. كما قاوموا الديكتاتورية عندما احتشدت الجماهير في شارع الميرغني لمحاصرة القصر الرئاسي بعدما أصدر الرئيس المعزول إعلانه الدستوري لينصب نفسه إلهًا، وواجهوا محاولات فرض الدستور الطائفي عام 2012 وقالوا لا بنسبه 66 ٪ فى المائة في الاستفتاء الشعبي الذي شابت نتائجه تلاعب من السلطة الإخوانية آنذاك. لذلك كان انتقام جماعة الإخوان من مصر الجديدة في أعقاب تصدي الدولة وأجهزتها الأمنية لاعتصامى رابعة العدوية والنهضة المسلحين، حيث استهدفت عناصرهم الإرهابية والمخربة سيارات المواطنين الأبرياء ومحطات الأتوبيس والمترو المميزة لشوارع مصر الجديدة وقاموا بتحطيمها في ظل قناعاتهم بأن أبناء مصر الجديدة خلف إقصاء رئيسهم المعزول.
الكوزمو بوليتانى
صار هذا الحي العريق بحق أسلوب حياة وليس مجرد مكان محبب لقاطنيه لأنه يبعث فيهم ذكريات مرحلة المراهقة والشباب، بل إنه خلق لدى أبنائه ثقافة مستقرة وراسخة. لا أجد مبالغة في وصف حي مصر الجديدة بالنموذج الذي يحتذى به، فالطابع الكوزموبوليتاني لها أحد مزاياها، وهو ما يدفعنا إلى التفكير جديًا في كيفية تحقيق حلم المواطنة بإرساء ثقافة مصر الجديدة ونشرها في ربوع البلاد وجميع حواضر المحافظات لإيجاد مواطنين مؤهلين للمشروع القومي لتدشين الدولة المدنية الحديثة التي نطمح في بنائها خلال السنوات القادمة. اكتشفت الدولة مؤخرًا أن القاهرة العاصمة العتيدة العتيقة أصبحت عصية على الاصلاح خلال السنوات الأخيرة فذهبت لبناء عاصمة جديدة تتخلص من عيوب العاصمة المترهلة، وبعد ما صارت العاصمة الإدارية الجديدة رؤى العين أصبح من الواجب علينا انتقاء نموذج كذلك الذي تمثله مصر الجديدة لبث روحها في أبناء وسكان العاصمة الجديدة؛ والتي لا ينبغي لها أن تصبح (كومباوند) مغلقة على ساكنيها مثل الصدفة العازلة، ولكن يلزمها ثقافة منفتحة تحمل الأمل في غد أفضل للجميع. دعنا نردد معًا تحيا.. مصر الجديدة.