السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
لويس عوض يحترف الكتابة بثلاثة جنيهات شهريًا!

حكايات صحفية

لويس عوض يحترف الكتابة بثلاثة جنيهات شهريًا!

وفى القاهرة بدأ لويس عوض الذى كان فى عمر السابعة عشرة فى التعرف على الحياة الأدبية والصحفية الجديدة، كان ذلك فى الفترة من أكتوبر 1932 إلى أكتوبر 1933، وحسب قوله كأن هذه الفترة أهم ما يكون فى حياته! ويقترب لويس عوض من جماعة أو مدرسة «أبوللو» الشعرية التى قادت الثورة على شعر أمير الشعراء «أحمد شوقى» ويقود المجلة أحمد زكى أبوشادى وإبراهيم ناجى وقد تعرف عليهما لويس عوض الذى يقول: وقد شاركت فى أعمال هذه المدرسة على استحياء، ونشرت مجلة «أبوللو» على الأقل قصيدة من قصائدى فى آخر عدد من أعدادها عام 1933.



ويمضى د.لويس عوض عبر صفحات كتابه الممتع والمهم «أوراق العمر، سنوات التكوين» ويروى مشواره الصحفى قائلا: كنت فى الوقت نفسه أتردد على بعض دور الصحف الوفدية مثل «كوكب الشرق» و«الجهاد» و«الضياء» و«الوادى» وأنشر فيها بعض المقالات الأدبية وبعض القصص القصيرة المترجمة مثل قصة الموعد «لإدجار آلان بو».

 

غلاف الكتاب- غلاف مجلة أبولو
غلاف الكتاب- غلاف مجلة أبولو

 

وفى تلك الفترة تعرفت على أزهرى ضرير اسمه الدكتور «محمد غلاب» كان قد أتيح له ما أتيح لطه حسين من علم فى فرنسا، فلما عاد إلى مصر حاول أن يؤدى دورًا فى حياتنا الثقافية، فأصدر مجلة أسبوعية اسمها «النهضة الفكرية» لا أظن أنها عاشت أكثر من سنتين أو ثلاثًا، وكانت من نمط مجلة الرسالة، وقد شاركت فى تحرير «النهضة الفكرية» بين أكتوبر 1932 وأكتوبر 1933، ومازلت أذكر مقالا لى فى هذه المجلة أقارن فيه بين «العقاد» والدكتور «جونسون» الذى كان الدكتاتور الأدبى فى إنجلترا خلال القرن الثامن عشر، ومقالا آخر فيها عن الناقد «هازليت» وما يسمى «روح العصر» لا بأس بالنسبة لغلام فى الثامنة عشرة من عمره!

نجح لويس عوض فى التوفيق بين دراسته فى الجامعة والكتابة فى الصحف والمجلات ويواصل ذكرياته قائلا: وسواء كتبت فى الجرائد اليومية أو فى المجلات فقد خرجت من دور الهواية إلى دور الاحتراف، فكنت أتقاضى مكافآت على ما أكتب أو أترجم وكان متوسط ما كنت أتقاضاه، شهريًا يتراوح بين جنيهين وثلاثة جنيهات وليس بين مقالاتى مقالة واحدة فى السياسة، بل كانت كلها فى الأدب مؤلفة كانت أو مترجمة.

وكان دخلى الشهرى يكفينى للحياة كما يحيا طلاب الجامعة من أوساط الحال وكان فى استطاعتى أن أضاعفه لو أنى تفرغت للكتابة أو الترجمة لكنى آثرت أن أكتفى بهذا الرزق البسيط حتى لا أجور على ساعات الدراسة والاطلاع.

وكانت أخبارى تصل المنيا أولًا بأول عن طريق عمى أو أولاد عمى، وفى أحيان قليلة منى مباشرة لتطمئنهم - تطمئن أسرتى - على أنى لا أتضور جوعًا فى القاهرة، ورغم هذه التقارير المطمئنة نسبيًا عن حالتى كانت دموع أمى لا تتوقف، ولا أدرى إن كان ذلك قلقًا على حاضرى ومستقبلى أم كان بسبب القطيعة الكاملة؟!

وفجأة حدث ما لم يتوقعه «لويس عوض» على الإطلاق حيث يقول: فى سبتمبر 1933 كتب إليّ أبى خطابًا يطلب فيه عودتى إلى المنيا ويعلن صراحة موافقته على دخول كلية الآداب، ولا أدرى لماذا تحرك أبى لهذه المصالحة وتغير الاتجاه (180 درجة) هل كان ذلك بضغط من أمى أم أن نجاحى الأولى فى الاستقلال والاستقرار أصابه بذعر حقيقى من أن تكون هذه بداية السقوط والانحراف فى تيار الصحافة والصحفيين.. أى أنى بدأت فى طريق اللاعودة!

لقد كان الصحفيون والأدباء، شعراء كانوا أم ناشرين، والممثلون والموسيقيون، والمغنون والرسامون حتى تلك الأيام موضع ريبة المجتمع، حتى إنه كان من شبه المستحيلات أن تقبل أسرة محترمة تزويج ابنتها من رجل يشتغل بإحدى هذه المهن ولو على سبيل الهواية فما بالك بالاحتراف!

كان أبناء هذه المهن يبدون للرجل العادى كقبيلة من الغجر الذين لا تحكمهم قوانين العرف والأخلاق السائدة، وكان أصدق وصف للأديب أو الفنان هو وصف «كارمن» فى الأوبرا المشهورة للحب فى أغنيتها المشهورة: الحب ابن امرأة بوهيمية لم تعرف القوانين أبدًا أبدًا!».

وفى أوائل سبتمبر عدت إلى المنيا بين أهلى لأوقع معاهدة مع أبى: وعدت أبى أنى سأعد نفسى باجتهاد لكى أصبح أستاذًا فى الجامعة فلأرتزق من قلمى، وبهذا أهدئ مخاوفه بأن تكون لى مهنة شريفة أرتزق منها فلا أؤجر قلمى لمن يدفع أعلى ثمن أو أبيع ضميرى اتقاء للجوع، ومقابل هذا وافق أبى على التحاقى بكلية الآداب.. وهكذا عادت الأمور إلى مجاريها!

وفى أكتوبر 1933 دخلت كلية الآداب للمرة الثانية بعد أن ضاعت عليّ سنتان، ضاعت؟ لا.. فحين عدت إلى السنة الأولى بكلية الآداب كانت قراءاتى الواسعة قد شحذت مكانى وكانت تجاربى الصحفية والأدبية قد أأنضجتنى سنوات وسنوات، وكنت فى الثامنة عشرة من عمرى وهكذا بدأت رحلتى الأدبية.

 وما أكثر المواقف الإنسانية والطريفة التى واجهها لويس عوض ومنها مثلا تطوعه ومشاركته فى مشروع القرش الذى دعا إليه زعيم حزب مصر الفتاة وقتها «أحمد حسين».. ويقول لويس عوض: أعطونى فى يناير 1932 شارة من قماش تعلق على الصدر ودفترين من الكوبونات كل دفتر به مائة كوبون قيمتها مائة قرش أى جنيه، وبعت دفترًا كاملًا وضاع منى الدفتر الآخر وكان لابد أن أسلم جنيهين للجنة مشروع  القرش قيمة الدفترين عند عودتى للقاهرة، فاضطررت أن أصارح أبى بضياع الدفتر وأنا فى خجل شديد، ولاسيما أن هذه كانت الفترة الحاسمة التى بدأ فيها شجارى مع أبى حول دخول كلية الآداب، فأعطانى أبى الجنيه فى امتعاض شديد لأبرئ ذمتي!!

 

لويس عوض
لويس عوض

 

ومن اللافت للنظر حرص د.لويس عوض على تسجيل كل ما يتعلق بحياته اليومية من مسكن ومأكل وتكاليف ذلك فيقول: فى ديسمبر 1932 استأجرت شقة صغيرة فى حارة السقايين، ثم انتقلت إلى حجرة شاسعة مستقلة بمرافقها فى المنطقة ذاتها ولكنها أقرب إلى ميدان عابدين، ولم أكن أعرف شيئا عن أمور الطهى فكان كل طعامى من البيض والفول المدمس والطعمية ومن العلب المحفوظة ولاسيما السردين والسالمون لأنهما كانا أرخص من البولوبيف الذى كنت أشترى العلبة منه بأربعة قروش مرة فى الأسبوع فتكفينى لأكلتين، كذلك كان طعامى من الجبنة والزيتون والحلاوة الطحينية، وكان هناك مطعم فى عمارة اللواء القديمة كنت أتردد عليه مرتين أسبوعيًا لآكل كل مرة نصف رطل كباب وكفتة (أقل قليلًا من ربع كيلو) بقرشين ثم خمسة مليمات للعيش والسلطة!

بعد ذلك ينتقل لويس عوض إلى بين السرايات التى تبعد عن مكتبة الجامعة مسيرة خمس دقائق، حيث كانت المكتبة هى مسكنه الآخر ويروى: كان مسكنى شقة صغيرة غير مفروشة فى الدور الثانى مكونة من ثلاث غرف وصالة ومنافع وإيجارها جنيهان شهريًا واشتركت فى هذا المسكن لفترة طويلة ربما أكثر من سنتين، مع طالبين فى قسم الفلسفة، وكنت سعيدًا بهذا الاختيار فقد راعيت منذ البداية ألا أخالط إلا الطلبة المجدين ومن هم فى مثل مستواى الاقتصادى، وكان كل منا يدفع نحو (70 قرشا) شهريا للإيجار، غير هذا لم تكن هناك ميزانية مشتركة لأى شيء إلا بالاتفاق بسبب اختلاف مواعيد الدراسة والطعام والنوم!

وكان يبقى معى من راتبى الشهرى الذى كان يأتينى من المنيا بعد دفع نصيبى من الإيجار ثلاثة جنيهات شهريًا بمعدل عشرة قروش يوميًا للطعام والنثريات وكانت تكفى للإفطار والغداء والعشاء، على أساس رطل لحم (نصف كيلو) فى اليوم بقرشين، وقرش واحد للخضراوات أو الأرز أو المكرونة ورغيفان كبيران بنصف قرش.. و.. وإلخ».

وتبقى ملحوظة مهمة فى مذكرات د.لويس عوض هى حديثه بكل الحب والتقدير والامتنان عن أساتذته فى الجامعة سواء من المصريين أو الأجانب وكذلك حديثه عن أبناء دفعته وجيله، وكذلك حديثه عن نجوم الأدب والفكر والسياسة ورجال الأحزاب فى تلك الفترة!

وتلك حكاية أخرى!