الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عرابى فتوة الحسينية الذى خدع سعد زغلول!

خلال سنوات الحرب العالمية الأولى كانت معظم الأحياء الشعبية تحديدًا فى محافظتى القاهرة والإسكندرية تقع تحت سيطرة السلطات العرفية والتى يمثلها الفتوات، فالفتوة هو صاحب السلطة المطلقة فى منطقته ولا يملك السكان سوى الخضوع له ولكلمته، فقد كان الفتوة يقوم ببعض مثل حماية سكان المنطقة من عدوان فتوات الأحياء المجاورة، كما كان بمثابة الحكم فى الخلافات التجارية والزوجية وغيرها مقابل إتاوات يتقاضاها، واكتسب سلطته استنادًا إلى عرف اجتماعى له قوته وتأثيره، فعلى الرغم من مشاكسات الفتوات مع رجال الشرطة ومن كونهم بالأساس «بلطجية» فإن السكان كانوا يميلون بشكل دائم لإرضائهم لأنهم يعيشون فى وسطهم بشكل دائم وهم أقرب لهم فى كل الأوقات.



 

فى حى الحسينية وهو واحد من أعرق أحياء القاهرة ويقع بالقرب من الجمالية، ظهر «أحمد عرابى» مختلف عن الزعيم الوطنى، هو أحمد عرابى الفتوة الذى احتل بقوته الحسينية لمدة 55 عامًا وخاض من أجل ذلك معارك دامية ذكرتها الكتب وحكاها الناس لعقود من الزمن؛ أنصت لها حتى الأديب العالمى نجيب محفوظ نفسه قبل كتابة ملحمته الخالدة «الحرافيش».

كانت الحسينية خاضعة لنفوذ إبراهيم عطية خال أحمد عرابى، وكان قوىّ البأس يخشاه كل الفتوات وكان عرابى المولود عام 1885، مقربًا منه يلاحظ ما يفعل ويبدو أن قوة وسلطة خاله قد أعجبته وقرر أن يصبح مثله يومًا ما، قرر إبراهيم بعد سنوات أن يبعد عن «الفتونة» ويتوب إلى الله عن كل المعاصى التى ارتكبها مع سكان الحى.

 

أشهر فتوات الحسينية هو الفتوة أحمد عرابى
أشهر فتوات الحسينية هو الفتوة أحمد عرابى

 

كان أحمد عرابى قد أصبح شابًا يافعًا قويًا فجلس على عرش الفتونة وجعل نفسه زعيم وقاضى بين الناس وكانت كل الفتوات فى الأحياء المجاورة تخشاه وتحترمه، فقد اشتهر بقوته البدنية وجرأته وقوة نفوذه، وكان يفرض الكثير من الإتاوات على المحال والمقاهى فى الحى وكانت قهوته بمثابة محكمة يحكم فيها بين المتنازعين، وكلمته سيف على الرقاب وعلى الرغم من ذلك وصفه بعض الناس بأنه كان رحيمًا بالضعفاء ويساعد كل من وقع فى «ضيقة».

قتال عنيف!

بدأت معارك عرابى حين ظهر له فتوة منافس قوى فى حى القبيسى، وكانت العداوة تاريخية بين الحيين يتحاكى بها الفتوات والناس على المقاهى، بسبب معركة باب النصر عام 1909 حيث مات أحد فتوات حى القبيسى فاجتمع الأهالى لتشييع جنازته، لكن كان لفتوات الحسينية رأى آخر، حيث هاجموا الجنازة عند باب النصر ودار قتال عنيف بين الفريقين واتسع نطاق العراك حتى حيى السكاكينى والظاهر، وكانت الدماء تغطى الشوارع حتى تراجع فتوات القبيسى وهاجموا بعدها حى الحسينية مرة أخرى حتى يثأروا لأنفسهم، وكانت معركة دامية لم ينسها الناس.

تجدد هذا الصراع القديم بين أحمد الأسيوطى فتوة القبيسى الذى اشتهر بقوته وشدته وأعوانه المخلصين له وعلى رأسهم جمعة عمر وعيد عمر، وبين أحمد عرابى فتوة الحسينية الذى لم يكن يستطيع أى فتوة أن يقف أمامه.

أحمد عرابى
أحمد عرابى

 

 

بدأت الحكاية حين أحب عرابى فتاة تسمى عائشة الإسكندرية، حيث كانت تسكن فى حى «وش البركة» وأخضعها عرابى لحبه فارتبطت به، ولكنها عادت وتركته وأحبت رجلًا آخر كان يمتلك مقهى «ونيس» فى الحى، وحين عرف عرابى هاجم المقهى وحطمه ولم يتركه إلا خرابًا، فلجأ صاحب المقهى لفتوة القبيسى أحمد الأسيوطى ليحميه من بطش أحمد عرابى، وبالفعل تدخل الأسيوطى أكثر من مرة ورد عنه عنف عرابى، الأمر الذى جعل الأخير يضمر للأسيوطى عداءً شديدًا وتفكيرًا فى الثأر.

بعد وقت اعتزل الأسيوطى الفتونة وارتدى البدلة وعاش حياة الأفندية الهادئة، وكان فى يوم فى اجتماع مهم فخرج ووجد عرابى قد نصب له كمينًا هو وأعوانه فأحاط به وظل يبرحه ضربًا فأدرك الأسيوطى فداحة الموقف، وقام فأمسك برقبة عرابى وهدد بقتله حتى جاء البوليس. أخذ عرابى للقسم وتأجلت قضيته فخرج مع رجاله يشربون الخمر ويفكرون فى كيفية القضاء على الأسيوطى، وبالفعل هاجموا حى القبيسى لكنهم لم يجدوا إلا أعوان الأسيوطى «عيد وجمعة عمر»، ففقأ عرابى عين عيد وكسر ساق أخيه جمعة وكسر الحى بأكمله فقبض عليه مرة أخرى وحكم عليه بغرامة أربعة آلاف جنيه, وظلت معارك أحمد عرابى متجددة بشكل دائم، وكان من الضرورى حين تمر «زفة» أن تقف احترامًا أمام الحسينية لتحيته ولتضرب له «سلام مربع» حتى تمر الزفة بسلام, ولم يكن عرابى مؤثرًا فقط فى حيه وبين السكان، ولكنه كان مؤثرًا أيضًا فى الانتخابات المحلية فى فترة من الفترات وتحكى بعض المصادر عن واقعة تاريخية كان بطلها عرابى. حيث كان أحد المتنفذين الأثرياء ويدعى سليم بك يستعد لدخول الانتخابات البرلمانية مرشحًا عن حزب الوفد، وفى هذا الوقت كانت الأصوات تذهب للحزب باكتساح شديد، اختار الزعيم سعد زغلول «سليم بك» نظرًا لكفاءته السياسية وبراعته فى نشر أفكار الوفد وخدمة الناس، فى الوقت نفسه كان عبدالحميد البنان أحد أعضاء الوفد يريد الترشح بدلًا من سليم بك، ولكن سعد زغلول لم يوافق أبدًا رغم كل المحاولات، فاكتأب البنان وجلس فى قصره فى الحسينية وذات يوم جاءه أحمد عرابى يطلب مقابلته.

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

 

 

فلما وقف أمامه سأله بصوت قوى: لماذا انسحبت من الانتخابات يا سعادة البك؟ فدعاه للجلوس أمامه، وقال له بنبرة حزينة: الأمور السياسية لها مواءمات معقدة، وسعد باشا هو الذى يقررها، ونحن لا نملك غير الالتزام بما يقرره.

هز الفتوة «عرابى» نبوته، وقال بثقة كبيرة: «سعد باشا» يرى ما يراه، أما أنا فلى رأى آخر، كل ما عليك هو أن تقدم أوراق ترشيحك مستقلاً على مبادئ الوفد، ودع الباقى لى.

لم يثق البنان فى كلامه كثيرًا، لكنه كان ببساطة يدرك تأثير الفتوات على توجيه الجماهير نحو فكرة أو شخص معين، فتقدم بالفعل للترشح مستقلًا فاغتاظ سليم بك مرشح الوفد، فما كان من سعد زغلول إلا أن دعاه لعمل «صوان» كبير وسيأتى إليه بنفسه يخطب فى الناس حتى يدعم موقفه.

وبالفعل انتشر الخبر فى المنطقة كلها، أن سعد زغلول سيزور الحسينية، فعلقت صور الزعيم على البيوت كلها، وبات الناس ليلتهم على نواصى الحارات فى انتظار الزعيم، وقتها عرف البنان فخاف وأحبط واستدعى عرابى وهو غاضب وسأله: ما العمل؟

بيقين كبير رد عليه الفتوة: أقم أنت أيضًا صوانًا أكبر من صوان «سليم بك»، وادع الناخبين، ودع الباقى لى.

 

سعد زغلول
سعد زغلول

 

موكب الزعيم

فى اليوم التالى كان صوان سليم بك مزدحمًا بالناس التى تنتظر قدوم سعد زغلول وكان صوان البنان فارغًا تمامًا، ولكن عرابى أخذ أعوانه ووقفوا فى مداخل الطرق حتى جاء موكب الزعيم فأوقف عرابى الموكب وظل يهتف للوفد ولسعد زغلول وللاستقلال فخرجت كل الناس من صوان سليم بك إلى موكب سعد زغلول فحمل عرابى وأعوانه سيارة سعد حتى دخلوا بها لصوان البنان فدخل خلفه الناس وبينهم سليم بك نفسه ووقف سعد زغلول وخطب فى صوان البنان بدلاً من صوان سليم بك وفاز بعدها البنان باكتساح.

 

لم يكن عرابى مؤثرا فى الحسينية فقط بل وصل دوره للإنتخابات المحلية أيضا
لم يكن عرابى مؤثرا فى الحسينية فقط بل وصل دوره للإنتخابات المحلية أيضا

 

لم يدم الحال طويلاً لأحمد عرابى فرعونته وتصرفاته غير المسئولة أوقعته فى فخ لم تقم له قائمة بعدها، ففى عام 1930 هاجمه ضابط إنجليزى فهجم عليه عرابى وضربه ضربًا شديدًا حتى كسر عظامه وتورم وجهه فكوّمه فى مدخل إحدى البنايات، وكلما حاول الضابط القيام ضربه عرابى بنبوته مرة أخرى حتى طلع النهار واستسمح الناس الفتوة كى يترك الضابط فلم يوافق إلا بعد أن يمشى هذا الضابط عاريًا تمامًا فوافق الضابط ومشى حتى القسم عاريًا، ووقتها وجّه رئيس الحكومة بضرورة أن ينتهى عصر الفتوات فهجمت قوة بوليسية على الحسينية، وجروا عرابى للقسم وضربوه ضربًا عنيفًا حتى خرج على حال يرثى لها.

 

ضرب ضابط إنجليزى قضى على عصر الفتوات
ضرب ضابط إنجليزى قضى على عصر الفتوات

 

انتهز الناس الفرصة وقدموا بلاغات فيه فكان يجر للقسم بشكل يومى تقريبًا وتزفه الأطفال فى الشوارع حتى منع تمامًا من الجلوس فى المقهى ولا الحديث مع الناس حتى مات وحيدًا فى منزله.