الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

محمد عبلة.. ذو الألف وجه!

أهدى رسام الكاريكاتير الفنان سمير عبدالغني، إلى مجلة «صباح الخير» حلقاته المميزة عن جيل الأساتذة من رسامى الكاريكاتير، قبل أن يجمعها فى كتاب يوثق خلاله رحلة هؤلاء مع أحد أهم فنون الصحافة من خلال حكايات وذكريات، عاشها معهم، وصاحبهم خلالها على مدار سنوات عديدة، حرص على توثيقها لتقديمها إلى محبى فن الضحكة والبسمة، وللأجيال الجديدة التى لم يسعدها الحظ أن تتابع رسومات هؤلاء الفنانين فى زمانهم.



فى معرض الكتاب فى التسعينيات سمعت عن معرض بعنوان «السلم والثعبان».. ذهبت لأشاهد المعرض وعرفت أنه للفنان محمد عبلة الذى لم ألتقه.. علاقات ظريفة فيها روح الكاريكاتير.

 

 

 

 

فى طريقى لمعرض بقاعة المشربية بشارع شامبليون كان معى الصديق الصحفى على حامد.. وهناك قابلنا محمد عبلة سلم عليه وعلىّ وكان جالسًا يضع رجلاً فوق الأخرى.. وقدمنى (الفنان سمير عبدالغنى رسام كاريكاتير) لم ينتبه محمد للاسم وقال وهو يتراجع للوراء فيه فنانين كتير شباب، لكن أنا معجب برسام بيرسم فى جريدة القاهرة وبيعمل عينين تحت الكاريكاتير.. ضحك على حامد وأشار إلى مرة أخرى وقال هو ده.. بيرسم فى القاهرة والعربى الناصرى.. عندها وقف محمد عبلة وسلم على من جديد واحتضنى بمودة.. لا أنسى أبدًا هذا اللقاء.

فى إحدى المرات قلت للفنان حسن حاكم.. أنا رحت معرض محمد عبلة مع رباب وياسمين (ابنتيه) فى معهد جوته الألمانى بيتكلم عن النيل.. ولم أفهم شيئًا.. زبالة وعجل كاوتش.. وشخبطة.. مش عارف هو عايز إيه؟

 

 

 

رد حاكم.. أنت حمار..  لو مش فاهم روح اسأله .

الفن مش مجرد لوحة.. فيه رسايل كتير للفن وأحيانا تكون غير مباشرة.. أرجع تانى واتفرج كويس وأسأله.. محمد فنان كبير مش بعبع.. وفعلا رجعت.

فى أحد معارض عبلة تعمد أحد الضيوف أن يقول إن اللوحة التى أمامه لم تعجبه.. وكان رد محمد عبلة.. (بص على اللى بعدها.. المعرض مليان لوحات).

لا أعرف ما هو السر فى إعجابى بمحمد عبلة.. هل هو حبه لفن الكاريكاتير.. هل المتحف الذى أقامه تحية لكل أسطوات هذا الفن, صدقه وهو يتحدث عن حياة بائسة استطاع أن ينتصر فيها. 

فنه الجديد والمتجدد.. هو صاحب شطحات فنية.. ولا يقف عند منطقة أو حالة أو تصور أو طريقة واحدة للنجاح.. يؤمن أن الفن ليس كشرى.. وجبة معروف كل تفاصيلها.. يرى أن الفن مغامرة.. رحلة صيد.. فى كل مرة تنتظر نوعًا جديدًا من السمك.

أجمل ما فى فن محمد عبلة هو ارتباطه بالناس ويرى أن الفنان يجب أن يكون صاحب قضية ومهموم بالبشر ومشاكلهم.. يقول دائمًا أحاول عمل المزيج بين الفن والنقد الاجتماعى.. أناقش كل القضايا ولكن بأسلوب عصرى. ربما هذا الاهتمام هو الذى جعله يؤسس أول وأهم متحف للكاريكاتير فى الشرق الأوسط والذى يعتبر دفتر أحوال الوطن ولحظات انتصار المواطن البسيط.. قبل أن تصل إليه بعشرة كيلو مترات فى قرية تونس بالفيوم سوف تسمع أصوات ضحكات المبدعين الكبار صاروخان وسانتيس ورخا وزهدى وطوغان ومصطفى حسين وجاهين وحجازى.. هذه البهجة التى جعلت كل من يذهب للمتحف يعود إليه مرة أخرى.

 

 

 

عندما قررت أن أكتب عن محمد عبلة  كان يجب أن أقرأ (السى فى) الخاص بالفنان فاكتشفت أنه يحتاج إلى شهر من التفرغ إنجازاته وجوائزه ومعارضه كم الدول التى زارها واحتفت بفنه تجعلك تشعر بالفخر أن لدينا فنانًا بحجم محمد عبلة.. مشوار كبير من كفر الشيخ.. لاختياره ممثلا عن المبدعين عندما فكروا فى كتابة دستور جديد لمصر.

أحب عبلة الإسكندرية وكان يمشى من باكوس حتى القلعة (حوالى 10 كيلوات)  ليرى شروق الشمس أو لحظة الغروب ويتكلم عن هذه الأيام بمحبة أنه يعشق المجموعة اللونية المبهرة لون البحر والرمل والسما والمراكب والشمس.. (إذا رأيت عملاً لى يعجبك يجب أن تعرف أن المدرسة التى تعلمت فيها كل شىء جميل كانت هذه اللحظة وهذا المكان فى إسكندرية).

يكتب محمد عبلة ببراعة مثلما يرسم وخطف قلوبنا وعقولنا وهو يتحدث عن مسيرته الفنية من خلال مذكرات كتبها على صفحته على «الفيس بوك» وقريبًا سوف تطبعها مؤسسة ضى فى كتاب مع معرضه الاستعادى. 

 

 

 

أحيانا يتهم محمد عبلة أن فنه ليس خالصًا وأنه ينظر هنا أو هناك، وأذهب إليه منفعلاً وأسأله.. فأجده يقول.. أنت لا تولد وتعرف كل شىء.. أنت تتعرف على العالم من خلال تجارب الآخرين ولك الحق أن تتعلم منها وتأخذ ما تريد ولكن يجب أن تكمل من عندك.. ولابد أن يكون لديك ما تضيفه.. والأجمل ألا تتوقف وإلا تصبح نسخة باهتة.

ويقول: قريبًا جدًا سوف أقيم معرضًا استعاديًا وسوف ترانى فى أعمال كثيرة.. هناك خيط ممتد يبدأ من الأحلام فى كفر الشيخ مرورا بكل الأساتذة الكبار الذين تعلمت منهم والذين شاهدت أعمالهم فى متاحف العالم، أو بشر عاديون شاهدتهم وهم يتحركون فى الشارع.. طلاء على الحائط.. مراكب تحمل محبين.. أو بقعة ضوء من الشمس تسقط على شجرة أمام بيتى.. أنا مزيج من كل الفنانين الذين أحببتهم وتأثرت بهم وشاهدت أعمالهم.

تقريبا شاهدت كل معارض محمد عبلة لكنى لا أنسى الأستاذ عبدالله السناوى رئيس تحرير العربى قال لى هناك معرض لعبلة بقاعة الزمالك شوفه واكتب.. سألته: خبر.. أجاب: صفحة كاملة.

 

 

 

كان المعرض عن (أبراج القاهرة ) وهناك جمهور كبير بالقاعة أذكر منهم المخرج (يسرى نصرالله) الذى قال كنت أتمنى أن أحصل على لوحة، ولكنك أصبحت أغلى من أحلامى يا عبلة.. كان عبلة مشغولًا بالزوار فقررت أن أشاهد اللوحات وأتحدث إلى الجمهور.. أبحث عن كلمات أملأ بها صفحة كاملة.. ثم وضعنا كلمة عبلة التى كانت فى البانفلت (فى مرسمى الجديد فى وسط القاهرة، رأيت من الشباك المدينة وهى تمتد أمامى بشوارعها ومبانيها.

فى كل يوم أختار أحد المبانى لأعيش معه وأسرح متخيلاً ما عاصره من أحداث وما اعتراه من تغييرات من فعل الزمن وفعل الناس، تلك الإضافات الدائمة من اللون والأشكال. تتحول تلك المبانى مع الوقت إلى كائنات حية تروى لى مئات الحكايات وتكشف مئات الأسرار. بعد مرور عام تجمعت أمامى عشرات المبانى أجالسها وأتحاور معها. وأعيد صياغتها وتنظيمها أصبحت مأخوذاً بتلك اللعبة ولكنها قادتنى للتساؤل عن القدر الذى تقودنا إليه تلك المدينة، أو إلى أين نأخذها نحن؟ هل من سبيل لإنقاذها؟ هل هى أبراج القاهرة؟ وعلينا أن نرضى بها كما هى، أم هو برج بابل؟»).

 

 

 

فى جريدة العربى تحدثنا عن الثورة والتغيير واعتبرنا عبلة يفتح بابًا لأسئلة كثيرة اجتماعية.. وأن المبانى تعلن عن عدم رضاها عن كل أحوالنا.. وأن عبلة أحد الأبطال يصرخ وبقوة من خلال فنه.. فى وقت يرسم فيه الكثيرون مناظر للبحر.

هناك حوارات عديدة كانت مع عبلة.. لكن صديقى الشاعر على سعيد سأله سؤال تمنيت أن أسأله (لماذا ترسم البسطاء ثم تجعلهم مجرد هدايا يعلقها الأغنياء على حوائط فيلاتهم وجدران قصورهم؟).

وكان رد عبلة (أولا، لأنك تريد أن يشعر الأغنياء بالفقراء، وثانيا أنت ترسم لوحة لا تعلم إن كنت سوف تنتهى ببيعها أم لا، وهذا الموضوع ليس له علاقة بالفن، وأنت كفنان تقوم بعمل اللوحات، ويتساوى لديك أن تباع أو لا تباع، ومشكلة الفنان هى أن ينتج فناً، ولا يهمه هل يحصل عليه الأغنياء أم الفقراء، وعموما فى تاريخ هذا الفن كانت السطوة فى الاستحواذ عليه للكنيسة، ثم الأرستقراطيين، وبعد ذلك طبقة التجار الأغنياء «البرجوازيين»، ولكن الفقراء لم ولن يحصلوا عليه أبدا، فهم يبحثون فقط عن الطعام، ولو كانت لديّ مهارة الخبز كنت قمت بعمل الخبيز وأرغفة العيش وفرقته على الفقراء).