الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مصطفى حسين حكاية الغرفة 53

أهدى رسام الكاريكاتير الفنان سمير عبدالغني، إلى مجلة «صباح الخير» حلقاته المميزة عن جيل الأساتذة من رسامى الكاريكاتير، قبل أن يجمعها فى كتاب يوثق خلاله رحلة هؤلاء مع أحد أهم فنون الصحافة من خلال حكايات وذكريات، عاشها معهم، وصاحبهم خلالها على مدار سنوات عديدة، حرص على توثيقها لتقديمها إلى محبى فن الضحكة والبسمة، وللأجيال الجديدة التى لم يسعدها الحظ أن تتابع رسومات هؤلاء الفنانين فى زمانهم.



فى صفحة الظرفاء بمجلة كاريكاتير كتب الشاعر بشير عياد سطرًا صغيرًا:.. الفنان سمير عبد الغنى أنت مدعو للقاء مصطفى حسين...قرأت السطر 100 مرة.. ولم أصدق نفسى...أراسل المجلة كهاوٍ.. وأتمنى أن أعمل بها.. هل يتحقق الحلم.. قال لى مصطفى حسين عندما قابلته:.. خطوطك بسيطة.. أنت محتاج شغل كتير.. لكن أفكارك حلوة.

 

 

 

 

فتح لى مصطفى حسين أبواب المجلة.. وتعلمت داخلها.. كل ما أرسمه أو أكتبه أو أعرفه.. وكان مصطفى حسين هو فاكهة الكاريكاتير والنجم الكبير الذى ملأ العالم العربى بالبهجة وأنتج من الشخصيات الكاريكاتوريه ما يحتاج لكتاب كامل لنحكى عن عظمتها.

كتب الناقد الكبير صلاح بيصار فى مقدمة كتابه بعنوان (مصطفى حسين.. نجم فى سماء الفن والصحافة): «إن وصول الإنسان إلى النجومية ليس بالأمر اليسير.. وأن يصبح الفنان حبيبًا للجماهير أمر باهظ الثمن.. ووجود أى إنسان ذى قيمة فى بلد يعتبر ثروة قومية تضاف إلى رصيدها الحضارى.. وهناك دول تشترى النجوم بملايين الدولارات وتمنحهم الجنسية فورًا وبلا شروط.. وتتفاخر بهم على بقية دول العالم. لأن العبقرية شىء نادر الوجود مثل الحجر الكريم».

 

 

 

اختار الفنان الكبير مصطفى حسين أن يكون الأول دائمًا.. إذا قرر أن يرسم أغلفة الكتب هو رقم واحد.. وإذا قرر أن يرسم البورتريه كان رقم واحد.. وإذا قرر أن يعمل فى مجال الرسوم المتحركة هو رقم واحد، وكان بارعًا فى فن الكاريكاتير لدرجة أن إذاعة الشرق الأوسط كانت تقوم بعمل استطلاع رأى كل عام لاختيار الأفضل بين كل الفنانين.. فكانت الجائزة الأولى دائمًا لمصطفى حسين. هذا الموهوب الاستثنائى.

كانت بداية التعاون بين أحمد رجب الكاتب الساخر ومصطفى حسين فكرة اقترحها الأخوان مصطفى وعلى أمين سنة 1973، لكنها فعليًا تمت 1974.

 

 

 

كان يحكى مصطفى حسين لمحبيه كلما كان الوقت يسمح بمجلة كاريكاتير: (كنت أجلس مع أحمد رجب هذا المبدع الساخر الذى لا يأتى مثله إلا كل 100 عام نفكر فى موضوع الكاريكاتير ولا شىء سواه.. وكانت بيننا كيميا غريبة تجعلنا نفكر بصوت عالٍ ويعلن كل طرف رأيه للآخر.. بالاعتراض أو الإضافة أو طرح زاوية جديدة.. وكان ما يحدث بيننا يشبه طهى الطعام، الذى تظل تضيف إليه الملح والتوابل حتى تستطعمه.. وتسعد بمذاقه وكانت علامة القبول ضحكة نقتسمها سويًا ونظرة فرح بالمولود الجديد.. ثم أنتقل أنا بعد ذلك كى أرسم فى غرفتى المجاورة).

فى الغرفة 53 ابتكر أحمد رجب ومصطفى حسين العديد من الشخصيات..وكان مصطفى حسين يضع تسعة من الشخصيات فى براويز ويترك العاشر فارغًا وعندما كنا نسأله عن السبب.. كان يقول: «البرواز العاشر للشخصية التى لم تخلق بعد».

 

 

 

من أهم الشخصيات التى أبدعتها ريشة هذا الفنان العبقرى (عبدالروتين)، و(كمبورة) و(عبدالعزيز) و(مطرب الأخبار) و(عبده مشتاق) و(عزيز بيه الأليت) و(قاسم السماوى ) و(فلاح كفر الهنادوة) و(جنجح) و(على الكومندا) و(عباس العرسة) هذه الشخصيات التى أبدعها خيال أحمد رجب ورسمتها ريشة مصطفى حسين قدما من خلالها الواقع المصرى بعيون ساخرة، ولغة بسيطة تصل رسائلها إلى كبار المسئولين وأبسط الفلاحين.

 

 

 

كنت أتحدث مع الفنان حجازى فسألته عن مصطفى حسين وأن لديه من يكتب أفكاره وهل هذا الأمر يعيبه. فقال: (أنت مش فاهم حاجه.. اللى بيحصل فى أخبار اليوم هو مدرسة أخبار اليوم..هناك دائمًا مجموعة تكتب الأفكار كان منها مصطفى وعلى أمين أو محمد عفيفى أو جليل البندارى أو كامل الشناوى واليوم أحمد رجب.. مصطفى اختار أن يسير فى ركاب المدرسة.. لكن الحقيقة أن مصطفى ناجح والناس فى الشارع تحب رسومه وتنتظرها.. لا تصدق أن هؤلاء الناس سذج ..هذا الشعب لا يحب أحدًا 25 عامًا ويتابعه إلا إذا كان لديه شىء.. جديد ومدهش) خجلت من نفسى وقلت له: لكنه رجل السلطة, قال هو فى الطرف الآخر ويجعل الكاريكاتير لسان الحكومة ونحن نجعله لسان المعارضة ولو أنك تعيش فى بلد آخر وتشاهد ما يحدث فى مصر سوف تعرف أن معركتنا سويًا تصنع ثراءً للفن ولصالح محبى فن الكاريكاتير.

ولقد كنت معجبًا بكل شخصيات مصطفى حسين إلا شخصية جنجح الذى يحب البرلمان ويرفض أن يعارضه أى مواطن.. ويستمتع عند سماع كلمة موافقة.. أو إجماع.. وكان يطرب لسماع تصفيق.. لم أكن أتصور أنه موجود فى الحياة.. إلا أننى فى إحدى المرات كنت أركب القطار وكان الراكب أمامى يمسك جريدة أخبار اليوم وعليها رسم لجنجح.. وكنت أنظر للرسم بامتعاض حتى أنزل الرجل الجريدة من على وجهه.. فشاهدت جنجح بشحمه ولحمه.. وظللت أضحك طوال الطريق.. وعندما ذهبت إلى مصطفى حسين لأحكى له ما حدث.. كان سعيدًا جدًا وقال: أنا لا أرسم من خيالى.. أنا أستعيد من الذاكرة أشكال الناس الذين يملأون الحياة من حولنا ..إنهم الأصدق والأقدر على التعبير.. وهذا أحد أسرار نجاح الشخصيات وحب الناس لها.

 

 

 

لم يكن يتصور أن تظهر شخصياته التى رسمها للنور.. حتى فاجأه رجل الأعمال أحمد بهجت أنه يفكر فى تحويلها إلى أبطال لمسلسل كوميدى بعنوان (ناس وناس).

ورغم نجاح المسلسل وسعادة الجمهور به..فإنه لم يشعر بالسعادة التى كان يحلم بها.

أيضًا كانت هناك تجربة إذاعية بعنوان (9 شارع مصطفى حسين) كانت طوال شهر رمضان.. كان الناس يرددون التعليقات الساخرة وكانت الصورة الذهنية المطبوعة فى أذهان الناس عن هذه الشخصيات هى سر النجاح.. لكن يبقى الحلم الأكبر فى تحويل رسوماته إلى كرتون وكان هناك اتفاق بينه وبين شركة السحر للرسوم المتحركة لتحويل كتابه الحب هو إلى رسوم متحركة.. ورغم إنتاج أكثر من 30 حلقة، فإن المشروع توقف.

المتابع لحياة الفنان الراحل يكتشف أن أول وأهم ما قام به فى فترة الشباب كان فيلم الرسوم المتحركة الرائع (تيتى ورشوان) وكان معه صحبة من ألمع فنانى جيله..الفنان الراحل حسن حاكم والفنان عبدالحليم البرجينى ومن إخراج المخرج الكبير على بدرخان، ولقد أعجبته التجربة لدرجة أنه قرر أن يسافر هو أو حسن حاكم لتدبير المبلغ المطلوب لشراء كاميرا.. ذهب حسن ولم يعد غير بعد غزو الكويت سنة 1990.

كان حسن حاكم ومصطفى حسين صديقى العمر وكانا يؤجران معًا استوديو للرسم، عندما كانا فى إعدادى فنون جميلة، وكانا يقتسمان مبلغ الإيجار ومصاريف الحياة.. يحكى حسن حاكم أن مصطفى كان يمسك المصروف ويشترى الطلبات.. يقول: (أسير أنا معه فيشترى اللحم والخضار والبقالة هو يحاسب وأنا أحمل الطلبات حتى ظن الناس أننى أعمل عنده.. فقررت الشهر الذى يليه أن أمسك أنا المصروف فنذهب إلى الجزار اشترى أنا اللحم وأقول لمصطفى شيل يا ابن الـ ... ثم أذهب إلى البقال والفكهانى.. أدفع أنا، ثم أشتم مصطفى حسين الذى يحمل الطلبات وهو لا يفهم سر الإهانة.. عندما وصلنا إلى البيت سألنى: أنت بتشتمنى ليه يا حاكم؟..قلت له: الناس فاكرة إنى بشتغل عندك وبالطريقة دى الناس كلها عرفت أن احنا أصحاب يا ابن الـ ...).

كان حاكم سودانيًا وبشرته سمراء فكان مصطفى وحاكم فى أى مناسبة يدعيان أن حاكم قارئ فنجان من الحبشة ومصطفى يترجم ما يقول وكانا يسخران من الناس بهذه الطريقة ،يقول مصطفى حسين: (حتى حدثت مصيبة..فى أحد الأيام وداخل لوبى أحد الفنادق الكبرى سمع أحد قادة الثورة بقدرة حاكم على قراءة الفنجان وطلب منه أن يقرأ له فنجانه.. وخفنا أن نذهب سويًا وراء الشمس ولولا ستر ربنا.. مسك حاكم الفنجان وهو يرتعش وأنا الآخر لا أقوى على الوقوف على الأرض ولا أعرف كيف أخرج من هذا المطب ولم ينطق حاكم بكلمة واحدة.. فاقتربت منه وقلت له قول أى حاجة هنروح فى داهية.. ثم نظرت للرجل وقلت: إنك ذو مهابة وشخصيتك قوية لدرجة أن الجن اللى احنا مسخرينه يشوف معانا الفنجان مش قادر ينطق خوفًا من سعادتك.. ولولا إنه ضحك لكنا رحنا فى داهية).

أحب مصطفى العديد من الفنانين واحتفى بهم فى مجلة كاريكاتير (فواز وميشيل معلوف وحسن الفداوى.. لكن كان الأقرب لقلبه وعقله الفنان عمرو فهمى.. كان يعتبره بمثابة الابن).

رحل مصطفى حسين الرسام العبقرى، ثم رحل بعده توأم روحه الكاتب الساخر أحمد رجب، وبقيت شخصياتهما التى أبدعاها لتملأ العالم مرحًا وسخرية، ويبقى كل ما أنتجاه من أعمال كاريكاتورية دفتر حال المواطن وصوته.