الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عصمت داوستاشى.. أكاديمية متكاملة للفنون

أهدى رسام الكاريكاتير الفنان سمير عبدالغنى، إلى مجلة «صباح الخير» حلقاته المميزة عن جيل الأساتذة من رسامى الكاريكاتير، قبل أن يجمعها فى كتاب يوثق خلاله رحلة هؤلاء مع أحد أهم فنون الصحافة من خلال حكايات وذكريات، عاشها معهم، وصاحبهم خلالها على مدار سنوات عديدة، حرص على توثيقها لتقديمها إلى محبى فن الضحكة والبسمة، وللأجيال الجديدة التى لم يسعدها الحظ أن تتابع رسومات هؤلاء الفنانين فى زمانهم.



 

 

 

 

كتب لى الفنان الكبير عصمت داوستاشى رسالة خاصة يقول فيها:

(الفنان الإنسان الجميل سمير عبدالغنى.. أتمنى أن تقبل دعوتى بعرض لوحاتك معى فى مارس القادم بأرت كورنر معرض مشترك سمير عبدالغنى وداوستاشى ومعنا النحات الجميل جلال جمعة.. أرجو قبولك دعوتى هذه.. لك محبتى وتقديرى)..

عندما قرأت السطور لم أصدّق نفسى.. أعرف الفنان الكبير منذ 35 سنة يساعدنى فى فهم العالم ويرشدنى نحو طريق الفن وبيننا مَحبة لا تنطفئ.. لكن أن يدعونى إلى معرض مشترك.. فهذا هو الجديد والمدهش.. شكرته..  شكرًا يليق بعظمته وجمال روحه.. هكذا يكون الآباء الروحيون.

 

بعد نهاية المعرض وجدته ترك لى فى القاعة 10 توالات مقاس (50×70) هدية.. لكى أستعد للمعرض القادم.

 

 

 

أعرف عصمت داوستاشى منذ زمن بعيد..وهو أحد أسباب وجودى فى القاهرة وعملى كرسام كاريكاتير، ذهبت إليه ليشاهد رسومى فى عام 1984.. ونصحنى أن أذهب إلى المتحف اليونانى الرومانى أرسم بالقلم الجاف لكى أعتاد على الجرأة فى رسم الخط.. وقال «ليس مطلوب منك عمل عظيم.. أنت بتتدرب ولا تقلق».

علمنى الفنان الكبير أشياء كثيرة..كان أهمها أن أتذوق الفن وأعرف أن الموضوع كبير.. أكبر من خطين على الورق.. وأن فن الكاريكاتير يعتمد على تحطيم النسب.. لكن قبل أن تحطم شيئًا يجب أن تعرفه.. واكتشفت بعد سنوات.. أن ما قاله الأستاذ فى جلسة يحتاج إلى عمر للتنفيذ.

«عصمت» ليس فنانًا عاديًا هو أكاديمية للفنون.. طاقة إبداع جبارة..

منذ أن شاهدت له أول معرض، وكان عبارة عن عرائس وبقايا أحذية وشباشب (كان متاثرًا بالمدرسة الدادية) وقتها لم أكن أعرف غير مدرستى الثانوية بباكوس.

مع الوقت ومن سماع رأى الفنانين فى أتيليه الإسكندية عرفت أن الفنان يقول شيئًا ويترك للمتلقى بقية الأشياء.. يجب أن تشاركه العمل الذى يمثل حالة بوح أو فضفضة أو صرخة فى لحظة صعبة من عمر الوطن.

أعمال عصمت تستثير الوعى وتتخطى الواقع لعالم يعرفه الفنان المستنير لكنه يترك لنا مفاتيح وعلامات لفك طلاسم العمل.

يجمع «داوستاشى» فى قلبه وعقله تراثًا حضاريًا يظهر ذلك جليًا فى جدارياته التى يرسمها وكأنه يسجل مَشاهد من التاريخ بلغة بصرية تجمع من كل دين حرفًا فتمتلئ أعماله بطاقة إبداعية وحضور إنسانى، ووجد صوفى يعرف لذته كل من يقترب..يستخدم الفنان رموزًا خاصة (الكف والعين والأسهم والتلافيف)، ويظهر الحصان كثيرًا وكأنه بطل لحكايات جدته، أو أحد شخصيات عالم «ألف ليلة وليلة» أحد ينابيع الخيال التى ملأت روحه.

 

 
 
 

 

أبرز ما يميز الفنان هو تمرده على الأشكال التقليدية.. هذا التمرد الذى جعله لا يقبل الاستمرار فى مرسم الفنان سيف وانلى.. أو أن يعمل فى ورشة الفنان حسن سليمان.. .كان قراره الداخلى بالتفرد وهو أحد الأسباب التى ساعدته كى يهرب من كل قيد فنى.

قرر عصمت داوستاشى أن يكون فنانًا تشكيليًا وناقدًا ومصورًا فوتوغرافيًا وكاتبًا للقصة القصيرة، وله تجارب فى كتابة السيناريو والإخراج التليفزيونى.. وقد نجح أن يكون مثلما تمنّى.. هو كل ذلك وأكثر.

مَرَّ وقتٌ طويل حتى نشرت فى جريدة القاهرة كاريكاتير لطفل يتحدث إلى المذيعة ويقول (أهم معالم إسكندرية عامود السوارى وقلعة قايتباى والمتحف اليونانى الرومانى والبحر وعصمت داوستاشى).. فيتصل الأستاذ ليشكرنى.. 

ليس هناك أجمل من صوت داوستاشى.. فيه طاقة أمل وإيمان ووشوشة البحر.. 

ذهبت إليه لأجرى حوارًا معه بناءً على تشجيع صديقى إسلام الشيخ المخرج الفنى بجريدة أخبار الأدب.. كنت أبحث عن الأسئلة التى كانت تشغله طوال حياته.

فى بيته فى العجمى.. ابتسم لى ومسح لحيته ولمعت عيناه حتى ظهر فيهما البحر وطفل صغير يركب مَركب الهواية.. كان سؤاله الأول لنفسه..  لماذا اخترت الفن؟

يقول: اكتشفت بعد سنين أننى اخترت الفن علشان فيه مساحة كبيرة من اللعب.. وأنا بداخلى طفل صغير جدًا يحب اللعب.. ولقد حاولت جاهدًا على مدار سنوات عمرى أن أجعله يكبر إلا أنه كان دائمًا وأبدًا يرفض ذلك.

وعن تأثير العائلة فى فنه يقول: فى البداية أحب أن أذكر أن عمّى كمال هو أول من اكتشف موهبتى فى الرسم.. أول من اشترى لى ورقًا وعلبة ألوان.. أعتقد أنه كان مشروع فنان لكن خذلته الحياة.. أيضًا كان والدى بيحب الفن.. لكن قدره هو وعمّى أنهم يشتغلوا فى الميكانيكا.. وأحب أذكر جدتى خديجة شبرا هانم.. أحد أسرار سعادتى فى طفولتى وبنك التسليف ومخزن الحواديت وبحر الحنان. لكن أجمل ما كان لديها أنها منحتنى الحرية...الحرية هى أهم حاجة للفنان.. فى بيت جدتى عملت الأراجوز.. وخيال الظل وعزمت كل أطفال الشارع تتفرج.. كنت أعيش فى منطقة بحرى ولا تزال أحد أهم مصادر الإلهام.

 

 

 

ويضيف: بسبب عمّى وأبى وجدتى ذهبت إلى المعلم الأول فى الفن (الوَحش).. هو أستاذى الأول بدون منازع.. لم أكن أعرف أن الرسم والتلوين فن.. عرفت ذلك عندما ذهبت إلى مرسم سيف وانلى.. الوَحش علمنى الصنعة.. كان عندى 10 سنوات اتعلمت أرسم وألوّن وأكتب على الحوائط وأزيّن العربات ثم بعد فترة أصبحت مساعدًا له.. ثم اكتشفت مراسم الفنانين وخرجت من بحرى وعرفت أن الدنيا أوسع لكن يظل دكان الوَحش هو الأكاديمية التى تعلمت فيها.

وعن الفنان العالمى الذى تأثر به يحكى: أحببت اثنين فى نظرى هما الألمع والأهم فان جوخ وجوجان.. الأول كان شغله من داخله اشتعال روحه واحتراق أعصابه والموضوع ليس زهرة الخشخاش ولا لاندسكيب.

أيضًا جوجان كان لديه شغف بالجمال الخارجى.. يلخصه ويعيد صياغته.. فى اعتقادى جوجان صاغ الرؤية البصرية للفن الحديث من حيث الألوان والأشكال والموضوعات؛ خصوصًا فى رسوم تاهيتى.

وعن سيف وانلى يقول: سيف وانلى فنان كبير ومهم لكن ليس أستاذى فهو لا يصلح لهذا الدور.. من الممكن أن نستلهم من فن سيف وانلى..لكن أنا أعتبر أستاذتى الحقيقية الفنانة عفت ناجى لقد تعلمت على يديها.

فكانت المدرسة والأستاذة وناظر المدرسة وهى تعلمت على يد أخيها محمد ناجى، الاثنان من المدرسة الأوروبية ثم تطلعا للمدرسة القومية القائمة على الجداريات وكانا يقولان بأن أولاً يجب أن يبدأ الفنان فى عمل الجداريات مثلما فعل المصرى القديم.. لكنهم حاربوها.. ارتكنت أيضًا على التراث الشعبى أخذته من سعد الخادم (زوجها).. أنا تلميذ عفت ناجى فى فكرها وسلوكها الإبداعى.. لكن لست مقلدًا لأحد.

ويوجّه «داوستاشى» رسالة إلى الجيل الجديد فيقول: على كل صاحب موهبة أن يتمسك ويحارب من أجل موهبته ولا ييأس أبدًا...فالموهبة ليست شيئًا سهلاً ولا عارضة أو تأتى وتذهب، وعلى كل موهوب أن يكافح كفاحًا مريرًا وأن يؤمن بما حباه الله ويحافظ عليها ويطرق كل الأبواب، لذلك على كل صاحب موهبة أن يتبناها بنفسه..ولا ينتظرأو يخاف.. عليه أن يرعى نفسه بنفسه.

وفى نهاية جلستى سألته هل انتصر عصمت داوستاشى فى معركة الحياة؟ أجاب: لقد أعطانى الفن حياة جميلة..أعمالى مطلوبة.. أقمت المتحف الذى كنت أحلم به ولدىّ أتيليه به أوراقى وكتبى وألوانى وأدواتى.. وقد قدمت لى قاعة ضى كل ما يتمناه الفنان فى هذه المرحلة من العمر.. أكثر من كتاب واحتفاء غير مسبوق بفنى.. سعادتى أننى لا أزال على قيد الحياة أعمل وأفكر وأحقق أحلامى التى لا تنتهى أبدًا.