الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

محطات فى حياة شيخ التجديد والتنوير محمد عبده

رفض الحجاب.. وأباح الرسم والنحت

117 عامًا على رحيل رائد التنوير والإصلاح الدينى والمُجدد الجرىء السابق لعصره وعصرنا بعصور الإمام محمد عبده الذى ولد فى محلة نصر بالبحيرة عام 1849 وتلقى تعليمه على يد الشيخ الصوفى درويش خضر خال والده الذى كان له عظيم الأثر فى تكوين شخصيته بجانب أستاذه جمال الدين الأفغانى فيما بعد.



 

ثم التحق عبده بالأزهر الشريف ليكمل تعليمه ويحصل على العالمية ليصبح سنة 1899 مفتيًا ويصدر حوالى 944 فتوى مستنيرة مسجلة تنتصر لكثير من الأفكار والحقوق التى كانت طفرة فى وقته، حتى تُوفى 1905.

 

الأزهر .. رأى أنه بداية الإصلاح والتجديد
الأزهر .. رأى أنه بداية الإصلاح والتجديد

 

 

خاض الإمام معارك كثيرة خلال سنوات حياته التى لم تتجاوز 55 عامًا، إذ كان عقلاً يصعب على الزمان أن يتخطاه.

سعى للتجديد الدينى من خلال منهج إصلاحى دقيق وواضح المعالم ربما لم يستطع أن يعلن عنه كاملًا بسبب ظروف عصره؛ لكنه رغم ذلك أنجز فيما ناضل من أجله إنجازات تحسب له، وربما نحن فى حاجة إلى مثيلاتها الآن.

مفهوم التجديد

قضية إصلاح الفكر الدينى عند الإمام محمد عبده غير منفصلة عن قضية إصلاح الفكر الإنسانى بوجه عام، لذلك دعا الإمام للعودة للعقل السليم، واتضح ذلك من نظرته التقديرية العالية للعقل الذى اعتبره نقطة الدائرة فى دعوته التجديدية للدين.

كتب الإمام فى مذكراته: «ارتفع صوتى بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة، والأمر الثانى إصلاح اللغة العربية».

لهذا كان يقوم منهجه فى الإصلاح على الدعوة للتحرر من التقليد الأعمى «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء»، فكانت إشكاليته الكبرى مع تقليد آراء الفقهاء وتقديس الناس لهم، حيث قال: «جعل الفقهاء كتبهم على علاتها أساسًا للدين ولم يخجلوا من قولهم إنه يجب العمل بما فيها وإن عارض الكتاب والسنة فانصرفت الأذهان عن القرآن والحديث وانحصرت فى كتب الفقهاء بما فيها من تخبط واختلاف».

 

ودعا الإمام للتفسير العصرى للنصوص القرآنية وإعمال العقل بها والبُعد عن التمسك الحرفى الذى لا يزيد الأمر إلا تعقيدًا وجمودًا لتنقية الدين من الخرافات والشبهات والأفكار الرجعية، والرجوع به إلى ينابيعه الصافية بكل ما فيها من سماحة ورحمة وإنسانية، وأن يتم تدريس العلوم العقلية والطبيعية مع تدريس العلوم الدينية حتى لا ينفصل هذا عن ذاك».

وبعد دراسة الإمام محمد عبده فى الأزهر حمل على ظهره جهد إصلاح وتطوير مناهج التعليم فيه، فلما أصبح عضوًا فى مجلس الإدارة كافح كى يستطيع الطلاب دراسة بعض العلوم مثل الجغرافيا، ما أدى إلى هجوم المشايخ عليه هجومًا كبيرًا بدعوى أن ما يدعو له بدعة مستحدثة تدخل فى باب الضلالات التى ستلقى بأصحابها فى النار! لكن الإمام كان مُصرًا على التطوير لأن الإصلاح فى الأزهر، كما كان يرى هو بداية الإصلاح الدين والتجديد، وقال محمد عبده فى ذلك كلمات قاسية: «إن بقاء الأزهر على حاله محال فإما أن يعمر أو أن يتم خرابه».

وفى اجتماع شهير، ناقشه الشيخ محمد البحيرى قائلاً: «نعلم الطلاب كما تعلمنا» فرد الإمام: «هذا هو الذى أخاف منه»، فباغته البحيرى: «ألم تتعلم أنت فى الأزهر وقد وصلت مراقى العلم»؟! فرد الإمام بأن حظه من العلم وإعمال العقل لم يحصله إلا بعد أن ترك الأزهر بعشر سنوات، وهو ما جعل المشايخ فى حالة من السخط الشديد عليه.

 

 

 

فتاوى الجدل

بعد منصب المفتى اجتهد الإمام فى تخريج فتاوى تتجاوز ضيق الأفق الذى كان سائدًا فى عصره، مما فتح عليه أبواب النيران وكثيرًا من المعارك والأصوات التى لم تتأخر عن اتهامه بالتغريب ثم التكفير.

وكثير من تلك هذه الفتاوى انتصرت للمرأة وحقوقها، فى وقت لم يكن المجتمع يعترف لها بأى حق، كذلك الانتصار للفنون بأنواعها ما رآه المشايخ وقتها فتنة وضلالًا!

عرف الإمام محمد عبده قدر المرأة ومكانتها وتأثيرها فى المجتمع، وكان ذلك بسبب استنارة عقله وميله للمساواة بين الجنسين، وربما كذلك بسبب قربه من الأميرة نازلى فاضل التى كانت نموذجًا للجميلة المثقفة الواعية تنظم الصالونات الثقافية فتدعو الإمام وآخرين للمناقشة فيها.

كانت نازلى فاضل تفضل محاوره الإمام لفصاحته ورجاحة عقله، أما هو فاكتسب منها حب الفرنسية وأتقنها، وكذلك تغيرت لديه أفكار كثيرة عن المرأة والفنون لأنها أول من كان يحاوره فى اللوحات والمنحوتات.

وكتب الإمام مقاله الشهير «حجاب النساء» مؤكدًا أن إخفاء وجه المرأة ليس من الشرع الإسلامى لا للتعبد ولا للأدب، بل من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده موضحًا أنها منتشرة فى بعض الأمم الشرقية التى لا تدين بالإسلام.

كذلك قدم الأدلة الدينية مؤكدًا: «لا يوجد فى الشريعة نص يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، وإنما هى عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التى تمكنت فى الناس باسم الدين والدين منها براء».

ونجد الإمام فى مقالته يتساءل:  «كيف لامرأة محجوبة أن تعمل بصناعة أو تجارة، وكيف لامرأة محجوبة أن تدير تجارتها بين الرجال أو تمارس الزراعة أو الحصاد»؟!

ورد: «إن الذين يدعون إلى حجب المرأة بأى شكل من الأشكال يستندون على الفتنة؛ والفتنة لا توجد إلا فى القلوب الخائفة وعليهم أن يغضوا بصرهم لا أن يقيدوا المرأة».

وكتب أيضًا فى مقاله «حكم الشريعة فى تعدد الزوجات» أن الإسلام يميل لشريعة الزوجة الواحدة، وأن الدين نص على شروط وقواعد صعبة للتعدد أهمها العدل، وهو شرط لا يمكن التحقق منه أبدًا، لذلك دعا لمنع تعدد الزوجات أو تسجيل رغبة الرجل فى عقد الزواج ومعه موافقة الزوجة والعكس صحيح».

 

 

 

النحت والرسم

أكد الإمام محمد عبده أن الرسم والنحت وباقى الفنون التشكيلية من الفنون الإنسانية والإبداع الراقى، وقال إنها نوع من أنواع العلوم وتجلٍ كبير للذوق، وأن حفظ الآثار والرسوم والتماثيل حفظ للعلم والحقيقة، ما يستوجب الشكر لصاحب الصنعة على إبداعه، ولا يصح حديث عن التعلل بربط التماثيل وفنونها بالعبادة أو ما شابه».

وهذه الفتوى من الفتاوى التى دخل بسببها الإمام معركة كبيرة مع من اتهموه بالسعى لتغريب القيم الإسلامية، ووصل الأمر إلى حد اتهامه بالعمالة للاحتلال الإنجليزى، ودللوا على ذلك بصداقته للورد كرومر الذى كان يقابله فى قصر الأميرة نازلى فاضل، وكانت هذه حجتهم الوحيدة فى مواجهته.

أما الإمام فكان بالفعل مقربًا من اللورد كرومر دون أن يفقد هويته الوطنية وقال عنه اللورد ذات مرة «فى تقريره السنوى»: كان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها فى جعل مشورته والتعاون معه عظيم الجدوى. لا ريب عندى فى أن السبيل القويم الذى أرشد إليه الشيخ محمد عبده هو السبيل الذى يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لنبى ملتهم إذا ساروا فيه فأتباع الشيخ حقيقيون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوروبيين».

خلال فترة نفيه، سافر الإمام محمد عبده إلى بيروت 1883 وأسس جمعية «العروة الوثقى» على غرار صحيفته هو والأفغانى مستهدفًا التقريب بين الأديان، وروى الإمام أنه خلال وجوده فى دمشق سمع عن أحد القساوسة الإنجليكيين الذين كانوا يدعون لتوحيد الإسلام والمسيحية، وكذلك صديق فارسى كان يدعى مزرا باقر كان يعتقد إمكان تحقيق هذه الفكرة وأقنع الإمام ومعه شيخ آخر بذلك». ويقول الإمام: «إنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتبًا متوافقة وصحفًا متصادقة يدرسها أبناء الملل فيتم دين الله فى أرضه ويظهر دينه الحق على الدين كله». ظل الإمام يحارب لأجل التجديد الدينى وظل يخوض المعارك حتى أوعز بعضهم للخديو بعدائه، وخصوصًا بعد وقوف الإمام ضد الخديو فى بيع بعض أراضى الأوقاف، واستخدموا كل الطرق غير الشريفة ضده، الأمر الذى جعله يلجأ للقضاء حتى أنصفه.

تكبد الإمام عناء الصراع مع مرض السرطان فى أيامه الأخيرة حتى تُوفى فى يوليو 1905 بالإسكندرية، وتظل هناك كتابات تتهم الخديو عباس حلمى بقتله بالسم، لكن ليس هناك ما يؤكده.