الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
التلميذ لويس عوض فى بيت د.طه حسين!

حكايات صحفية

التلميذ لويس عوض فى بيت د.طه حسين!

لم يكن والد د.لويس عوض يدرى أن ابنه خدعه وضحك عليه وقرر أن يلتحق بكلية الآداب بدلا من كلية الحقوق رغبة وحلم والده لكى يصبح محاميًا أو قاضيًا.



وقرر الوالد أن يعطى «لويس» مصاريف الجامعة كاملة بعد أن اطمأن إلى أن ابنه تراجع عن دخول كلية الآداب.

 

تفاصيل رائعة وبديعة يحكيها د.لويس عوض فى كتابه «أوراق العمر سنوات التكوين» ويحكى د.لويس بإسهاب ممتع عن مفردات هذه المصاريف قائلا: كان أبى قد اتفق معى على أن يعطينى مصروفات الجامعة وكانت ثلاثين جنيها سنويا لكلية الحقوق تدفع على قسطين! ومصروفات شهرية قدرها جنيهان لنفقات المعيشة، وخمسة جنيهات سنويا للكتب يضاف إليها «كسوة السنة» وكانت بدلتان من الصوف إحداهما شتوية والثانية «فريسكا» والملحقات من القمصان والملابس الداخلية إلخ. وعلاوة على هذا كله مواد تموينية مرة كل ثلاثة أشهر وإكراميات على الأعياد مع وعد غامض بزيادة الجنيهين إلى جنيهين ونصف وربما ثلاثة إذا تحسنت الأحوال أو ثبتت جدارتى العلمية، وكان المفروض أن خمسين قرشًا تكفى لإيجار المسكن شهريًا والباقى لنفقات المعيشة!

 

طه حسين وسوزان
طه حسين وسوزان

 

كذلك زودنى أبى عند سفرى بثمانية جنيهات لتأثيث مسكنى تأثيثًا بسيطًا مكونا من سرير مفرد كسرير المستشفيات ومرتبة وملاءتين ومخدة بكيسين وبطانية ومكتب متوسط ودولاب خشبى صغير وكومودينو وشيالة كتب وترابيزة سفرة وترابيزة مطبخ صغيرة، ووابور جاز وبعض الأوعية كالكسرولات وأدوات القهوة والشاى وشماعة ومرآة!

وكانت الجنيهات الثمانية كافية لكل هذا فاشتريت كل هذه الأشياء من العتبة الخضراء ونقلتها إلى الجيزة دفعة واحدة على عربة كارو مقابل عشرة قروش، أو ربما ريال!!

أذكر أنى اشتريت سريرًا أزرق جديدًا بنحو جنيه، ودولابًا جديدًا بنحو جنيه ومرتبة وكومودينو وبطانية ومكتبًا وترابيزة سفرة وترابيزة مطبخ ووابور جاز «بريموس» كلها جديدة وكل منها بحوالى خمسين قرش ومجموع الأوعية بنحو جنيه، وشيالة الكتب بعشرين قرشًا!

ويسترسل د.لويس عوض فيقول: كانت كل هذه الأسعار طبيعية أيام أن كان القرش الصاغ يشترى عشرة بيضات أو عشرة أرطال طماطم أو نصف رطل لحم (الكيلو بخمسة قروش).

وكان أجر الفلاح أو النفر إن وجد العمل يتراوح بين 5 و2 و3 قروش فى اليوم الكامل صباحًا وبعد الظهر، وكأن مرتب خريج الجامعة أو المدارس العليا (12 جنيهًا، شهريًا، ومرتب الماجستير (15 جنيها) وراتب الدكتوراه (18 جنيها)، والبكالوريا أى الثانوية العامة (8 جنيهات) ومثلها لخريجى المدارس المتوسطة أما الوظائف الكتابية فكان يكتفى فيها بحملة الشهادات الابتدائية وكان راتبها يبدأ بأربعة جنيهات، أو الكفاءة المساوية للشهادة الإعدادية وكان راتبها (ستة جنيهات شهريًا).

 

د.لويس عوض
د.لويس عوض

 

والآن يبدأ مشوار الطالب لويس عوض فى كلية الآداب فيقول: فى الشهر الأول من إقامتى بالقاهرة - أكتوبر 1931 - انتظمت فى الدراسة بكلية الآداب وكان فى نيتى أولا أن أتخصص فى اللغة العربية وآدابها أو فى الفلسفة ولكنى بعد تفكير عميق وصلت إلى قرار مخالف لذلك  وهو أن أتخصص فى اللغة الإنجليزية وآدابها، وكان التخصص يومئذ يبدأ فى السنة الأولى، وكانت مدة الدراسة أربع سنوات، وهكذا التحقت بقسم اللغة الإنجليزية.

وكان معى فى السنة الأولى «أمينة السعيد» التى كانت محور اهتمام جميع الطلبة أولًا لأنها كانت فيما أعتقد الطالبة الوحيدة فى قسم اللغة الإنجليزية فى جيل 1931، وثانيًا بسبب جمالها الطاغى!

وأقبلت على دراستی بجدية تامة، ولم ينقضِ الأسبوع إلا وكنت قد قفزت القفزة الكبرى، اتصلت تليفونيًا بطه حسين فى منزله، وكان يسكن فى شارع المنيا بمصر الجديدة وطلبت تحديد موعد للقائه، فحدد الموعد لى سكرتيره توفيق شحاتة، أما طه حسين فقد طلبت لقاءه لعرض أمر خاص، ومازلت أذكر مدى الاضطراب الذى شاع فى صوتى وأنا أطلب اللقاء ومدى الاضطراب الذى شاع فى حركاتى وأنا أواجه هذا الكاتب العظيم.

عندما دخلت بيت طه حسين استقبلنى عند الباب توفيق شحاتة وقادنى فى ممر مكسوّ الأرضية إلى حجرة مكتب طه حسين فى الدور الأرضى وأعلن عن اسمى، واستقبلنى طه حسين واقفًا وصافحنى، ثم جلس فى تؤدة قائلًا: اجلس، فجلست، وكانت مدام سوزان واقفة بالقرب منه وقالت: بونجور موسييه.. فوقفت وأجبت ملتعثمًا «بونجور مدام»، ثم جلست مرة أخرى وعاد طه حسين يقول: شاى من فضلك يا سوزان!

وكانت مدام سوزان تحدق فىّ فى جدية وكأنها تريد أن تكتشف أى نوع من الشباب أكون، ثم انصرفت!

وكان توفيق شحاتة واقفًا طوال الوقت فى طرف الحجرة، وكانت حجرة المكتب مكسوة الجدران برفوف الكتب السوداء المجلدة، والرفوف لونها جوزى غامق وكان فيها أثاث قليل: مكتب جميل صغير غامق اللون عليه تليفون، وفوتيلان من الجلد ومقعدان من طراز لا أعرفه، وكرسيان جميلان من طراز غريب أيضا وطقطوقتان، وكانت هذه أول مرة أرى فيها أرضية الباركيه وورق الحائط! ففى المنيا لم تكن أسرتى تعرف غير البلاط المنقوش وطلاء الزيت.

وكانت فى حجرة مكتب طه حسين ستائر ثقيلة داكنة على النافذة وستائر روديا على زجاج النافذة كبتت ضوء الشارع، وكان يسود المكان هدوء غريب، الكلام خفيض ووقع الكلام أشد انخفاضًا.

 

أمينــة الســعيد
أمينــة الســعيد

 

بعد هذا الوصف الدقيق لمنزل د. طه حسين بدأ الحو ار بينهما، ويقول د. لويس عوض:

وسألنی طه حسين فى عطف عن سنى وعن دراستى فى المنيا الثانوية وعن بدايتى فى كلية الآداب وعن أبى وعمله، وكانت الأسئلة مقتضبة والأجوبة مقتضبة!

وأخيرًا وصلنا إلى بيت القصيد قال: إيه بقى الموضوع؟!

وبدأت أجيب فى لجلجة، وهنا دخلت مدام سوزان بالشاى وتركت الصينية وخرجت، وصب توفيق شحاتة لطه حسين فنجانا ولى فنجانا واستأنفت شرح الموضوع.

الموضوع أنى أريد أن أدرس الأدب وأبى يعارض فى ذلك ويهدد بعدم الإنفاق علىَّ إذا دخلت كلية الآداب، ولهذا قدمت للكلية طلب مجانية، وأنا أرجو أن تساعدنى فى الحصول على المجانية!

وبدأ الانزعاج على وجه طه حسين: وليه ما تسمعش كلام أبوك؟!

فأجبته باضطراب: أنا مصمم على دراسة الآداب مهما تكن النتيجة!

فاشتد انزعاجه وكرر: أنا رأيى أنك تسمع كلام أبوك، حاول أن تقنعه مرة أخرى، وإذا أصر على الحقوق اسمع كلامه!

ولم أجب لشدة اضطرابى، لقد كان واضحًا أنى أقحمت طه حسين فى مشكلة لأنه لا يستطيع أن ينصح ولدا بعصيان أبيه، ويبدو أنه أحس بأنى كاسف البال فضرب فخذيه براحتيه وقال: على العموم الموضوع ده هاتبت فيه لجنة المجانية فى أوائل نوفمبر، حاول تتفاهم مع والدك وربنا يسهل.

وكان هذا إيذانًا بانتهاء المقابلة فشكرته ونهضت وانصرفت، وودعنى شحاتة توفيق «سكرتير د.طه حسين» حتى الباب وكرر مبتسما: ربنا يسهل.

فأحسست إحساسًا غامضًا بأن هذه العبارة تحمل وعدا بخير، وبعد خروجى التقيت فى الطرقة بغلام وصبية أكبر منه سنًا، فعرفت أنهما ابن طه حسين وابنته، فيما بعد عرفت أن اسميهما الرسمى مؤنس وأمينة، كلود ومارجريت، هكذا قال توفيق شحاتة.

ويمضى د. لويس عوض قائلا: وقبل أن ينتهى شهر أكتوبر فوجئت بأبى يحضر مهرولًا من المنيا إلى القاهرة وينزل عند عمى «إسحق» فى مصر الجديدة ويستدعينى، فبعد خمسة عشر يوما من التحاقى بكلية الآداب تلقى أبى فى المنيا بوصفه ولى أمر الطالب «لويس حنا خليل عوض»، خطابا من مجلس الكلية يطالبه فيه بدفع عشرة جنيهات قيمة القسط الأول من المصروفات الدراسية عن العام الجامعى 1931/1932 وقدرها عشرون جنيها فى السنة ريثما تجتمع لجنة المجانية لتبت فى طلب المجانية المقدم منى مع وعد بأنه سيرد المبلغ إليكم فى حالة موافقة اللجنة على الطلب!

وانقلبت كل حسابات د. لويس رأسًا على عقب!

وللحكاية بقية!