الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
د.محمود فوزى وحرب السويس ومذكراته المنسية!

د.محمود فوزى وحرب السويس ومذكراته المنسية!

من سوء حظ أى كاتب أن يصدر له كتاب فى نفس الوقت الذى يكون قد صدر فيه كتاب للأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل»، فكل الأضواء والحفاوة والاحتفالات ومئات المقالات ستذهب إلى كتاب «هيكل» وحده ولا أحد سواه!!



هذا ما حدث بالضبط مع كتاب الدكتور «محمود فوزى» المهم جدا وهو «حرب السويس 1956» الذى صدر عام 1987 بعد شهور قليلة من صدور كتاب هيكل «حرب الثلاثين سنة: ملفات السويس»!

 

ضاع كتاب د.محمود فوزى وسط الاحتفالات العارمة بصدور كتاب «ملفات السويس» وكان كتاب د.محمود فوزى يستحق الكثير من الحفاوة والتقدير والإشادة، لكن كتابه كان قد صدر بعد وفاته بست سنوات وكان قبلها قد اعتزل العمل السياسى والتنفيذى، وكان آخر منصب تولاه هو نائب رئيس الجمهورية من سنة 1972 حتى 1974، وقبلها كان رئيسًا لوزراء مصر من أكتوبر 1970 حتى يناير 1972، وهو الذى قامت ثورة 23 يوليو 1952 بتعيينه أول وزير خارجية بعد قيام الثورة حتى سنة 1958، كما تولى الرجل عشرات المناصب المهمة قبلها ولعل أهمها قنصل مصر العام فى القدس من سنة 1941 إلى 1944، ومندوب مصر فى مجلس الأمن ثم مندوب مصر فى الأمم المتحدة عام 1946 وسفير مصر فى لندن 1952،

 

 

 

باختصار شديد مشوار الرجل وتجربته السياسية وأيضا كتابه عن العدوان الثلاثى - حرب السويس - وكان أحد نجومها اللامعين كان يستحق الاحتفال بكتابه.. لكن الحفاوة والاحتفالات ذهبت لكتاب «هيكل» وحده!! وهو أول كتاب يطبعه فى مصر منذ خروجه من الأهرام عام 1974، وكل ما أصدره بعد ذلك نشر فى بيروت وبعض عواصم العالم بعد ترجمته!!  

كتب د.محمود فوزى كتابه باللغة الإنجليزية وقام بالترجمة إلى العربية «د.مختار الجمال» الذى تخصص فى الترجمة للدكتور «فوزى» عندما كان يرسل تقاريره اليومية من الأمم المتحدة إلى الرئيس «جمال عبدالناصر»، ولم يكتف «د.مختار الجمال» بترجمة الكتاب بل كتب مقدمة بالغة الأهمية قال فيها:

«ليس من السهل الكتابة عن الكبار، ولقد كان الدكتور «محمود فوزى» كبيرًا بكل المقاييس، واستطاع أن يكون رائدًا لمدرسة فى الدبلوماسية المصرية الحديثة فرضت نفسها ومازالت تفرض نفسها حتى اليوم.

ولقد ترك الدكتور «فوزى» بعده جيلا من المريدين والتلاميذ الذين آمنوا بأسلوبه فى الحياة وفى الدبلوماسية وهو أسلوب تستشعره دون أن تستطيع تعريفه، وإن كانت ملامحه البارزة الظاهرة هى التى تطفو وحدها على السطح، ويبقى الكثير من مكنون هذا الأسلوب الفريد غائبًا عن أى شخص يتناول دكتور «فوزى» وكتابه الذى بين يديك الآن».

فهذا الكتاب الوحيد الذى توفر الدكتور «فوزى» على إخراجه بهذه الصورة من بين مذكراته - التى لاتزال متناثرة ومبعثرة فى مكتبه ببيته الأنيق بالهرم - لايقول الكثير علنًا وبوضوح ولكنه يقول الكثير بين ثنايا السطور وفى اختيار الكلمات والجمل وطريقة تناول الأفكار والملاحظات، كان هذا هو أسلوب «د.فوزى» الذى وضح فى هذا الكتاب.

 

 

 

وقيمة هذا الكتاب ليس فى أسلوبه فحسب، ولا فى أنه الأثر الوحيد المكتوب لأبى الدبلوماسية المصرية الروحى، ولكن قيمته وخاصة السياسية والتاريخية والأكاديمية إنما تكمن فى أنه الوثيقة المصرية الوحيدة التى كتبها مسئول مصرى كبير عاصر أحداث السويس، وكان من بين صُناع هذه الأحداث.

وهذا ما جعل الجامعات ومراكز الدراسات السياسية والأكاديمية فى بريطانيا وغيرها ينتظرون صدور هذا الكتاب بفارغ الصبر بعد أن علموا أنه سيصدر باللغة الإنجليزية، وبعد أن تأكدوا أنه سيصدر بلا تحريف أو إضافة أو حواشى أو ملاحظات من أحد، وهو الشرط الذى أصرت عليه أسرة المرحوم الدكتور «فوزى»، أما الشرط الثانى - والذى أوصى به الدكتور «فوزى» نفسه، فهو أن يصدر الكتاب باللغة التى كُتب بها أولا، ثم بترجمته العربية بعد ذلك.

ولصدور الكتاب قصة تروى، فقد ذهبت أسرة الدكتور «فوزى» بمخطوط الكتاب إلى السيد «كمال حسين على» وكان وقتها نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للخارجية، وطلبت منه أن يعمل على طبعه!

وعهد السيد «كمال حسن على» بالنسخة إلى الصديق السفير «يوسف شرارة» سفير مصر الحالى فى لندن (سنة 1986) والذى كان وقتها مديرا لمعهد الدراسات الدبلوماسية، وحرص السفير «يوسف شرارة»، على تنفيذ وصية المرحوم «فوزى» الذى ربطته به صلات وثيقة وقاوم بشدة أية اقتراحات لتقديم الكتاب أو شرحه أو التعليق عليه، وأصر على أن يظهر كما هو، وأن يحافظ على كل كلمة فيه باعتباره وثيقة مهمة - تخضع فيما بعد للتحليل والتعليق ممن يشاء - ولكنها يجب أن تحتفظ بنقائها الأصلى بلا أى تغيير أو تحريف أو تبديل، وهو ما وافق عليه مشكورًا الأستاذ «محمد المعلم» - والد الناشر الأستاذ إبراهيم المعلم - صاحب دار الشروق بالقاهرة وبهذا أمكن أن يظهر الكتاب للنور.

 

 

 

وهذا بالضبط ما التزمت به أيضًا عند الترجمة، فقد توقفت كثيرًا عند بعض الجمل أحاول أن أستشف ما كان يقصده الدكتور «فوزى» بها، وخاصة أنه كان ضليعًا فى اللغة الإنجليزية مثلما كان ضليعًا فى اللغة العربية، وساعدنى على ذلك أننى عاصرت هذه الأحداث بالقرب منها عندما كنت منتدبا بمكتب رئيس الجمهورية وقتئذ، وأتيحت لى الفرصة لترجمة معظم الوثائق والمستندات الخاصة بأحداث السويس».  

ويكمل المترجم د.مختار الجمال مقدمته المهمة قائلا:

«لم يكن الدكتور فوزى يستخدم اللغة مجرد وسيلة لإيصال المعلومة، فهذا آخر ما كان يفكر فيه، ولكنه كان يؤمن بأنه لا يمكن الفصل بين الأسلوب والمضمون، ولم يكن يحب المباشرة، فهو أبعد عن أن يكون مباشرًا فيما يرمى إليه، ولم يكن يستخف بعقلية المستمع أو القارئ ولكنه كان يخاطب ذكاءه بأقل عدد من الكلمات الحبلى بأدق المعانى وأعمقها، لهذا فالكتاب الذى بين يديك ليس مجرد ذكريات متفرقة عن حدث مر بمصر، لكنه قطعة سياسية ثمينة يجب أن تعاد قراءتها والتمعن فيها لأن كل سطر يحوى من المعانى البعيدة الكثير.

ولن أتحدث عن مضمون الكتاب، فهو يتحدث عن نفسه، ولن أعلق على شيء احترامًا لوصية الدكتور «فوزى» ولكنى أحيى هذا الدبلوماسى العريق الذى شاء قبل وفاته أن ينتقى من بين مذكراته المبعثرة هذا الحدث الفريد فى تاريخ مصر فسجله بقلمه. وجاء تسجيلا صادقًا ورائعًا وممثلا لصوت مصر الذى دوى فى العالم كله معلنًا اجتيازها عن جدارة أصعب امتحان تبتلى به دولة صغيرة عندما تهاجمها ثلاث دول بشراسة ومعلنًا أيضًا لكل الشعوب أن مصر بصمودها وبشعبها وبجيشها وبقيادتها وبدبلوماسيتها وبأهميتها - هى محط أنظار العالم وبؤرة اهتمام كل الدول صغيرها وكبيرها، هكذا شاء القدر وهكذا تحمل رجالها المسئولية».

انتهت مقدمة المترجم د.مختار الجمال وهو حاصل على درجة الدكتوراة فى العلوم السياسية من جامعة «ريدنج» بالمملكة المتحدة وترجم أكثر من أربعين كتابًا فى الدبلوماسية والسياسة الدولية والاستراتيجية وألف قاموسًا للمصطلحات السياسية والدبلوماسية وحصل على وسام الجمهورية.

ويكتب د.محمود فوزى مقدمة مهمة لكتابه أشار فيها إلى كتاب «كريستيان بينو» وزير خارجية فرنسا وكتاب «سلوين لويد» وزير خارجية بريطانيا زمن حرب السويس, وأشار د.محمود فوزى إلى سطور «سلوين لويد» قال فيها «من المؤكد أننى لم أكن أريد أن أحيى خلافات الماضى، إن ما أردت أن أفعله أن أسجل بكل ما أستطيعه من دقة وبعد شهور وشهور من قراءة السجلات والكتب - ما أعتقد أنه حدث ولماذا، لقد كتبت ما كتبت من أجل التسجيل ولأن سجلى كان ضائعًا بين السجلات».

ويعلق د.محمود فوزى على تلك السطور بقوله: «وهو ما يحدث لى أيضا فها أنذا أكتب الآن بكل ما أستطيع بوضوح واختصار، ولكنى شعرت كما قد يشعر آخرون فى مثل ظروفى بأننى مدين لشعبى ولآخرين بشيئين بالذات لابد من تسجيلهما:

الأول: أمور لم تكن معروفة سوى لى وللجانب الآخر الذى كنت أتعامل معه وهو ما يتطلب إما أن أسجل هذه الأمور بالكامل أو أصحح أو أكمل ما سجلوه!

والثانى: تحليلى لهذه الأمور وتقييمى لمغزاها والطريقة التى عولجت بها، ولا يمكن أن يقوم أحد بهذين الأمرين بالوكالة، ولهذا فلابد أن أستمر فى هذه المهمة وربما وأنا ابتسم».

ولحكاية مذكرات د.محمود فوزى بقية!