الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
  أنيس منصور زعيم مدرسة «الالتزام»!

عندما كتب د.لويس عوض:

أنيس منصور زعيم مدرسة «الالتزام»!

كان د.لويس عوض أحد أساتذة أنيس منصور عندما كان طالبا فى قسم الفلسفة بكلية الآداب، وكان يتمنى أن يصبح أنيس أستاذاً فى الجامعة فقد كان طالباً متفجر الذكاء شغوفاً بالاطلاع، لكن أنيس اختار العمل فى الصحافة بمطبوعات مؤسسة أخبار اليوم، وأصبح أحد نجوم الكتابة فى مصر.



وفوجئ د.لويس عوض بأن «أنيس منصور» قد أصبح نجماًَ كنجوم السينما أو المسرح وكان يظن أنه مجرد أديب ضل طريقه إلى الصحافة وكان يحزن لبعض ما يكتبه لأنه قادر على كتابة النافع والعميق من الكلام!

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

وطوال أربع صفحات من مقال د.لويس عوض «مرحبا أيها الملل» روى فيها بعض ذكرياته عن أنيس منصور يواصل قائلا:

كل هذا الكلام سقته لأقول شيئا عن كتاب أنيس منصور «وداعاً أيها الملل» وهو من أجود كتبه، والكتاب خال من الوحدة، ففيه من الدراسات الأدبية شيء كثير، وفيه من التأملات الفكرية شيء كثير، وفيه من محاورات العظماء شيء كثير، وفيه من الذكريات الشخصية شيء كثير، ومظهر الوحدة الوحيد الذى نجده فى الكتاب هو أنه يتناول موضوعاً واحداً هو الملل!

شيء واحد غير موجود فى الكتاب هو ملل قارئه، فهو كتاب من بدأه أتمه، حتى أنا رغم احتجاجى على «أنيس منصور» وطريقته الاستطرادية فى الكتابة وذبذبته الدائمة بين نافع الكلام وسفاسف الكلام! ما أن بدأته حتى أتممته، ذلك لأن أنيس منصور قد قرر منذ البداية، منذ بداية حياته لا منذ بداية الكتاب أن يكون شيئا لامعاً يتألق، حتى وهو يتدفق أمامك ببخس الهشيم تراه ينثر برادة الماس لتشع تحت بصرك بين أكوام التبن وأكوام التراب، ولو جافى المنطق فى تأملاته، ولو جافى الصدق فى أحكامه!

ويمضى د.لويس عوض فى قراءته لكتاب «أنيس منصور» فيقول:

وقد اكتشف أنيس منصور أحد القانونين العظيمين اللذين يستطيع بهما الإنسان فى كل زمان ومكان أن يقول للملل وداعاً، وهذا القانون هو قانون الحب، اكتشفه عند الشاعر «ريلكه» الذى قال: قل يا شاعر: ما الذى تفعله فى هذه الدنيا؟

- إننى أحبها!

وهذه الأشياء الكريهة الشريرة، كيف تحتملها وكيف وكيف تقبلها؟

- إننى أحبها

فالذى يحب هو الذى لا يعرف الملل، وكلما ذاب المحب فيما يحب، بشراً كان أو مبدأ أو عملاً أو سلوكاً أو قضية أو مصلحة أو وطناً أو قوماً، حب على طريق الحياة بجياد راكضات وانعدم وجوده من الزمن!

وغير صحيح ما يقوله أنيس منصور: «فأنا أحب وأنت تحب وشهريار الملك يحب إذن لا أنا ولا أنت ولا هو سنعرف الملل» غير صحيح، فلو أن شهريار كان يحب جواريه لما قتل منهن جارية كل يوم، ولو كان يحب شهرزاد لما احتاجت إلى سرد قصة جديدة عليه كل ليلة! ألف ليلة وليلة لتؤجل سأمه منها من يوم إلى يوم، إن شهريار لم يعرف الحب وإنما عرف «الخلو» من الحب وهو ظرف السأم!

 

د.لويس عوض
د.لويس عوض

 

أما القانون الآخر العظيم الذى يستطيع به الإنسان أن يقهر الملل هو «البُغْض» وهذا ما لم يكتشفه أنيس منصور، وكلما كان البُغْض عظيما استوعب الزمن والوعى والحياة، لا فرق بينه وبين الحب فى ذلك، فالبُغْض هو لون من الحب المعكوس الحب العظيم يترجم إلى تخصيص الحياة للجهاد فى سبيل شىء من الأشياء والبُغْض العظيم يترجم إلى تخصيص الحياة للجهاد ضد شيء من الأشياء، وهذا هو معنى الالتزام، والسأم يبدأ حيث «الخلو» من الحب ومن البُغْض معاً وهذا هو الجحيم!

ويضيف د.لويس عوض إلى ما سبق قوله:

«وإحساسى هو أن «أنيس منصور» فى كتابه هذا وفى أكثر ما يكتب خال من الحب ومن البُغْض معاً! وهو خال منهما لأنه غير قادر عليهما وغير راغب فى تحمل مسئولياتهما، فللحب مسئوليات فادحة، كما أن للبغض مسئوليات فادحة!

أما كيف خلا أنيس منصور من القدرة على الحب ومن القدرة على البُغْض فهذا ما قد نجد تفسيره فى فصلين من كتابه الجميل هذا هما «نحن أولاد الغجر» الذى يروى فيه ذكرياته عن طفولته وصباه، و«كرهت حبى» الذى يشرح لنا فيه حقيقة شعوره «بعبء» الحب الذى تحمله أمه له، ويحمله هو لأمه، وهما فصلان من أصدق وأروع ما قرأت!

فصلان جديران باعترافات «جان جاك روسو» فصلان يسجلان قوة الإنسان وضعف الإنسان ومأساة الإنسان التى هى من قوته وضعفه معاً!

وحين يقول أنيس منصور: «ولم أسكن فى خيمة أبدًا، ولكننى لم أقتنع بعد أن البيت الذى أسكنه ليس فى مهب الرياح، ولم أر الذئب أبدًا ولكن عواءه لم يفارق أذنى، والخوف منه لم يختف من أحلامى»، فهو يعبر عن إحساس عميق بقلق لا سبيل إلى استئصاله، إحساس عميق  بعزلة أبدية مرضية شبيهة بعزلة الشعراء الرومانسيين، شعور عميق  بالعجز عن الاندماج والذوبان أو حتى المشاركة بمختلف درجاتها!

فلا غرو إذن فى أن «أنيس منصور» حين يلبس رداء الحكيم ويقدم لقارئه «فلسفة ما» يسير على نهجها، نراه يصر على شيئين أحدهما هو «اللا ارتباط» فعنده أن كل شيء وكل حكم وكل قيمة وكل موقف ينبغى أن يكون «إلى حد ما» وثانيهما هو إصراره على «المسافة» بين البشر، وهو وجه آخر من وجوه «اللاارتباط»!

وهذا يفسر كيف بلغ «أنيس منصور» أنصع بيانه عندما حدثنا عن قصة انتحار «مارلين مونرو» التى أوجز فيها مأساة كل من يسكنون وحدهم من النابغين كالنسور فوق القمم الباردة وهو معنى نجده متكرراً فى جميع ما كتبه الأدباء الرومانسيون ولاسيما فى عصر «العاصفة والاندفاع» وفى قمة التشاؤم الرومانسى نجده فى «جوتة» وفى «شلى» وفى «بيرون» وفى «كيتس»!

نجده فى قول «جوتة» فى رسالته عن «الشعر والحقيقة»: كل عمل عظيم هو ابن العزلة الشاملة».

ونقترب من نهاية مقال د.لويس عوض الذى كان أحد فصول كتابه الممتع والمهم «الحرية ونقد الحرية» الصادر سنة 1971 حيث يختتم مقاله بالقول:

ومن هنا نرى أن أنيس منصور فى حقيقته هو زعيم مدرسة «الالتزام» و«اللا انتماء» فى الأدب العربى الحديث لأنه ناقص فى «الحب» وناقص فى «البُغْض» ولذا كان من أجدر أدبائنا على فهم «الملل» وأدب الملل والتعبير عن الملل!

ومن هنا كان ينبغى أن يسمى كتابه «مرحباً أيها الملل» وليس «وداعاً أيها الملل» ومن هنا كان أنيس منصور أيضًا من أقدر أدبائنا على فهم أدب العبث أو أدب «اللامعقول» والإحساس بما وراءه من نشاز فى الكون وخلو من المعنى فى الحياة! فليس غريبًا أن يخصص ثلث كتابه لدراسة «بيكت» و«يونيسكو» و«أدامونى» و«مورافيا»، وبعض محاولات «توفيق الحكيم» فى مسرح «اللامعقول»! وهذا العجز عن الالتزام والانتماء هو الذى جعله عاجزا عن فهم «الوجودية» على حقيقتها! ولاسيما فى وجهها «السارترى» - نسبة إلى سارتر - رغم أن رواسب القلق العميق المكدسة فى نفسه منذ صباه كما حدثنا قربته من القلق الوجودى!

وقد عجز أنيس منصور عن فهم الوجودية على حقيقتها  لأنها رغم قيامها على القلق الوجودى قد تتسع للالتزام بقضايا الإنسان، فما كل قلق يفضى إلى العبث والإحساس بلا معقولية الوجود.. ومن القلق ما يفضى إلى تحمل عبء الاختيار والالتزام بقضايا الإنسان.

 

أنيس منصور
أنيس منصور

 

وأخيراً يختتم د.لويس عوض مقاله قائلا:

فإن كان لى عتاب على «أنيس منصور» فهو أنه لم يتأن فى إعداد فترينته من أدباء «اللامعقول» فجمع الغاضب مثل «أوزبورن» على الصاخب مثل «كيرواك» على الضائع مثل «كولون ولسون» على «الصائع» مثل «جينيه»!

هذا الذى مثل «بودلير» لا يتكرر إلا مرة كل مائة عام، ولربما كان هناك حقاً خيط ما يجمع كل هؤلاء فى سياق واحد، والسياق هو «روح العصر» ولكننا فى اعتقادى ينبغى أن نتريث طويلاً قبل أن ننضدد كل هؤلاء فى عقد واحد!

ونحن أبناء العصر لا نملك الرؤية الواضحة لعصرنا العجيب بكل ما فيه من روائع وممسوخات، بالذات لأننا أبناء العصر ولا نملك المسافة الكافية التى ستمكن أبناءنا من إبصارنا من جميع الزوايا قبل إطلاق الأحكام علينا», ولعل أهم درس فى مقال د.لويس عوض وهو أنك قد لا تكون معجباً أو مهتماً بكاتب ما على المستوى الشخصى، لكن عدم الإعجاب ليس مبرراً أن تكتب عن إنتاجه الجيد وتحتفى وتشيد به، وهذا ما فعله د.لويس عوض ليس فقط مع أنيس منصور بل مع عشرات الكُتاب والأدباء غيره!