الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

جلال جمعة.. عبقرى البورتريه السلك!

أهدى رسام الكاريكاتير الفنان سمير عبدالغني، إلى مجلة «صباح الخير» حلقاته المميزة عن جيل الأساتذة من رسامى الكاريكاتير، قبل أن يجمعها فى كتاب يوثق خلاله رحلة هؤلاء مع أحد أهم فنون الصحافة من خلال حكايات وذكريات، عاشها معهم، وصاحبهم خلالها على مدار سنوات عديدة، حرص على توثيقها لتقديمها إلى محبى فن الضحكة والبسمة، وللأجيال الجديدة التى لم يسعدها الحظ أن تتابع رسومات هؤلاء الفنانين فى زمانهم.



 

 

 

 فى البداية كنت أكتبها محبة للصديق الذى اقتربت منه أكثر من أى أحد وأصبحت كاتم أسراره، ومعى سيديهاته وملفات فضائح طفولته وشبابه..   وكان يقول لى البعض: لا داعى للمجاملة.. نحن نقدره ولكن يكفيه أن تكتب الفنان الكبير.. أو الجميل .. أو الرائع.. أو أى شيء آخر.

 

 مر وقت .. ربما أكثر من عشر سنوات انتقلنا فيها من الصداقة للعمل معًا فى مؤسسة «دوم» للثقافة مع الكاتب خالد الخميسي.. فكانت هدايا المؤسسة لكل المبدعين أعمالًا من جلال جمعة.. وكانت البداية تكريم الفنان الكبير ناجى شاكر (أحد مؤسسى مسرح العرائس) الذى ما أن شاهد العمل حتى أعطى عمنا جلال اللقب.. مرورًا بمجموعة من الممثلين والنقاد والمبدعين أصدقاء المؤسسة.

 ثم شهادة جورج البهجورى الذى  صنع له جلال جمعة درع مسابقة باسمه فى الملتقى الدولى للكاريكاتير قدمها بهجورى بنفسه للفائزين على المندلاوى  من العراق وأنس اللقيس من لبنان.. وعلى أرتيست من البحرين.

 حتى كتب الناقد الكبير صلاح بيصار كتيبًا صغيرًا بعنوان «سحر الأشكال فى مجسمات وأعمال جلال جمعة»، فكان شهادة على أهمية وعبقرية وتفرد جلال فى مجاله.. ثم توالت المعارض بعد انتقالنا للعمل فى  إدارة جاليرى الجريك كامبس بناء على طلب أحد أقاربه «الأستاذ طارق طه»، وهناك عرف الفنان جمهورًا مختلفًا كان يأتى به مالك الجريك أحمد الألفى، فكانوا رجال أعمال من كل أنحاء العالم ووزراء وسفراء للعديد من الدول ودكاتره ومسئولين بالجامعة الأمريكية.. وبدأ جلال يحتاج إلى من يترجم له كلمات الإطراء بكل لغات العالم ومع الوقت طالت قامة جلال جمعة الفنية. 

 

 

 

 أصبح أطول وأعرض، وأصبح أكثر إشراقًا كنجوم السينما.. يتحرك فى مكتبة الجامعة الأمريكية كأحد المشاهير وأصبح الجميع يلقبه بالعبقري.. وتفنن جلال فى عمل البورتريه بالسلك.. لكل المشاهير فى مصر والعالم العربي. من نوادره عندما سأله أحد الصحفيين ذات مرة وكنت أجلس إلى جواره.. أنت يا أستاذ بتعمل الثور بأكثر من شكل.. إيه السبب؟.. فنظر  إلىّ سريعًا ثم قال: أعمل إيه ده الموديل المتوفر.. جلال بارع فى تعليقاته الساخرة وأيضًا يتحمل السخرية.

كنا قد قررنا عمل مشروع لطباعة أعماله على تيشرتات وقد وضعنا مبلغًا كبيرًا فى هذا الأمر.. وفى أحد المعارض الخاصة به عملنا ركن للتيشرتات وجاءت له صديقة قديمة تسآله: كنت مهندس ديكور معروف وصاحب مصنع أثاث وتركت كل ذلك من أجل الفن..هل هناك مكاسب تحققت؟

 مسك جلال «تيشرت» من المطبوعين  وقال لها: من ساعة ما عرفت سمير عبدالغنى وأنا ببيع هدومى، هو فى الـ75، وكنا قد اتفقنا أن تكون حركته فى حدود إنتاج الأعمال  الفنية، ويترك لى الباقى، ويظل جلال يشكو من أوجاع الظهر والمفاصل حتى تدخل الجاليرى فتاة عشرينية فتجده تبدل وانطلق يعدو كمحمد صلاح، يفتح باب الجاليرى الزجاجى ويبتسم ابتسامته الساحرة فتظهر ثلاثة أسنان هى آخر ما تبقى فى فمه ويتحرك بخفة ويضحك كطفل وينظر لى وكأنه انتصر!

أما إذا كانت الضيفة فى الستين أو أكبر قليلاً.. يدعى أنه لا يرى من بعيد وليس لديه طاقة ويطلب منى أن أتحرك معها وهى تشاهد الأعمال!

 

 

 

أعمال جلال جمعة هى قطع من قلبه وإبداع روحة المرحة.

وكل عمل فنى يقدمه سوف تجد فيه حضوره وسخريته.

قد يتساءل البعض: أين تكمن عبقرية جلال؟ أقول لكم كلمة استعرتها من الفنان الكبير عصمت داوستاشى الذى قال: (اخترت الفن كى ألعب طوال الوقت).. جلال جمعة يلعب ويمارس طفولته، يسجل  حركات حيواناته وأطفاله وفتياته، هو له عقل يقظ يقف به عند بوابة الخيال يلتقط كل ما هو جديد ومدهش لمحبى فنه ومعجبيه وأنا أولهم.

جلال لديه زوجة وأولاد وأحفاد وأصدقاء لكنه لا يسعد ولا يشعر بالفرح الحقيقى إلا وهو جالس فى (بيت جلال)، وهى قاعة متحفية أمام قصر عابدين بها أعماله وقطع مهداة من إبداعات أهم الفنانين فى مصر وقد زار المكان سفراء بلجيكا وكوبا وكولومبيا والمكسيك والملحق الثقافى لفيتنام.

 

 

 

يمسك جلال بقطعة سلك يعيد تشكيلها ليصنع عالمًا من السحر والجمال.. ويقدم أعماله دون (اسكتش أولى) بل يرسم فى الفراغ.

 

 وكأنه ملك العالم..عندما تنظر إلى أعماله تشعر أنه تربى فى غابة صاحب الأسد والحيوانات المتوحشة كما صاحب الطيور المغردة.. فى بداياته الفنية كان يحتفى بالتفاصيل ويهتم بالتشريح فكان يصل بالعمل إلى حد التشابه وكأنه نسخة من الطبيعة، ثم تطور العمل الفنى فأصبح خطوطًا موحية ذكية.. تقدم لك العمل دون زخارف أو حواشي.. خط  واحد يرسم به العالم كله فى براعة وانسيابية يحسده عليها أعظم النحاتين فى العالم.. أحيانًا كنت أتمنى أن يكون جلال فى مكان آخر ليجد الاحتفاء المناسب لعبقريته.. لكن عندما أرى محبة الأصدقاء المقربين.. أشعر أن مكانه الطبيعى بيننا لأن أمثال جلال هم الذين يقدمون السعادة للبسطاء بدون مقابل، وينيرون لنا هذا الجزء المظلم من العالم بإبداعهم الراقي.. تحية لجلال فى كل يوم وكل ساعة وكل لحظة.