الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
اقتراح أنيس منصور للاحتفال بمئوية «الزعيم» «لينين»!

حكايات صحفية

اقتراح أنيس منصور للاحتفال بمئوية «الزعيم» «لينين»!

مع أوائل سنة 1970 - من القرن الماضى - بدأت دول المعسكر الاشتراكى وعلى رأسها الاتحاد السوفيتى - روسيا الآن - الاستعداد بالاحتفال بذكرى مرور مائة عام على مولد الزعيم الشيوعى «لينين» المولود عام 1870. ولم تفت على مصر أن تترك هذه المناسبة تمر دون أن تشارك «الاتحاد السوفيتي» الاحتفال بهذه المناسبة، فقد كان الاتحاد السوفيتى وقتها هو من ساعدنا فى بناء السد العالى وإعادة تسليح القوات المسلحة بعد حرب 1967. وربما لا يعرف البعض أن الزعيم السوفيتى «خروشوف» عندما زار مصر فى عام 1964، بمناسبة الاحتفال بتحويل مجرى نهر النيل فى أسوان، قام «خروشوف» بمنح الرئيس «جمال عبدالناصر» وسام «لينين» من لقب بطل الاتحاد السوفيتي!



وهكذا قررت مصر المساهمة فى احتفال مئوية «لينين»، وكان الدكتور رفعت السعيد وقتها أحد الذين شاهدوا عن قرب التحضير لهذا الاحتفال، وقد روى فى مذكراته «مجرد ذكريات» هذه القصة العجيبة والبالغة الغرابة فيقول: «ذات يوم تم استدعائى على عجل إلى مكتب «ضياء الدين داود» عضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى - التنظيم السياسى وقتها - هناك عرفت أننى أمثل المجلس المصرى للسلام - كان يرأسه خالد محيى الدين - فى اجتماع مهم.

وفى الغرفة المفرطة فى الأناقة وجدت تركيبة غريبة من الحاضرين، «يوسف السباعي» وكان سكرتيراً عاماً لمؤتمر التضامن الإفريقى الآسيوى، و«أنيس منصور» وعدداً آخر منهم أمين الاتحاد الاشتراكى فى الإسكندرية، كل منا ألقى بنظرة متسائلة للآخر، لم نعرف بعد سبب حضورنا، فقط احضر وحضرنا!!

 

 

 

قطعنا الوقت فى ثرثرة لاهية مشحونة بفكاهات يتقنها «أنيس منصور» عندما يأنس للجالسين معه، لم يسأل أحد منا عن هذه الرابطة التى يمكن أن تجمعنا، طرحت أشجار هواجسنا ألف احتمال واحتمال.. أبدًا لم نصل إلى ما هو محتمل!!

ويمضى د.رفعت السعيد فى رواية ما جرى بعد ذلك فيقول:

أخيرا حضر «ضياء الدين داود» وبدأ الحديث: «هذه اللجنة شكلت بقرار من السيد الرئيس لبحث موضوع الاحتفال بالعيد المائة لميلاد «لينين»!

لم يكمل الرجل الجملة، انطلق صاروخ هادر حاسم بكلمات راسخة مستقرة يعلوها زهو منتصر: إحنا يا فندم صاحيين تمام فى الإسكندرية، رصدنا كل المحاولات التى يقوم بها الشيوعيون، وحددنا المصدر، المصدر هو المركز الثقافى السوفيتى، وأبلغنا «أمن الدولة» بالوقائع والأسماء والتحركات التى يحاولون بها إقامة مثل هذه الاحتفالات غير المشروعة (!!!).

سكت قليلاً ليلتقط بعضاً من أنفاسه المتدفقة وقال: إحنا عملنا اللى علينا كتنظيم سياسى، الباقى على الأمن!!

ويعلق د.رفعت السعيد ساخراً بقوله: «كان المسكين يعيش الماضى ولم تتعلق أبصاره بالحاضر، ولم يحاول حتى أن يتفهمه، ولعله كان يستقى معلوماته وتعليماته من ضباط أمن الدولة، الذين كانوا يتابعون «الحليف» بحرص وكراهية تفوق متابعة العدو»، ويكمل د.رفعت:

 

 

 

- لم تهتز عضلة فى وجه «ضياء داود» ومضى - وكأنه لم يسمع شيئا ليواصل حديثه: الرئيس شايف إنه من المناسب مجاملة الأصدقاء السوفييت بتنظيم احتفالات واسعة بهذه المناسبة!

انفلتت رغم أنفى نظرات ساخرة ولكنها صامتة، وإن كانت مغلفة بشماتة متشفية تتجه نحو «أمين الإسكندرية» الذى لم يُبد عليه أى قدر من الارتباك، كان مدربًا فيما يبدو على مثل هذه المواقف!

وبدأ توزيع المهام، عبء المجلس المصرى للسلام حين، مجموعة من برقيات التهنئة وحفل الاستقبال!

أما العبء الأكبر فقد توجه نحو يوسف السباعى: مؤتمر جماهيرى، والرجل مُدرب حسن التدريب، ويتقن هذا الدور من فرط تكراره، ولهذا فلقد بدأ بصوته الهادئ الذى يصلح لإلقاء شعر عاطفى، وليس لحديث مرتبك كهذا! بدأ بتوجيه أسئلة مربكة عن حجم ومساحة ومدى التحرك المطلوب، وظل يسأل وبتدقيق دقيق، و«ضياء داود» لا يجد الإجابة المحددة والمتقنة التى اعتاد عليها «يوسف السباعي»، ربما لأنه لم يتعود بعد على تنظيم المؤتمرات الجماهيرية المبرمجة سلفا!

وعندما تاهت الإجابات فى محتوى الأسئلة الدقيقة، ارتفع صوت السباعى قليلاً: يا أفندم بصراحة لازم أعرف مقاس الاحتفال؟!!

دُهشنا جميعًا من هذا التعبير المثير للدهشة، لكن أكثرنا دهشة - ربما لأنه الأكثر مسئولية - كان «ضياء الدين داود» الذى قال بحدة:

- يعنى إيه مقاس يايوسف.. مطلوب مؤتمر جماهيرى وخلاص!

 

 

 

ورد «يوسف السباعى» المحنك والمدرب تدريباً كاملاً ليلقننا بعض أسرار المهنة: يا أفندم كل مؤتمر أو احتفال له مقاس متفق عليه من قبل، مثلا مطلوب احتفال شكلى سد خانة يعنى، نقعده فى اتحاد الأدباء! القاعة سعتها سبعون مقعدًا، نجمع أعضاء السكرتارية الدولية للتضامن والموظفين والمترجمين والسعاة!

القاعة تمتلئ وتبقى تمام! عايزين احتفال نص نص نقعده فى قاعة اللجنة المركزية، ونزود شوية مدعوين دبلوماسيين وممثلى حركات التحرر، وبرضه القاعة تمتلئ، عايزين مؤتمر جماهيرى كبير نعمله فى قاعة الشعب (بمبنى الاتحاد الاشتراكى أيضاً) أو بقاعة الغرفة التجارية ونتصل بمنظمة الشباب تبعت شبان من عندها وتبقى هيصة كبيرة!

وكانت الإجابة غير جاهزة وحلت محلها كلمة بعدين.. بعدين!

ما جرى بعد ذلك كان الأعجب والأغرب تماماً ويرويه د.رفعت قائلا:

- وفى أثناء هذا الجدل كان أمين الإسكندرية قد استعاد أنفاسه واسترد لياقته وبدأ فى الحديث:

- بالنسبة لينا فى الإسكندرية إحنا جاهزين يا فندم، بل إننا، كما قلت لسيادتكم من قبل، قد امتلكنا زمام المبادرة وبدأنا الاحتفالات فعلا بالتعاون مع الأصدقاء فى المركز الثقافى السوفيتى وسنواصل الاحتفالات إن شاء الله».

إلى هنا ولم أستطع أن أمسك نفسى لكننى غالبتها فغلبتها، ولخصت كل شيء ابتسامة حزينة ارتسمت رغم إرادتى:

كان «أنيس منصور» إلى جوارى، لمح ابتسامتى التى تتسلل رغم أنفى فبادلنى بواحدة من عنده ممتلئة سخرية لاذعة ليس من المتحدث وحده وإنما من كل شيء!

وكان وجود «أنيس منصور» فى هذا الاجتماع محيراً، ولم أعرف وهو لم يعرف لماذا أتوا به؟! هل ليبلغوا السوفييت بتشكيل لائق للجنة العليا للاحتفالات وأنها تضم ممثلا مهما للكتاب والصحفيين؟ أم أتوا به لتطويعه؟!

وظل الرجل صامتاً طوال الحوار، ويكتفى بابتسامات ساخرة، وسخرية باطنية، لكن روح الدعابة التى تفرض نفسها دوماً، استطاعت أخيراً أن تتغلب عليه، لم تكن الدعابة الصارخة أو المنطوقة مسموحاً بها فى اجتماعات كهذه! لكنه انتهز فرصة الحوار المثقل بالحرج حول «مقاس الاحتفال» ومال عليّ ليسكب فى أذنى همسات مصوبة تصويباً متقناً لا يسمح بتسلل أى شيء منها إلى آذان أخرى قال:

- أنا عندى اقتراح لاحتفال هايل.. أحسن من كل الهيصة دى واللخبطة اللى مالهاش لازمة!

همست مستجيباً: إيه اقتراحك؟

فقال بذات الهمسات المحاذرة بينما نظرات تتقلص لترى إذا ما كانت أعين أخرى تلاحقنا أم لا:

- أقترح أن يصدر قرار لعبدالوهاب - المطرب - بأن يغير أغنية «لمين هواك أنا ما أعرفشي» إلى «لينين هواك أنا ما أعرفشي»!

ويختتم د.رفعت الحكاية بقوله: ولم أستطع انفلتت ضحكة نصف عالية كادت أن تسبب لى كارثة! لكننى لم أزل أذكر هذه الدعابة المحكمة التى لخصت كل شىء كل شىء!!».

ولا تعليق بعد كل ما رواه د.رفعت السعيد..  رحمه الله!