الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
يا حمار هل يعجبك ما أنت فيه من الصياعة والضياع!

توبيخ والد لويس عوض له:

يا حمار هل يعجبك ما أنت فيه من الصياعة والضياع!

لم يخطر على بال د.لويس عوض أن والده سيكتشف أن «لويس» دخل كلية الآداب وليس الحقوق، فجاء على عجل ليتدارك الموقف بسرعة!



يعترف لويس عوض أن المناقشة بينه وبين والده كانت شاقة اختلط فيها الاحتجاج على استبداد وعناد والده، والخجل من سلوكه المخادع تجاه والده!

ولكن دماغ والده الناشف مثل الحجر الأصم - على حد وصف لويس عوض - وقال له: غدًا سنذهب معًا إلى كلية الآداب لسحب أوراقك ونقدمها إلى كلية الحقوق وكان هذا هو قراره الأخير!

وفى كلية الحقوق كانت المفاجأة أن موعد التقديم قد انتهى، وقال لويس عوض: نعود إلى كلية الآداب فقال والده: لا أى شيء إلا الآداب غدًا نذهب إلى مدرسة التجارة العليا فهى تعلن فى الجرائد أنها لاتزال تقبل طلبة جددًا.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

وهنا تبدأ مرحلة جديدة فى مشوار لويس عوض المليئة بالإثارة فيقول:

وعاد أبى إلى المنيا بعد أن ألحقنى بمدرسة التجارة العليا، وكان عليّ أن أتعايش مع الأمر الواقع وكانت الدراسة مسائية.

ويسهب لويس عوض فى شرح طبيعة المواد الدراسية ولم يكن سعيدًا بما يدرسه وعلى حد قوله: كنت محصنًا ضد كل علم فيه أرقام حتى منذ المرحلة الثانوية، وإذا بى أجدنى أنزل إلى مستوى حسابات البقالين، لا فرق بين دفتر اليومية ودفتر الحساب، أنا الذى كنت أحلق فى سماوات الشعر وأتمزق فى ثورات التاريخ، عرفت على الفور أن تهلكتى فى المحاسبة ومسك الدفاتر فقررت أن أهرب من دروسهما! ولكن كيف والبوابة الحديدية - بمدرسة التجارة يحرسها بواب - مغلقة حتى ساعة الانصراف للجميع، لم تكن هناك وسيلة إلا القفز من الشباك!!

وكانت مشكلتى ألا يرانى أحد من المارة أو رجل من رجال البوليس فيسىء الظن بى، فكنت قبل الإقدام على كل مغامرة أطل من الشباك لأرقب خلو الشارع من المارة ثم أقوم بمغامرتى، وكلما تقدم الخريف وبدأ الشتاء سهلت مهمتى بسبب سرعة انتشار الظلام فى الشارع وخفوت إضاءته وقلة الناس فى هذا الشارع، وفى أيام الساعة السادسة كنت أتجه لفورى إلى دار من دور السينما فى وسط البلد لأشهد حفلة ستة لتسعة التى تعلمت أن أسميها الماتينيه، وهكذا تحولت من أديب إلى «أكروبات»!!

ولم تدم هذه الحالة أكثر من شهرين، وفى أوائل يناير سنة 1932 حلت إجازة نصف السنة، وسافر لويس لزيارة أهله فى المنيا ليقضى فيها خمسة عشر يومًا.. وتتجدد المعركة الصاخبة (الحارة) ويقول لويس عوض:

سألنى أبى عن دراستى فى مدرسة التجارة العليا، فصارحته بالحقيقة أو على الأصح بأكثرها! سأل: هل تذاكر؟ قلت: لا! قال: هل تحب ترك الدراسة؟! قلت: نعم! قال: إذن ابق معنا فى المنيا وفى أكتوبر القادم تدخل الجامعة! قلت عال! وغير الموضوع!

وقضيت أربعة شهور فى هدوء تام عاكفًا على قراءاتى وكان أكثرها بالإنجليزية فى مكتبة والدى، فكان لهذا أكبر الأثر فى نضوجى الباكر من ناحية الفكر الاجتماعى وتاريخ الفكر الاقتصادى، ونمّت فيّ عقلية المفكر الاجتماعى، والغريب أن هذا النمو لم يصاحبه ضمور فى حاستى الأدبية أو فى اتجاهى إلى الفلسفة بل كانت هذه براكين جديدة تفجرت فى نفسى وألهبت عطشى للمعرفة فى كل اتجاه.

 

د.لويس عوض
د.لويس عوض

 

وبدأت الأزمة من جديد فى مايو 1932 - هكذا يعترف لويس عوض ويكمل ما جرى بقوله: بدأت أتكلم مع أبى عما سأفعله عندما أدخل كلية الآداب فى أكتوبر، قال: ومن قال إنك ستدخل الآداب؟

قلت: أنت قلت ذلك عندما عرضت علىّ أن أخرج من مدرسة التجارة العليا، قال: أبدًا، أنا قلت لك إنك ستدخل الجامعة.. أنت ستدخل كلية الحقوق!

وهنا انفجرت ثائرًا، وأخذت أندد بالاستبداد وبالكلام الفارغ وبتحطيم مستقبل الناس، وأهدد بأنى سأنفذ ما أريد «غصبن عنك»!

وكان أبى مثلى منفعلًا، ولكنه سيطر على أعصابه ولم يزد حرفًا، أما أنا فلقد تحول غضبى إلى غيظ مكظوم ولم أضف شيئًا ذلك المساء، ولكنى أضمرت شيئًا! كان معى جنيهان أو ثلاثة، وفى الصباح الباكر نهضت وجمعت ملابسى فى شنطة ومعها بعض الكتب وأحست أمى بما يجرى فسألت فى هلع: رايح فين؟ قلت: مالكوش دعوة بقه، وكررت نفس السؤال فقلت: رايح مصر! قالت: استنى لما أبوك يصحى، قلت: لا أنا مش هاأكلمه مفيش فايدة!

وشدتنى أمى من كمى: استنى يا واد، واعترضت طريقى لتمنعنى من الخروج، ولكنى دفعتها بعنف وفتحت الباب ورزعته ورائى وسافرت إلى القاهرة، كان عزمى أن أقضى فى القاهرة يومًا أو يومين، ثم أسافر إلى الإسكندرية عند أخى «فيكتور» لأقنعه أن ينفق على تعليمى فى كلية الآداب بدلًا من أبى الذى يصر على إدخالى كلية الحقوق، فقال إنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا لا يوافق عليه أبى، وأن هذه مسألة لابد من حلها مع أبى مباشرة!

وكتب أخى لأبى بهذا الموضوع وأضاف أننى هددته بعد الرفض بأنى سأجازف بالسفر إلى القاهرة وأحاول أن أبحث عن عمل أتعيش منه حتى أتمكن من مواصلة الدراسة تماما كما تقول المجلات إنهم يفعلون فى أمريكا! وهنا بدأت والدتى تنتحب كل يوم مرات، ويبدو أن أبى شرح لها سوء المصير الذى يمكن أن أتعرض له لو جازفت بالإقامة فى القاهرة دون مورد معلوم.

ويبدو أن دموع أمى وقلق أبى على مصيرى جعلا أبى يكتب أولا إلى أخى ثم يكتب لى مباشرة طالبا منى العودة وقائلا إن الموضوع سوف يحل!

كان ذلك نحو أوائل سبتمبر فعدت إلى المنيا وكلى اعتقاد بأنى قد انتصرت وأن أبى قد قبل أخيرا مبدأ دخولى كلية الآداب، وبعد أيام قليلة من الهدوء قال أبى: بعد أيام سنسافر معًا إلى القاهرة لتقدم أوراقك إلى كلية الحقوق!

وأحسست بأنى كنت فريسة لخدعة استدرجنى بها إلى المنيا لإيقاف دموع والدتى وقلت لأبى محتجًا: ولكنك قلت فى خطابك..! فقاطعنى بقوله: ماذا قلت يا حمار، أنا لم أعد بشىء وإنما وعدت بأن المسألة ستحل، هل يعجبك ما أنت فيه الآن من الصياعة والضياع؟! لولا أنك حمار لما فكرت ف البحث عن عمل فى هذه الأيام، ألا تقرأ الجرائد، اعقل وادخل كلية الحقوق، وهكذا تجددت الأزمة! كانت البطالة مستحكمة فى كل مكان بسبب استفحال الأزمة الاقتصادية العالمية!

ولم يستسلم لويس عوض ومضى يشق طريقه بثقة وصبر، ويقول:

«قررت أن أجرب حظى فى الحياة دون اعتماد على أحد، أن أسافر إلى القاهرة وأبحث عن عمل فى إحدى دور الصحف أو المجلات، لابد أن أحفر فى هذه المدينة الواسعة مكانًا صغيرًا لى فى أى ركن من أركانها، وأنا صاحب أسلوب فى العربية وأعرف الإنجليزية معرفة جيدة وشيئًا من الفرنسية ويمكن أن أعمل فى أعمال الترجمة!

وسافرت إلى القاهرة فى سبتمبر 1932 وكان فى جيبى خمسة جنيهات أى مصاريف شهرين بحساباتى فى ذلك الزمان، وكذبت على أبى قائلًا إنى اتفقت بالفعل على العمل فى جريدة بمرتب أربعة جنيهات شهرية حتى لا تندب أمى مصير ابنها!

وفى القاهرة أقمت شهرًا عند عمى «إسحق»، وكنت أخرج كل يوم لأتعرف بالأدباء والصحفيين، وفى بعض أيام الجمع كنت أتردد على صالون العقاد، ولم أحاول أن أزور طه حسين فی بيته هذه المرة، فقد كنت أتصور أنه لابد مشغول بهمومه «حيث تم فصله من خدمة الحكومة»، عن تلقى زيارات الأدباء الشبان!

 

العقاد
العقاد

 

وبدأت أعلم نفسى منذ اللحظة الأولى لانتقالى إلى القاهرة، فاستخرجت بطاقة استعارة خارجية من دار الكتب فى باب الخلق، ولم يكن لى أستاذ فى الأدب العربى، فجعلت من «طه حسين» و«العقاد» أساتذتى فى الأدب العربى، وربما استطعت بين أكتوبر 1932 وأكتوبر 1933 أن أحصل ضعف ما كان يحصله طالب الجامعة فى عام واحد».

وقد داومت على صالون العقاد وحتى نهاية 1933 ثم فترت حماستى له وانشغلت عنه بالجامعة، ولم أحاول أن أطلب من العقاد أن يساعدنى مع الجرائد أو المجلات لاعتقادى أن الكفاءة أو الفضيلة لا تحتاج إلى وساطة! وللحكاية بقية مع د. لويس عوض!