السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مصطفى رحمه.. البساطة سر الدهشة!

أهدى رسام الكاريكاتير الفنان سمير عبدالغني، إلى مجلة «صباح الخير» حلقاته المميزة عن جيل الأساتذة من رسامى الكاريكاتير، قبل أن يجمعها فى كتاب يوثق خلاله رحلة هؤلاء مع أحد أهم فنون الصحافة من خلال حكايات وذكريات، عاشها معهم، وصاحبهم خلالها على مدار سنوات عديدة، حرص على توثيقها لتقديمها إلى محبى فن الضحكة والبسمة، وللأجيال الجديدة التى لم يسعدها الحظ أن تتابع رسومات هؤلاء الفنانين فى زمانهم.



 

مصطفى رحمة ليس شخصا بديعا، وإنما هو درس لمن يريد أن يتعلم كيف ينتصر فى أى وقت وأى سن.. وأنه لم يخلق عبثا وإنما جاء للحياة من أجل أن ينشر رسالته. جاء حجازى من طنطا ورحمة من المنصورة ليصنعا شخصيات عاشت فى وجدان كل أبناء الوطن العربى، وكانت بينهما صداقة كبيرة وحوارات ومساجلات فى الفن والحياة والثورة.. ربما نجح حجازى فى مجلة صباح الخير واستمر فى العمل بينما كانت تجربة مصطفى مع ميلاد مجلة ماجد فى أبو ظبى. 

 

 

 

أول لقاء.. كنت فى طريقى لمقابلة الفنان محيى الدين اللباد وكان ميعادى الساعة 10 صباحا وقد جئت من الإسكندرية كى أقابله فى مكتبه القديم فى منطقة (حدائق القبة).. ولكنه فاجأنى أن أنتظر حتى ينتهى من لقاء مفاجئ مع الفنان (الذى لم أكن أعرفه) مصطفى رحمة الذى جاء من الإمارات.. وانتظرت ساعتين.. يومها لم أحب مصطفى رحمة الذى تصورته فنانا إماراتيا. مر وقت طويل وجئت إلى القاهرة أعمل فى مجلة كاريكاتير وأعد برنامجاً فى قناة النيل للأخبار اسمه (عالم المرح )1994 من إخراج الصديقة المخرجة إيناس مختار عندما طلب منى الفنان الكبير عبدالحليم البرجينى أن أقوم بإعداد حلقة عن مصطفى رحمة.. فقلت له: لا أعرف عنه أى شىء غير أنه فنان إماراتى قابلته منذ سنوات عند الفنان محيى الدين اللباد.. فضحك البرجينى وهو يقول: إماراتى إيه ده فنان مصرى وموطنه الأصلى المنصورة،  ويعيش على الجبن القريش والسمن البلدى.

كان البرنامج عن فن الكاريكاتير ورسوم الأطفال ومن حلاوة الحديث سجلنا معه حلقتين.. مصطفى جذاب وساحر ويعرف الطريق للقلوب إذا كان يتحدث أو يكتب أو يرسم.. ومن يومها أصبحنا أصدقاء.. أعرفه وأتتبع أخباره منذ 28 عاما..  عمر من السعادة.

 

 

 

أجمل شىء عند مصطفى رحمة أنه لا يحمل رأسًا مثلنا، هو يحمل مكتبه سمعية وبصرية وعلاقته بالكتاب ليست علاقة ادعاء أن يذكر لك اسم كاتب أو مقولة لمجرد أنه يظهر كمثقف.. رحمة مهموم وموجوع بفكرة أن دور المبدع أن يمتلئ ليكون لديه ما يقدمه للناس.

مر رحمة بسنوات عديدة كان حصوله على جوائز فى عالم رسوم الأطفال أشبه بالأخبار العادية والمتوقعة وليس فيها جديد.. هو أعطى نفسه لهذا العالم وهذا العالم أعطاه المال والشهرة وقربه من المبدعين.. وصنع صداقات مع قامات عظيمة.. كان يتحدث رحمة عنها بمحبة.. وكانوا يتحدثون عن صاحب الريشة المرحة الذكية التى تشبه صاحبها ولا تشبه أحدًا.

 

 

 

عندما جاء رحمة من المنصورة وقابل الفنان الأسطورى حسن فؤاد.. كان يكفيه أنه أشار إلى موهبته الكبيرة وطالبه ألا يكف عن اللعب ونصحه بعمل اسكتشات كل يوم، حتى هذه اللحظة يرسم رحمة أكثر من 200 اسكتش يومى.. هذه الاسكتشات تحولت إلى ثروة للباحثين عن أعمال صغيرة فيها بكارة الإحساس وجماله وتشهد على ذلك قاعة بيكاسو التى باعت فى أحد المعارض كل ما لديها فى زمن قياسى.

قابلت رحمة وهو يشبه الطاووس وقابلته وهو عائد من الإمارات بعد إنهاء عمله هناك.. وهو لا يعرف كيف يكمل الطريق وتحدثنا كأصدقاء وذكر لى أنه مهموم وفى حالة صراع.. سنوات طويلة يرسم الكاريكاتير ويرسم للأطفال والآن.. ماذا يصنع؟!

كان السؤال يؤرقه ليلاً ونهارًا.. وكانت الإجابة عند اثنين من أهم صناع الفن سمير فؤاد وإيهاب شاكر.. لديك موهبة كبيرة ومخزون بصرى عظيم وقدرات لم تكتشف بعد.. وكان سؤال رحمة: الآن.. وأنا فى طريقى للـ60؟..وكان الرد أنه أفضل سن للبداية من جديد.. أنت فى مراهقتك الفنية الثانية.. وكان هناك مقولة ساخرة للسعدنى عندما بلغ الـ60وهى (أن الـ60 عيلت).

 

 

 

فى معرضه الأول والصعب.. نجح رحمة فى أول اختبار واستقبل الناس هوانم رحمة بسعادة بالغة وكان احتفاء الأصدقاء والمقربين أمرا عاديا.. ولكن أن يحتفى بالمعرض نقاد الفن وعشاقه.. أصبح رحمة بعد أول معرض رقما مهما.. أحد الجياد الرابحة فى عالم الفن التشكيلى.. وكان السؤال الذى يؤرق كثيرين كيف؟ لقد بدأ أمس.. وكانت الإجابة لمحيى الدين اللباد.. لدى رحمة المادة الخام للإبداع وهو يصنع منها ما يشاء يرسم كاريكاتير..كتب أطفال.. لوحات تشكيلية.. هو يستطيع لأن لديه كنزه الدفين.. وسنوات من الخبرة وفوق كتفه مكتبة ثرية الإبداع ومنتقاة.

كتب الفنان الكبير سمير فؤاد يقدم رحمة فى معرضه الأول: (عاش الفنان مصطفى رحمة حياته الفنية يحب النقاء ويعشق الحياة الصافية ولهذا فقد كرس حياته للرسم للأطفال.

 

 

 

فالرسم للأطفال يتطلب فنانا يحب الفانتازيا ويعيش بداخلها، ففى عالمه كل شىء ممكن والغد دائما مشرق والخير دائما ينتصر، خطوط انسيابية واضحة وألوان زاهية وعوالم افتراضية تنمى خيال الطفل وتشبع رغبته فى السياحة خارج الواقع الذى يكبله بقواعد وقوانين تحد من الطاقة المتفجرة بداخله إلى عالم أكثر حرية وانطلاقًا.

ولكن بداخل فنان الأطفال كان يكمن فنانًا يريد هو نفسه أن يخرج خارج الإطار الذى تفرضه عليه قواعد المهنة، يريد أن يعبر كأى مبدع عن ذاته أولا فى لوحة قائمة بذاتها متفردة بعالمها الخاص ليست جزءا من رواية ولا تعتمد على نص يصاحبها. وكان أن قرر مصطفى رحمة بعد أن تجاوز سن الستين أن يدخل الحركة الفنية بمعرض للوحاته، وهو قرار جسور لفنان له تاريخ حافل مثل تاريخ مصطفى رحمة ولكن من اقترب منه يعلم أن هذه الجسارة هى نتيجة حب جارف للفن).

لم يتوقف رحمة عند رسم الهوانم واستمر فى كل معرض يقدم جديده بطعم رحمة الذى أصبح أسلوبه مألوفا لعشاق الفن والباحثين عن الأعمال الجيدة.. وقد كان رحمة رائعا عندما تحدث عن عالمه الفنى وطريقته فى الإبداع، وأكد أنه اكتسب خبرته فى التعامل مع الخطوط من بساطة التعبير عن القصص الفانتازية التى ظل يرسمها للأطفال، وأوضح: «كنت دائما أبحث عن القصص الشعبية وعوالم ألف ليلة وليلة التى أدين لها بالفضل الأول فى تكوين وعيى الجمالى وجميع مفاهيمى، لذلك ابتعدت عن الرسم بالمنظور الأكاديمى، وساعدنى فى ذلك أننى بدأت خطواتى وإلى جوارى فنانون كبار مثل إيهاب شاكر ومحيى الدين اللباد وسمير فؤاد».

 

 

 

يرسم مصطفى رحمة النساء التى تأتينا فى الأحلام.. هذة الوجوه المرحة..الممتلئة بالدفء.. المفعمة بالأمل.. يغمس فرشاته فى بالتة مصنوعة من ألوان قوس قزح.. ويرسم كطفل صغير يمارس هوايته المفضلة.. أو كساحر يعرف كيف ينتزع منا الدهشة.. أو كصوفى عرف الطريق ويسير إلى حيث المحبة اللانهائية.

مصطفى رحمة هو هذا المزيج العجيب من الفنان والمبدع الممتلئ بالوعى والثقافة.. يعرف رحمة أن البساطة هى سر الدهشة.. فالتكوين داخل اللوحات يقترب من العفوية.. والألوان شديدة الثراء..الممزوجة بطاقة المرح والشخصيات المنحوتة من عالم رحمة بكل ما فيها من شقاوة وبهجة.

هناك شىء ما بهذه اللوحات يجعلها محفورة بالذاكرة.. تملأ وعيك بشحنة من الأمل تستدعيها عندما يقل الأوكسجين من الجو..أو عندما يملأ غبار السياسة أنوفنا المتعبة.. ويسد النور عن عيوننا الذاهلة.

ظهر رحمة فى عالم الفن التشكيلى منذ فترة ليست بعيدة إلا أنه استطاع أن يحجز له مكانا فى الصدارة.. لذا نحن نرى أعماله لنعرف إلى أين تتجه البوصلة.. بدأ رحمة بنسائه البدينات المربربات واستطاع أن يجعلنا فى حالة وله وعشق بهذه الأجساد الممتلئة من فرط التخمة. لكن رحمة العبقرى لم يتوقف عند محطة النجاح الأولى وانطلق ليغرد فى مناطق أكثر رحابة تحميه ثقافته البصرية ووعيه الثقافى متحررا من العادى والمكرر ليشد عيوننا الباحثة عن الجديد.

 

 

 

ورغم أن النساء هى الموضوع الأثير لديه إلا أن المرأة فى عالم رحمة.. هى الأم والأخت والحبيبة والابنة والصديقة.. والوطن.. والحلم. يمتلك رحمة جرأة فى الألوان تجعله قادرًا على إثارة دهشة المتلقى.. رغم أن الألوان دائمًا مبهجة حتى ولو كان يرسم بالأسود فقط.