عايزة أحب واتجوز واشتغل.. مش بس شيكولاتة وطبطبة
عبير صلاح الدين
كان عندى 19 سنة لما بدأوا يحتفلوا بيوم اليتيم سنة 2004 أخدونا نقضى اليوم فى دريم بارك، لكن فى السنة اللى بعدها الموضوع خرج عن السيطرة، الدار تحولت لسيرك، وكأننا تحولنا لمزار أو حديقة حيوانات، كل اللى عايز يعمل ثواب ويزورنا ييجى فى أى وقت، ويفتح علينا الغرف فى أى وقت، ويأكلنا تانى من الأكل اللى جايبه، وكأنهم بيحشونا بالأكل. فى اليوم ده بنشعر إن الدار احتلت، كل غرفة وكل مكان فيه ناس، مش عارفين همه جايين يحتفلوا معانا، ولا يحتفلوا مع نفسهم، لأنهم مش عارفين عنا حاجة، ناس عمرنا ماشفناهم، كلهم عايزين يطبطبوا علينا بطريقتهم.
لكن اللى بيحصل مع الأيتام فى شهر أبريل أو شهر اليتيم، بيلخص اللى بيحصل فى حياتهم كلها، وكمان المواقف الغريبة اللى بيقعوا فيها لما يتركوا عالم الأيتام، أو يعتقدوا إنهم تركوه.
••
تتذكر نهلة النمر- 32 سنة- التى قضت عمرها فى دار للأيتام، وسط 150 أختا، يوميات الاحتفال بيوم اليتيم، ومشاعر أخواتها، التى قد لاتزال موجودة فى الكثير من الدور، وتتجدد سنويا مع الاحتفال بيوم اليتيم خلال شهر أبريل.
ترى نهلة التى تخرجت فى كلية الخدمة الاجتماعية، أن الحياة فى دار الأيتام وطريقة تعامل المتطوعين والزائرين معهم، تؤثر على حياة اليتيم وعلى اندماجه فى المجتمع، وتقبل الناس له، «خرجت من الدار بعد أن تخرجت فى الجامعة ووجدت وظيفة، لأن الدور كلها بتطلب من كل فتى أو فتاة تبلغ 21 سنة أو ينهى دراسته أن يترك الدار ويستقل بحياته، ورغم أنى بقيت 4 سنوات أعمل فى مجال الطباعة والنشر، تركت العمل بمجرد أن وجدت فرصة عمل أخرى تعيدنى لعالم الأيتام، الذى يعيش داخلى ولا أستطيع الفكاك منه».
تحكى نهلة كيف أنها لم تستطع أن تلبى دعوة زميلة لتناول الغداء معها فى بيتها، لأنها لن تستطيع أن تفعل نفس الشىء معها فى دار الأيتام أو فى الشقة التى استأجرتها فيما بعد مع بعض من أخواتها فى الدار، وكيف لم تكن تستطيع أن تحكى يومياتها مثلما يفعل زملاؤها فى العمل فى وقت الراحة، حتى لا يفتضح أمرها، ويعرف الجميع أنها يتيمة، فيحكمون عليها حكما آخر.
«أول مرة أشعر بنظرات غير الشفقة، نظرات لم أكن أعرف ما هى فى البداية، حتى فهمت أنها نظرات الفخر والاحترام، عندما تحدثت عن نفسى، وعن كل ما أشعر به كيتيمة، دون خوف أو خجل، خلال اللقاء الذى نظمه المجلس العربى للطفولة والتنمية، مع جمعية وطنية، حول مشاكل الأيتام، فقررت أن أعمل مع إخوتى الصغار فى دور الأيتام، من أجل أن تتغير أحوالهم».
• عالم الأيتام
النظرة السلبية لليتيم دفعت نهلة لترك عملها كمسئولة موقع إلكترونى فى مؤسسة كبرى للطباعة والنشر، لتعود لعالم الأيتام «ماقدرتش استمر فى الكذب والتخبئة كتير على زملائى فى العمل، لأنى ماقدرش أستحمل همزهم ولمزهم ونظراتهم، لو عرفوا إنى متربية فى دار أيتام، لأن الناس بتحترم اليتيم اللى بيتربى فى حضن أقربائه، مش اليتيم اللى متربى فى دار، حتى فى المدرسة».
تتذكر نهلة كيف كانت تضطر إلى فتح أحد أزرار الفستان أو ثنى أكمامه، لتبدو مختلفة عن باقى أطفال الدار اللاتى يرتدين نفس الملابس، عندما يخرجن فى رحلة إلى النادى أو إلى أى مكان، «الملابس الموحدة اللى كنا بنلبسها كانت بتخلى الناس تشاور علينا وتقول بتوع الملجأ أهم، المتبرعين ما يعرفوش إن كل واحدة فينا عايزة تكون مميزة عن التانية فى اللبس، ويكون عندها حرية اختيار ملابسها زى أولادهم».
مواقف محرجة كانت تحدث لنهلة وأخواتها أيضا بسبب «إن شنط المدارس برضه كانت نفس الشكل، وممكن أتلخبط فى شنطة أخت من إخواتى فى الدار أكبر أو أصغر، وأروح بيها للمدرسة».
• الكذب من أجل الحب
«اليتيمة ما تقدرش تحب كده عادى زى البنت العادية، فى الغالب تضطر تكذب، أو تخبى إنها عايشة فى دار أيتام، مش بس على الولد اللى بتحبه، لكن كمان على زملائها فى الجامعة، عشان تتقى نظراتهم» تحكى نهلة عما حصل مع أغلب أخواتها فى الدار.
لكن الكذب ليس له رجلين كما يقولون، فسرعان ما تقود زلة لسان أو أى شىء إلى معرفة من حولها بالحقيقة، وساعتها تفقد أصدقاءها، كما تفقد حبيبها، لأنها كذبت عليه أولا، ولأنها تربية دار أيتام ثانيا، «البنت بتقول لنفسها أنا مش هاقوله الحقيقة إلا لما أتأكد إنه بيحبنى، لكن هو بيسيبها لما يعرف الحقيقة، والمشكلة إن البنت بتتعقد أكتر، ومابتعرفش تتخلص من حكاية الكذب دى، وتكرر نفس الغلط فى كل علاقة، وعشان كده فى أيتام نجحوا فى الزواج عشان اتجوزوا من أيتام زيهم عاشوا نفس ظروفهم».
نهلة تخاف أن تدخل فى علاقة حب، لأنها تخشى من الألم «أغلب الشباب لا يعرف ما تحتاجه الفتاة التى تربت فى دار للأيتام، إذا كانت أى فتاة فى حاجة للحب، فأنا أحتاج له أكثر، اليتيمة محتاجة أنها تشعر أن حبيبها هو أبوها وأمها قبل مايكون جوزها، وعشان كده ماينفعش واحد يقول هاتجوز يتيمة وأكسب فيها ثواب».
• اليتيم لازم يشتغل
تقلب نهلة فى أوراقها وتبتسم قائلة: الناس فاكرة إن اليتيم ده لازم يكون طفل، وبينسوا إنه هيكبر، وهيتعلم وممكن يدخل الجامعة، ومحتاج يشتغل عشان لازم هيستقل بحياته، عشان كده اضطريت أخبى إنى من دار أيتام لما جيت أشتغل، زى بالضبط كنت باخبى لما كان المدرس يسألنى فى المدرسة، لأنى كنت هاكون فرجة الفصل كله طول السنة».
نهلة كانت تخشى إن عرف صاحب العمل أنها من دار أيتام سيرفض أن تعمل لديه، لأنه سيقول فى نفسه، ستأتى بمشاكلها النفسية التى لن تستطيع التخلص منها، «الناس اعتادت على إن اليتيم شخص لديه ظروف وحساس، ويحتاج فقط لمن يحنو عليه، ولذا من الأفضل استبعاده من العمل، بغض النظر عن كفاءته».
تتمنى نهلة أن تعود دور الأيتام أطفالها على قول الصراحة والرد على كل أسئلة الناس بعقلانية وليس تجاهلها أو الهروب منها، «كنا نسأل ونحن صغار لماذا نعيش فى الدار، وكان زملاؤنا بالمدرسة يسألونا نفس السؤال، ولم يدربنا أحد على قول الحقيقة بعض زملائى فى العمل عندما اكتشفوا أنى أعيش فى دار للأيتام، سألونى هو إنتم بتأكلوا اللحمة، وكأننا كائنات فضائية».
مشكلة اليتيمة عندما تبحث عن عمل، أنها تحتاج أيضا لشقة، لتعيش فيها، والمشكلة الأكبر كما تقول نهلة «أن الدار لا تسأل عن اليتيمة ولا تتابعها ولو بالسؤال بعد أن تترك الدار، وهذا مؤلم، فالمفروض إنى لسه يتيمة، وإنى لسه بنتكم، والمجتمع مش سهل، خاصة على بنات عاشوا حياتهم من غير ما يتعودوا على الاستقلالية ولا على التعامل مع الناس أو كيفية صرف النقود».
تشعر نهلة بالحزن لأن إدارة الدار طلبت منها ومن إخواتها عدم العودةة للدار، لأنها تحب أن ترى إخواتها الصغار الذين تربوا معها فى الدار، ولذا تكتفى بالتواصل معهم عبر الفيس بوك».
• قل دارا ولا تقل ملجأ
تركز نهلة فى عملها الجديد فى جمعية وطنية لرعاية وتطوير العمل داخل دور الأيتام، على تطبيق معايير جودة الرعاية لمؤسسات الأطفال، التى اعتمدتها وزارة التضامن الاجتماعى فى العام الماضى، من خلال مساعدة دور الأيتام على تقييم نفسها، سواء فى أداء العاملين أو فى طريقة الإدارة أو فى احتياج الأطفال والشباب داخل الداخل، أو حتى التعامل مع المتطوعين.
قبل أيام من الاحتفال بيوم اليتيم، نظمت نهلة ورشة عمل للمتطوعين فى دور الأيتام، بعنوان «الأصول بتقول»، هدف الورشة مراعاة مشاعر الأيتام عند التعامل معهم.
من بين الأصول التى يحب الأيتام مراعاتها، ألا يقال لهم إنهم يعيشون فى ملجأ، لأنهم لايحبون سماعها، كما أن وقعها عند الناس سيئ، يمكن استخدام كلمات: دار، مؤسسة، جمعية.
وعند التعامل مع اليتيم لا يجب تصويره إلا بعد الاستئذان، حتى لو كان عمره خمس سنوات، والاستئذان أيضا عند الدخول إلى غرفته، فاليتيم ليس مشاعا للزائرين والمتبرعين والمتطوعين.. تقول نهلة: «أنا مش ضد يوم اليتيم، لأن فيه دور كثيرة تنتظر هذا اليوم، لكن اعرفوا الأيتام قبل ما تحتفلوا معاهم، اعرفوا إيه اللى بيفرحهم، وهمه محتاجين إيه، لو عرفتنى هتعرف طريقة الاحتفال اللى هتفرحنى، مش لازم أكون محتاجه شيكولاته وأكل، ممكن أكون محتاجة تسمعنى وتحترم عقلى، وتناقشنى فى السياسة أو الدين أو فى أى موضوع تانى يهمنى، الثواب مش فلوس وباى باى من بعيد وتمشى». •