الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أمير الشعراء يهدد هيكل باشا بالاستقالة!

أمير الشعراء يهدد هيكل باشا بالاستقالة!

فوجئ طالب الطب والكاتب الشاب «سعيد عبده» برفض د.محمد حسين هيكل باشا - رئيس تحرير جريدة السياسة لسان حال حزب الأحرار الدستوريين بنشر مقاله الذى ينتقد فيه د.طه حسين وقال له: إن أكثر الناس ضيقًا بالنقد هم النقاد!



خرج «سعيد عبده» غاضبًا ومحبطًا ومصدومًا وهو يرثى لحرية الرأى والكلمة وبعد يومين ذهب إلى أمير الشعراء أحمد شوقى فى مكتبه وحوله أصدقاؤه الدائمون، ودار حوار حول مقال د.طه حسين وقال أحدهم إنه أرسل ردًا إلى جريدة السياسة لكنها لم تنشره! وقال له سعيد عبده: اطمئن فإن شيئا لك أو لسواك لن ينشر فى هذا الموضوع!

وتنبه أحمد شوقى لهذه العبارة وقال لسعيد عبده: ومن أين لك كل هذا التأكيد؟!

وروى سعيد عبده ما جرى معه قائلا لأمير الشعراء:

- لقد ذهبت برد إلى جريدة السياسة فأدركت هناك أن ذات الدكتور «طه حسين» لا تمس مثل ذات الملك فؤاد!!

ووجدت مقلتى «شوقى» ترتعشان كما كان العهد بهما عند أى انفعال، وقام من مجلسه فخرج إلى غرفة أخرى ثم دعانى إليه وسألنى فى لهفة، إن كان معى ما كتبت فى هذا الموضوع؟ قلت: لقد تركته فى البيت!

وحمدت الله على أنى لم أكن مزقت المقال وكانت نفسى فى «غمرة» القهر، راودتنى أن أفعل! ووصفت لسائق سيارته عنوان البيت فى حى المنيرة وعلى مقربة من دار السياسة وكانت فى شارع المبتديان وأتيت له بالمقال، فقرأه فى السيارة ونحن فى طريق عودتنا إلى المكتب، ولم يكد يفرغ منه حتى رأيت وجهه مغمورًا بالبشر والبشاشة، ومقلتيه ترتعشان، وأمر السائق أن يعود من حيث أتى إلى دار السياسة!!

ويحكى سعيد عبده ما جرى فى مقر جريدة السياسة قائلا:

دخلنا على الدكتور «هيكل» فقام مرحبًا بضيفه الذى لم يسلم وامتلأ وجهه بالوجوم ودون أن يلبى الدعوة إلى الجلوس، قال للدكتور «هيكل» فى هدوء وهما واقفان:

- أحسبك اطلعت على هذا المقال؟ إنه إذا لم ينشر فى نفس المكان الذى نشر فيه مقال طه حسين فى الأسبوع الماضى فسيكون هذا فراق ما بينى وبين السياسة إلى الأبد!!

ألقى شوقى بهذه القذيفة وترك المقال على مكتب الدكتور هيكل وخرج وخرجت معه دون أن يلقى على الدكتور هيكل حتى تحية وداع!

ويضيف سعيد عبده: أن قصائد شوقى حين كان يختص صحيفة بنشر واحدة منها - حتى لو كانت السياسة - كانت الصحيفة تعلن عن ذلك قبل نشر القصيدة بيوم أو يومين إذا اتسع لها الوقت، وكانت قصيدة «شوقى تنشر فى صدر الصحيفة بحروف مشكولة وأكبر حجمًا من الشكل المألوف، وكان توزيع الصحيفة يرتفع إلى أربعة أو خمسة أمثال توزيعها فى سائر الأيام، وفى حالة جريدة السياسة كان التوزيع يرتفع على الأقل إلى عشرة أمثال!

 

 

 

وكانت السياسة تباع علنًا فى مثل هذه الأيام وينادى عليها الباعة لا باسمها ولكن باسم قصيدة «شوقى» وكانت السياسة تنتهز مثل هذه الفرصة وتقول كل ما لديها عن الوفد والحرية المضطهدة وسعد زغلول!!

لم يكن لدى الناس ما يملأون به فراغ أوقاتهم إلا القراءة، إذ لم تكن هناك إذاعة ولا تليفزيون، وحتى السينما كانت لم تبلغ أشدها بعد! وكانت قصيدة من قصائد شوقى أو حافظ إبراهيم كفيلة بأن تبسط ظلها على الناس بضعة أيام أو ربما بضعة أسابيع!

وفى اليوم التالى لمقابلة شوقى والدكتور هيكل، وكان يوم اثنين ظهرت فى نهاية عمود من أعمدة إحدى صفحات السياسة كلمة تحت عنوان «حديث الأربعاء» جاء فيها «إن الجريدة ستنشر فى حديث الأربعاء القادم ردًا من الأديب «سعيد أفندى عبده» على مقال الدكتور طه حسين حول قصيدة أمير الشعراء الأخيرة، وتعليقًا على هذا الرد من الدكتور طه حسين!

وظهر حديث الأربعاء فى موعده ونشرت كلمتى كما هى، وبدأت أقرأ تعليق الدكتور طه حسين ويا له من تعليق!! لقد نسى الدكتور طه أو تناسى الموضوع بأسره، ونسى «أرسطوطاليس» وكتابه، ونسى «أحمد لطفى السيد» وترجمته، واقتصر التعليق على التنديد بالشبان الذين يتخذهم الشعراء «دريئة» (أو لنقل بالعامية برافانًا يستترون وراءه!!).. هذا فى الجزء الأول من التعليق، أما فى الجزء الثانى، فهو أنه عرف الأدب والصرف والنحو والبلاغة قبل أن أولد!! أما الأسئلة التى وجهتها إليه فلا رد على واحد منها، ولا إشارة إليها، ولا مجرد تصحيح لى إن كنت قد تنكبت فى أى منها سواء السبيل!

يعترف الأستاذ «سعيد عبده» أنه غضب فى البداية وفى ثورة غضبه كتب ردًا قاسيًا على تعليق الدكتور «طه» ولم يبال فيه مكانته فى الأدب قدر ما راعى فيه قدره الضئيل من الأستاذية فى هذا التعليق العجيب، ويكمل قائلا: ذهبت بالرد إلى الدكتور «هيكل» فقرأ متئدًا والضحكات تتردد من فمه بين الحين والحين ثم انثنى إليّ يسألنى: هل تظننى قادرًا على نشر هذا المقال؟

قلت: كلا.. إنما أردت فقط أن يقرأه الدكتور «طه» وإنك لتحسن إليّ كثيرًا أن مكنتنى على الأقل أن أقول له بصراحة بأن سلاطة اللسان فى استطاعة أى مخلوق يحسن التعامل مع الأوراق والأقلام!

قال: إذن فمر عليّ فى المساء وسأخبرك عن مصير هذا المقال، ومررت عليه فى المساء، وكان معه الدكتور «طه حسين» وكانا على ما يبدو يتحدثان بصوت عال فى الموضوع، وقدمنى الدكتور هيكل إليه، فقام من مجلسه وصافحنى، ثم وجه الخطاب إلى الدكتور هيكل قائلا:

- اعتبرنى مستقيلًا من السياسة إذا نشر حرف آخر فى هذا الموضوع!

ثم برح الغرفة فى صحبة سكرتيره الخاص، وقال لى الدكتور هيكل بعد لحظة سكوت: أرأيت؟!

 

 

 

قلت: نعم ويا سوء ما رأيت!

قال: وسنذهب إلى «شوقى» من جديد؟!

قلت: إنك تظلمنى.. فأنا لم أذهب إلى شوقى فى المرة الماضية، حتى أذهب إليه فى هذه المرة، وما كانت إلا مصادفة معرفته بالمقال!

ثم أخذت مقالى الجديد من أمامه ومزقته وألقيته فى سلة المهملات قائلا:

- حسبى أن يكون الدكتور طه حسين عرف رأيى فيه، وما يهمنى بعد ذلك أن ينشر أو لا ينشر المقال!

ويعترف الأستاذ «سعيد عبده» قائلا:

- ولعل الدكتور «طه حسين» كان على حق فى ظنه بأن «شوقى» هو الذى حرضنى على كتابة المقال دفاعًا عنه، وربما يكون قد أجبرنى عليه، إذ يبدو أن هذه «الشنشة» كانت معروفة عن الشعراء فى ذلك الحين، أن يوغر شاعر إلى كاتب بالدفاع عنه لقاء أجر معلوم!

فقد قابلنى بعد يومين من نشر المقال فى حديث الأربعاء، أحد قدامى الصحفيين وكان يصدر صحيفة تسمى «الصاعقة»، وكانت مفتوحة لمثل هذه الحملات المأجورة على الشعراء والكتاب، بل لعل مثل هذا التراشق بالحملات والردود عليها كان صُلب ما يكتب فى هذه الصحف وكانت تسمى «الوريقات الصفراء»!

وسألنى «أحمد فؤاد» (صاحب الصاعقة) وكان فى أواخر أيام حياته:

- كم أعطاك شوقى عن هذا المقال؟

قلت: خمّن؟ قال: مائة جنيه؟

قلت: أقل: قال: خمسين؟

قلت: لا - بل أقل!!

فتأججت فى عينيه الباهتتين نظرة غضب واحتقار شديد وقال: إذن فخمسة وعشرين! قلت: إنه لم يعطنى شيئا وإن كنت تناولت على مائدته وجبة غداء!

وتفجر وجه «أحمد فؤاد» بالدم، ورفع يده يحاول أن يصفعنى ولكنى زُغت منها، وراحت صفعته هباء وانفجر قائلًا: خيبة الله عليكم يا كلاب لقد أفسدتم علينا السوق!!

وأدركت حينئذ لماذا قال الدكتور طه حسين عنى ما قال، فقد كان أخبر منى بهؤلاء الكتاب، ورحم الله الجميع». ويتوقف الأستاذ «د.سعيد عبده» عند هذا الحد وأعود إلى ما كتبه الأستاذ «عباس محمود العقاد» فى كتابه المهم «رجال عرفتهم» فيقول عن «أحمد فؤاد الصاعقة» ما يلى:

إذا كان سبب من أسباب السمعة مانعًا للكتابة عن أحد، فهذا الكاتب الصحفى أولى الناس بالسكوت عنه، وكان فؤاد الصاعقة أبرع هؤلاء الجباه فى استغلال وجاهة الوجيه وهيبة المهيب شفويًا وتحريريًا بغير عناء وهو عالم بحدود العرف والقانون مع كل طبقة، وكان له «جُعل» من المصروفات السرية يصيبه حينًا ويفقده حينا ويتطلبه فى جميع الأحيان.

كان يقول لى كلما لقينى بدار البلاغ أو الأهرام: أنا أعلم أنك لا تخافنى كما يخافنى فلان وفلان، وكل ما أرجوه منك ألا تجهر بذلك أمام هؤلاء، ودعنا نأكل عيشنا معهم يرزقنا الله وإياك!».

وللحكاية بقية!