الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

صلاح جاهين ضحكة مصر الرايقة

أهدى رسام الكاريكاتير الفنان سمير عبدالغني، إلى مجلة «صباح الخير» حلقاته المميزة عن جيل الأساتذة من رسامى الكاريكاتير، قبل أن يجمعها فى كتاب يوثق خلاله رحلة هؤلاء مع أحد أهم فنون الصحافة من خلال حكايات وذكريات، عاشها معهم، وصاحبهم خلالها على مدار سنوات عديدة، حرص على توثيقها لتقديمها إلى محبى فن الضحكة والبسمة، وللأجيال الجديدة التى لم يسعدها الحظ أن تتابع رسومات هؤلاء الفنانين فى زمانهم.



 

 

 

 

صلاح جاهين هو أحد عجائب الدنيا.. هو الشاعر والرسام ورئيس التحرير  والمؤلف المسرحى والسينارست والمنتج والممثل وكاتب الأغانى .. تحدث عنه عمنا يحيى حقى فقال: ذهبت إلى الغرب ابحث عنه فلم أجد شخصًا يشبهه.. جاهين هو كوكتيل الفخفخينا.. أحلى طعم وألطف وأظرف وأروع وأجمل وأبهى المخلوقات المدهشة على الأرض.

 

عادة يولد الفنان وبداخل جيناته بذرة نرجسية تكبر مع الأيام.. إلا عمنا صلاح جاهين كان قادرًا على احتواء الجميع وصناعة نجوم عظيمة ومساعدة نجوم أعظم (سعاد حسنى.. أحمد زكى.. شريف منير.. على الحجار.. وآخرين).. ونحن صغار كانت الليلة الكبيرة هى مصدر البهجة.. النشيد القومى للأطفال.

 

 

 

تراها على المسرح تشاهدها فى التليفزيون.. تسمعها فى الراديو. أو كاسيت العربية.. إنها الأغنية التى يلتف حولها كل الأجيال.

يظل الكاريكاتير المصرى حائرًا بين الأجانب العظام والمصريين الذين قرروا أن يفتحوا المدرسة.. ورغم أن عمنا رخا هو الناظر.. إلا أن الأستاذ صلاح جاهين.. كان صوت المرح وضحكة مصر الرايقة.. قبل جاهين كان الكاريكاتير هجاءً سياسيًا، أو مجرد كلام مكتوب وإلى جواره رسمة مرحة.. فجاء جاهين ليجعل الكاريكاتير ساخرًا ومبهجًا حتى ولو كان سياسيًا.. وله مقولة (أن الحديث عن رغيف العيش سياسة).

 

 

 

فى رسومه المبهجة فى صباح الخير أو القضايا المشتعلة التى عبر عنها بريشته فى الأهرام.. كان الطعم الجاهينى الجديد والمختلف والساخر.. فتح جاهين أبوابًا  للبهجة.

عندما سألوا جاهين ماذا تحب أن يكتب عنك التاريخ ؟

اختار أن يكون شاعرًا.. وعندما سألوا الشعراء عن أفضل إنتاجه؟

فكانت الإجابة.. الرباعيات 

من رباعياته الجميلة 

«أنا شاب لكن عمرى ألف عام

.. وحيد لكن بين ضلوعى زحام

خايف ولكن خوفى منى أنا.. 

أخرس ولكن قلبى مليان كلام»

وأيضا تعجبنى هذه الرباعية 

أنا قلبى كان شخشيخة أصبح جَرس

جلجلت به صحيوا الخدم والحرس

أنا المهرج.. قمتو ليه خفتو ليه.. 

 

 

 

لا فى إيدى سيف ولا تحت منى فرس.

غمض عينيك وارقص بخفة و دلع

الدنيا هى الشابة وأنت الـجدع

تشوف رشاقة خطوتك تعبدك

لكن أنت لو بصيت لرجليك.. تـقع

عجبى!!»

قبل أن أعرف معنى الشعر.. كنت أسمع هذه الرباعية فى الراديو على إذاعة الشرق الأوسط بصوت إيناس جوهر (أول حب فى حياتى) بعد أن تنتهى من الرباعية كانت تضحك ضحكة مجلجلة تشبه رسوم جاهين. 

ِيعتبر كتاب «الرباعيات» هو أشهر مؤلفات صلاح جاهين، وهو الكتاب الذى لم يستطع كتاب للشعر أن يقترب من معدلات مبيعاته القياسية طوال القرن العشرين، أكثر من 125 ألف نسخة خلال أيام، وهو رقم لم تعرفه مبيعات الكتب فى مصر.. يلحنها بعد ذلك عمنا سيد مكاوى ويغنيها المطرب على الحجار لتحلق فى السماء ويقترب صلاح جاهين أكثر من البسطاء ويمنحهم بمحبة ورقى زاد المعرفة.

 

 

 

إذا كنت تريد أن تعرف سر العبقرية لابد وأن تقرأ مقولته: (أنا عندى فى رأسى جدول وهمى أسجل فيه تاريخ مصر من أيام الملك مينا.. وعصر بناة الأهرام له مكان.. عندما أغمض عينى أشاهد عملية البناء).

لم يأت جاهين بعد 9 شهور مثلنا جاء منذ7 آلاف عام كان حاضرًا وهم يفكرون فى البناء وهم يخططون على الورق وهم يجمعون العمال وهم يشيدون البناء.. بل ما هو أكثر.. الأغانى التى كان يغنيها المصرى القديم وهو يرفع حجارة الأهرام كانت من تأليف ( صا.. لاح.. . جا.. هين)!

 

 

 

 

«صلاح جاهين» هوالمشروع القومى الكبير الذى أسس لنقل الثقافة الرفيعة لملايين الناس من البسطاء، بخفة وبساطة.. كان يقدم كبسولة المتعة وحقن الفيتامين من خلال كل فن قرر أن يمارسه.. كان جاهين هو صوت الثورة.. المؤمن بالتغيير والتطوير والمجنون بالحلم العربى والمصدق لكل ما يقوله عبدالناصر.

تجربة «صلاح جاهين» مع الكاريكاتير بالغة التفرد، فكانت رحلة جاهين فى العمل رسامًا للكاريكاتير بمجلة صباح الخير وسط كوكبة من ألمع الرسامين فى الوطن العربى ثم بجريدة الأهرام، بابًا ملكيًا لهذا الفن لأن يصبح فنًا شعبيًا ينتظره القارئ على المقهى، بعد أن غلفه بخفة الدم المصرية والقدرة على النقد البناء، الذى يدفع بالمجتمع إلى المزيد من التطور.

 

 

 

أشهر شخصيات جاهين الكاريكاتورية (قيس وليلى، قهوة النشاط، الفهامة، درش) وغيرها من الشخصيات التى كانت حديث الناس فى زمانه ومازالت حديث المهتمين بفن الكاريكاتير.. جاهين هو عصير البهجة وروح عصره المتفرد.

يقول الفنان محمد عبلة أن رسوم جاهين هى تأريخ لعصره وزمانه تستطيع وأنت ترى رسومه أن تعرف السنة دون تاريخ.. لأنه يرسم كل قطع الديكور.. والأدوات المستخدمة وكأنه يقوم بعمل لفيلم سينمائى فى فترة ما وكان مهتمًا بتسجيل كل التفاصيل بدقة.. ثم يضع الحوار على لسان الممثلين.. وكمخرج يختار الزوايا وطريقة الحركة والأداء .. وكمصور.. يهتم بمصدر الضوء وهل المنظر ليل أو نهار.

كانت قوة صلاح جاهين الكاريكاتيرية، تكمن فى سلاسة الخطوط، وبساطتها وحضورها.. لم تكن مجرد رسم.. كانت شخصيات من لحم ودم.

بينما كان يرى طوغان (أن أهم ما يميز جاهين.. هو جنونه الفنى.. ولمحاته.. وذكاؤه المفرط فى اختيار المواضيع التى يرسمها، وفى ابتعاده عن الموضوعات الشائعة أو التقليدية، ونظرة واحدة لرسومه الآن، رغم مرور كل هذه السنوات، توحى بأنها رسمت حديثًا، فهى تعبر عن هموم المجتمع العربى التى لم تفارقنا حتى الآن).

 

 

 

وأنا أبحث عن فيديوهاته المسجلة وجدته يتحدث ببساطة وحضور طفولى يقول عن الحظ (من حظى أنى قابلت فى وقت مناسب ناس مناسبين.. من حظى أنى اتولدت فى وسط أسرة ميسورة الحال.. حسيت وسطهم بالحب والأمان والحنان.. ولم يكن بينهم خناقات من التى تجعل الحياة فيها مرارة.. كانوا اتنين لطاف جعلونى أحب الدنيا.. ومن حظى أن ربنا ادانى الروح الحلوة والإلهام.. ربما من غير الفن والإبداع.. كان زمان عندى محل مانيفاتوره).

كان طارق حبيب فى أحد البرامج يسأله عن الحب فى حياته.. فأجاب: (أنا عشت طول عمرى أدور على الحب.. ومتهيألى أن فيه حب كبير أنا مستنيه.. لكن مش لاقيه.. واتجوزت مرتين عن حب.. وأعتقد أن حبى الأول فشل ربما لأنى كنت قليل الخبرة.. كمان أنا مريض اكتئاب.. والمريض دائما لديه رغبة فى التغيير).

كان جاهين يشعر باكتئاب مع بداية فصل الربيع.. وكانت الناس فى حيرة كيف للرجل الذى يضحك مصر كلها يكتئب.. يقول لقد ذهبت إلى أمريكا وقابلت العديد من رسامى الكاريكاتير ولاحظت إن أغلبيتهم فى حالة اكتئاب.. وذات مرة قررت زوجتى منى قطان أن تصحبنى إلى أكبر دكتور فى لندن لعلاج حالتى.. وأخذت تتحدث إلى الطبيب وتقول هذا الذى يجلس أمامك ويتحدث عن الاكتئاب أهم رسام كاريكاتير فى مصر.. فإذا بالدكتور يضحك حتى كاد أن يقع على الأرض وقال إن غالبية رسامى الكاريكاتير فى العالم زبائن عنده وكان وقتها هناك رسام مشهور جدًا فى العالم اسمه فيكى هو أحد أشهر زبائنى.. وقد مات هذا الرسام منتحرًا.

أيضا صلاح جاهين يرى أن الفن فى جوهره وبصرف النظر عن رسالته وقدسيته هو نوع من اللعب.. يقوم به الإنسان لأنه إنسان ولا يشاركه فى هذا الأمر مخلوق آخر.

عمنا صلاح يقول (أنا بتجيلى فترات أكون نشيط فى الكلام التافه.. أضحك وأهزر وأزور أصدقائى وهما يزورونى.. وبتبقى دى المرحلة اللى بتسبق المخاض الفنى.. بعد كده بقفل على نفسى المكتب وأبدأ  أشتغل بجد) يطلع فيلم خلى بالك من زوزو أو أغانى هو وهى أو الفوازير أو أغنية يحبها الناس أو رسمة كاريكاتير مجنونة ساخرة ومرحة.

كان جاهين يحب أحمد زكى ومؤمنًا بموهبته.. أيضا كان صديقًا شخصيًا لسعاد حسنى ومستشارها الفنى وحارسها الأمين وكاتب أشهر أعمالها وأحب أغانيها.. كما أحب الملحن سيد مكاوى وكون معه ثنائيًا خطيرًا لصناعة فن يحبه الجميع.

استطاع جاهين أن يفتح أبوابًا للشعراء وكان الأب الروحى للجيل الجديد والمدهش وعلى رأسهم عبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وفؤاد قاعود وأحمد فؤاد نجم ومجدى نجيب.. وظل إلى آخر يوم فى حياته يعترف بعظمة الشاعر الكبير أبو الشعراء فؤاد حداد.

لا يمكن أن يختصر صلاح جاهين فى كلمة أو كلمتين.. يحتاج جاهين إلى بحر من الكلام لكن إذا كان ولابد.. دائما أراه أنا فى هذه الرباعية العبقرية.. 

«أنا اللى بالأمر المحال اغتوى

شفت القمر نطيت لفوق فى الهوا

طلته مطلتوش - إيه أنا يهمنى ؟

وليه ما دام بالنشوى قلبى ارتوى

عجبى !!