الثلاثاء 2 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكايات 60 سنة صحافة ـ الحلقة 65

صلاح الليثى مهندس الكاريكاتير

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

 

 

من أعز الأصدقاء الذين أفتقدهم صلاح الليثى الذى أسميه «مهندس الكاريكاتير».. 

فهو الوحيد من رسامى الكاريكاتير الكبار الذى يستعمل طريقة هندسية مركبة فى رسم لوحاته، يرسم أولًا بقلم رصاص ثم يضع فوق الرسماية ورقة شفافة ينسخ فوقها بالحبر الشينى، ما رسمه بالقلم الرصاص.. وفى خطوطه اختزال واختصار شديد يصل حد التجريد.. لا يماثله أى كاريكاتير نعرفه.. 

والاختصار لا يتوقف على الخطوط الرشيقة ولكن يمتد أيضًا إلى العبارة التى يكتبها تحت ما يرسمه، بتمكن يسيطر على اللغة فيجعلها برقية لماحة بلا ثرثرة ولا رغى ع الفاضى. 

هذا هو صلاح الليثى العبقرى الذى أرى ويرى معى آخرون، أنه لم ينل ما يستحق من التقدير والتكريم، ربما لأنه فى تقدير كثيرين، كان سابقًا لزمانه، وربما لأنه جاء متأخرًا قليلًا عن سابقيه الكبار. 

 

 

 

وقد أسعدنى أن بعض المهتمين بفن صلاح الليثى الذى لا مثيل له، نظموا ندوة فى شهر أكتوبر الماضى تحدثوا فيها عن هذا المبدع الكبير واستعرضوا تاريخه وغزارة إنتاجه وتناوله لكافة مناحى الحياة وتركيزه على اهتمامات وتطلعات وأوجاع الناس.

وأذكر أننى كنت مبهورًا بأسلوب صلاح الليثى الهندسى وكنت أجلس معه كثيرًا خلال انغماسه فى ابتكار أفكار وخطوط رسومه المدهشة.. كان ذلك منذ أكثر من نصف قرن فى السبعينيات. وكان هو دائمًا ما يطلب منى أن أشاركه جلسة عمله حيث يحلو له نثر أفكاره ومناقشتها تمهيدًا لصياغتها فى القالب الفنى الذى تميز به وسط كتيبة «صباح الخير» التى تضم عباقرة ومبدعين لم يتكرروا من صلاح جاهين لحجازى وجورج البهجورى وإيهاب وناجى ورجائى وبهجت.

تميز الليثى بأنه صاحب نظرة عميقة وفلسفة واضحة وبسيطة وخطوط هندسية تجريدية لا تجدها لدى أى من رفاقه السبعة الذين ذكرتهم، ومن أحاديثنا معًا عرفت وجهة نظره الفنية التى يقوم عليها منهجه هذا المختلف، فهو يرى أن الأصل فى الكاريكاتير هو الفكرة.. ولذلك يتعمق فى التفكير ويركز فى لغة التعليق بحيث تكون لماحة وموحية وموجزة وتنطوى مع الرسماية على سخرية رفيعة ساخنة وحارة وباعثة على التفكير والتأمل.

 

 

 

لم يكن هذا سهلًا أبدًا.. لذا كنت أجده ينهمك ويستغرق فى التفكير ويفتح مناقشة طويلة قبل أن يقدم على العمل الشاق المتمثل فى رسم الفكرة بالقلم الرصاص أولًا ثم وضع ورقة شفافة فوقها.. ثم شفها بالريشة أو قلم الفلوماستر على ورقة شفافة.

وأنذكر الآن حديثًا تحليليًا قدمه زميل من جيل جاء بعد صلاح الليثى هو جمعة فرحات، قال فيه إنه درس تطور فن الليثى وقسمه إلى ثلاث مراحل، أولها كان متأثرًا خلالها بفنان الكوميديا الكاريكاتيرية السوداء «شافال» الذى وضح تأثيره الكبير على أعمال هذه المرحلة إلى أن جاءت المرحلة الثانية.. واجتهد فيها فى البحث عن أسلوبه الخاص والتخلص من تأثير الفنان الفرنسى الشهير. 

أما المرحلة الثالثة فهى تلك التى بزغت فيها ملامح عبقرية صلاح الليثي.. حيث تخلص من التفاصيل والزخارف التى سادت المرحلتين السابقتين وبرزت فيها الخطوط الحادة وشبه الهندسية والمختصرة إلى حد التجريد.. والتى أصبحت علامة مميزة لأعماله حتى أنك لا تحتاج للبحث عن توقيعه لتعرف أنها من إبداعات صلاح الليثي.

وأتوقف هنا لأشير بكل الأسى إلى الإهمال الشديد الذى ترتب عليه ضياع أصول لوحات الكاريكاتير لفنانينا الكبار وضياعها فى المطابع وعدم الاهتمام بحفظها والمحافظة عليها مما أفقدنا هذا التراث الهائل من منجزات الفن الصحفى الأكثر شعبية على مدى تاريخه, وهو أقرب الفنون إلى روح الشعب المصرى وحبه للسخرية والحرية والبهجة والتأمل التى تتيحها هذه الأعمال.

 

 

 

كان صلاح الليثى يقول لى إن الفكرة تمثل عنده حوالى 90% من اللوحة والباقى متروك للرسم.. وكان هذا فى تقديرى دليلًا على أننا فى حضرة فنان سابق لزمانه.. فنان مفكر.. رسام كاريكاتير فيلسوف، وليس مهرجًا. 

 من ذكرياتى الشخصية معه هذا اللقاء الذى جمعنا فى شقته فى مصر الجديدة الذى وجدته يعرض علىّ فكرة المشاركة فى إصدار مجلة «23 يوليو» شرح لى فكرة مشروع المجلة وكيف أنها ستكون معارضة لسياسات السادات ويرأس تحريرها محمود السعدنى ويشارك فى التحرير كتاب محترمون مثل ألفريد فرج وبكر الشرقاوى ومجدى نصيف وغيرهم.. رحبت بالفكرة، لاعتقادى أن سياسة السادات خطر على مصر والعرب وفلسطين.. لكن عندما قال لى صلاح الليثى إن هذا المشروع سينفذ فى لندن وعرض على السفر معه إلى هناك.. فوجئت، ورفضت ولم أكتف بذلك بل طلبت منه ألا يسافر للمشاركة فى هذه المجلة، قلت إنها مشروع معارضة سياسية وليست مجلة.. وما فائدة معارضة السادات من لندن؟.. هل يمكن إسقاطه من لندن؟!.. يجب أن تبقى هنا مع الشعب المصرى المعارض.

رد علىّ بأن لى الحق فى ما أقوله وأنه متفق معى على ذلك، لكنه سيسافر لسبب خاص به فهو يعانى من آلام فى القلب ويحتاج للعلاج الفورى وليس أمامه حل فى مصر، فلا النقابة ستساعده ولا المؤسسة، فهو فى أزمة لا يحلها إلا السفر.

قد لا يعرف كثيرون أن صلاح الليثى نشر الكاريكاتير عبر التليفزيون وكان يقدم برنامجًا خاصًا به يقوم خلاله برسم اللوحات على الهواء مباشرة. وأنه تم تعيينه فى «صباح الخير» فى 1962 قبل التحاقى بالمجلة بسنتين.. 

وربما لا يعرف كثيرون أن فنان الكاريكاتير المتميز الذى لم يلق التقدير المناسب تلقى تعليمه الفنى فى القسم الحر فى كلية الفنون الجميلة فى الزمالك وفى كلية الفنون فى روما وحصل على دبلومات وشهادات تقدير كما أنه حاصل على جوائز عديدة فى فنون النحت والزخرفة والتصميم وسك العملة والكاريكاتير.. مثل جائزة محمود مختار التى حصل عليها على مدى أربع سنوات متوالية.. وأن صلاح الليثى هو أكثر رسام مصرى عمل كخبير فنى فى عدة بلدان عربية منها سوريا والعراق وليبيا.

 ومن هنا يطلق عليه لقب «فنان الشعوب العربية».

 أما لوحاته الكاريكاتيرية التى نشرت فى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات فتتمتع بأنها تعبر عنا حتى هذه اللحظة.. ويكفى أن نطلع عليها لنقول إن صلاح الليثى يعيش معنا بفنه على الدوام.

وفى الأسبوع المقبل نواصل