الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
طالب الطب الناشئ يتحدى د. طه حسين!

حكايات صحفية

طالب الطب الناشئ يتحدى د. طه حسين!

خدعوك فقالوا إن «الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية» العبارة جميلة، لكنها غير حقيقية، وكاذبة خاصة بين كبار الأدباء والمفكرين، فمن النادر أن تجد أديبًا كبيرًا أو مفكرًا مهما يتقبل أى نقد يقال عنه حتى لو كان نقدًا مهذبًا مؤدبًا لا توجد به كلمة مسيئة أو لفظ مسىء!



وتاريخ الأدب الحديث حافل بعشرات الأسماء والحكايات، ومنها حكاية طالب الطب والزجال الشهير «سعيد عبده» مع د. طه حسين نفسه!

كان صاحب أشهر باب صحفى فى الصحافة المصرية وهو «خدعوك فقالوا» وكان نجم روزاليوسف فى كتابة الزجل السياسى والموال!

فى سنواته الأخيرة كان يكتب من حين إلى آخر مقالات متفرقة سواء فى الطب أو الأدب، ولعل أهمها على الإطلاق مقالة فى مجلة «العربى» الكويتية بعنوان «بين شوقى وطه حسين» «عدد سبتمبر سنة 1978» ويروى فيه ذكرياته وكان لايزال طالبا فى كلية الطب مع د. طه حسين وأحمد شوقى أمير الشعراء وغيرهم من نجوم الأدب والصحافة يقول:

 

 

 

«كان المغفور له الدكتور محمد حسين هيكل باشا رئيس تحرير جريدة السياسة الناطقة باسم «حزب الأحرار الدستوريين» فى العشرينيات، من القرن العشرين، كان يقرأ المقال الذى أعطيته إياه، وأسارير وجهه تنفرج عن ابتسامة بين الحين والحين، فلا أدرى إن كانت ابتسامة سخرية مما يقرأ، أو ابتسامة رضا واستحسان؟!

وحين انتهى من قراءة المقال طواه، ووضعه على يسار مكتبه وهو الجانب القريب من المقعد الذى كنت أجلس عليه وقال لى ضاحكًا:

- هل تحسب أنى أستطيع نشر هذا المقال؟

قلت: بعد سقوط الألقاب، كان يهمنى أولا أن أعرف رأيك فى المقال!

قال: إن المقال بديع، ولكن هل تحسبنى أستطيع نشره؟

قلت: لا أظن شيئا يحول بينك وبين نشره وأنت رئيس التحرير؟

قال مبتسما: إن رئيس التحرير ليس حاكما بأمره على الدوام!

قلت: إن ثمة ظلما قد ارتكب فى حق «شوقى» أمير الشعراء فى «حديث الأربعاء الماضى» للدكتور «طه حسين»، وأعتقد أن من حق كل محب لشوقى أن يحاول رفع هذا الظلم، لاسيما أن «السياسة» جريدة تنتسب إلى الحرية، ومقالات كتابها عن الحرية فى بضع السنوات الماضية، لاتزال أصداؤها تتردد فى آذان الشباب!

قال: أتعلم ماذا يحدث لو نشر هذا المقال؟!

قلت: لا أظن شيئًا سيحدث على الإطلاق!

قال: إذن فدعنى أقل لك- وهذا الكلام بينى وبينك - إنك لا تعرف الدكتور «طه حسين» أن أكثر الناس ضيقا بالنقد هم النقاد!

قلت: ولكنى لا أنقد الدكتور «طه حسين» وقد وضعته فى مقالى موضع الأستاذ - كما هو أهل لذلك - ووضعت نفسى منه موضع التلميذ!

قال: يكفى أن تكون قد أشرت فى مقالك إلى بعض عثراته، ولو بمنتهى الأدب حتى يثور وإذا ثار «طه» لشىء نُشر عنه بالسياسة فالحساب بيننا وبينه يطول!

قلت: إذن فقد كنت مخطئًا، طوال عدة سنين، فى النظر إلى الدكتور طه حسين وإلى صحيفة الأحرار الدستوريين، التى أصبحت أظن أن الحرية فيها تحتاج إلى مصباح! ترى أكان كل من يكتبون عن حرية الرأى وحرية الكلمة مجرد هباء تذروه الرياح؟!

ويمضى د. سعيد عبده فى ذكرياته قائلا: «لم يضق هيكل باشا - أو لعله كان يومئذ «هيكل بك» - بشىء مما قلت فقد كان الرجل واسع الأفق، رحب الصدر إلى حد كبير، وقد أدرك ما يعتلج فى نفسى من ضيق، وأجابنى والابتسامة لا تفارق شفتيه!

إن من العجيب أن يكون هذا رأيك فى الدكتور طه، وقد كان يحدثنى بشأنك منذ بضعة أيام، وبإمكانى نقلك من كلية الطب إلى كلية الآداب مع تعهده بتعليمك فيها بالمجان!

 

 

 

ويشير د.سعد عبده إلى أن الجامعة فى ذلك الوقت تتقاضى من طلابها نفقة التعليم التى لم تكن قليلة بحساب النقد فى تلك الأيام وكان الدكتور طه حسين أستاذا للأدب العربى بكلية الآداب، ويكمل د.سعيد:

- لا أخفى أنى شعرت بشىء من الزهو لهذه التحية.. وقد كنت كتبت فى السياسة منذ حين عدة قصص ومقالا نقديًا عن كتاب ألفه «أحمد محمد حسنين باشا» عن رحلة له فى الصحراء، وعددت هذه التحية موجهة لكل كلمة كتبتها فى السياسة.. بيد أن الزهو وإن كان قد تطلب منى كلمة شكر رقيقة - إلا أننى لأسباب خاصة لم أرحب بالاقتراح، وأثرت الاستمرار فى دراسة الطب حتى النهاية، رغم ما صادفنى فيها من عقبات بسبب مرض مزمن مؤلم عنيف كان ينتابنى منذ عدة أعوام!

بعد شكر الدكتور طه وهيكل باشا على نياتهما الطيبة نحوى.. عدت إلى نقد الدكتور طه فى حديث الأربعاء الذى كان يكتبه للسياسة كل أسبوع لقصيدة كانت نشرت لشوقى قبيل ذلك بقليل، وكان يحيى فيها الأستاذ «أحمد لطفى السيد» على ترجمته لكتاب «أرسطو» عن الأخلاق.. وإلى قسوته فى ذلك النقد قسوة تخطت كل حدود النقد غير المغرض، كما تخطت كل أصول العدل والإنصاف، مما أوقع الدكتور «طه» فى كثير من الأخطاء ولم يكن مثله من يقع فيها لو كان يجرى على سنن النقد الموضوعى الهادئ الرصين!

يضيف د.سعيد عبده: وكان ردى على الدكتور «طه» مصوغًا فى شكل أسئلة يوجهها تلميذ ناشئ إلى أستاذ عظيم، يرجوه أن ينير له فيها سبيل الرشاد بين ما ورد فى قواميس اللغة وكتب الأدب والبلاغة وبين ما أخذه الدكتور «طه» على «شوقى» من أخطاء!

وحرصت أشد الحرص على ألا أثير ثائرته بكلمة يمكن أن يحس لها مرارة، فقد كنت أكبره وأحب القراءة له، وأتمنى فعلا لو بسط لى وجه الرأى فيما كنت أسائله فيه دون حاجة إلى أن يغضب أو يثور!

ورغم هذا كله فقد رفض الدكتور هيكل نشر المقال، بلطف أولا ثم بشىء كالزجر لما بدا منى من إلحاح.. بل إنه رفض مجرد عرض المقال على الدكتور «طه» حماية لى من غضبه على ما له فى من رأى جميل!

ويسترسل د.سعيد عبده فى ذكرياته فيقول:

وأخذت مقالى حزينا وانصرفت، وأنا أرثى للسنوات التى أضعتها فى الإيمان بما كان يكتبه هؤلاء الناس عن الحرية عامة، وعن حرية الرأى وحرية الكلمة بوجه خاص.. بل إننى رثيت أكثر للجهود التى طالما بذلتها للحصول على جريدة السياسة من باعة الصحف، ولم يكن يحملها منهم غير القليل - وجُبن باعتها عن بيعها علنًا للقراء بعد أن سماها  سعد زغلول «جريدة التعاسة»!

وكان سعد قد بلغ الأوج فى قلوب المصريين، وكانت مزية جريدة السياسة أنها كانت تضم نخبة من أكابر الكتاب والصحفيين، وعلى رأسهم «هيكل» وطه حسين ومحمود عزمى وتوفيق دياب وعبدالعزيز البشرى، إلى من كانت تستكتبهم من كبار محامى الأحرار الدستوريين أمثال إبراهيم الهلباوى..

وعلوبة، وتوفيق دوس ووهيب دوس!

يضاف إلى هذه المزية - الميزة - بكاؤها الدائم بدموع حرى على الحرية المغلوبة على أمرها فى وسط هذا البحر اللجى من الوفديين، الذى كانت أمواجه تتقاذف زورق الأحرار الدستوريين المسكين!

لقد كنت أخرج أنا والمهندس «أحمد الشرباصى» - وزير الأشغال السابق ونائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة الأسبق - وكان يومئذ طالبا بكلية الهندسة - كنا نخرج للبحث عن السياسة كل صباح، وكنا نجدها بعد لأى مع بائع أو آخر يبيعنا إياها خفية عن الأعين، وفى ركن قصى من أركان الطريق كأنه يبيعنا قطعة من الأفيون!

ويكمل د.سعيد عبده ما جرى بعد ذلك فيقول:

وقابلت «شوقى» بعد يومين فى مكتبه، وكان المكتب غاصًا ببعض أصدقاء الشاعر الدائمين، وأشار بعضهم عرضًا إلى مقال الدكتور «طه حسين» وبالغوا فى النيل منه ومن كاتبه، تملقًا وزلفى إلى أمير الشعراء، وإن كان شوقى نفسه لم يشترك بكلمة فى الحديث، وظل يمسح على جبينه بأصابعه وكانت عادة له فى مثل هذه الظروف!

وقال أحدهم: إنه أرسل ردًا إلى جريدة السياسة فلم تنشره حتى الآن!

فقلت له: اطمئن فإن شيئا ما - لك أو لسواك - لن ينشر فى هذا الموضوع ورددت كلمة الدكتور هيكل: أن أشد الناس ضيقا بالنقد هم النقاد!

وسألنى شوقى: ومن أين لك كل هذا التأكيد؟

قلت: لقد ذهبت برد إلى جريدة السياسة فأدركت هناك أن «ذات» الدكتور طه حسين لا تمس مثل ذات الملك فؤاد (ملك مصر فى ذلك الوقت) كما  جاء فى الدستور!

وللحكاية بقية أكثر غرابة وإثارة!