الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
د.لويس عوض وأنيس منصور وحكاية الملل!

حكايات صحفية

د.لويس عوض وأنيس منصور وحكاية الملل!

لا أخفى إعجابى الشديد بالكاتب الكبير الأستاذ «أنيس منصور» منذ قرأت له أول كتاب فى حياتى وكنت فى المرحلة الإعدادية وهو كتاب «بلاد الله - خلق الله» ثم كتابه «بقايا كل شىء» و«مع الآخرين» وبالطبع كتابه الأشهر والأجمل حول العالم فى 200 يوم. وغيرها من الكتب، هذا غير مقاله الأسبوعى فى الصفحة الأخيرة من أخبار اليوم وعموده اليومى فى «الأخبار»!



تعلمت من مقالات وكتابات الأستاذ «أنيس» كيف تكون بسيطًا وجذابًا ومختصرًا ومفيدًا وممتعًا، وأن تقول فى سطور قليلة ما يكتبه الآخرون فى صفحات عديدة!

ولست هنا بصدد الكتابة عنه، لكن استوقفنى ما كتبه عنه الأستاذ الدكتور «لويس عوض» بمناسبة صدور كتاب أنيس «وداعا أيها الملل» ولم يكتف د.لويس بنقد الكتاب وتحيته بل روى ذكرياته مع أنيس منصور طالبًا وصحفيًا، عنوان مقال د.لويس عوض «مرحبًا أيها الملل» حيث كتب يقول: أنيس منصور عرفته فى الجامعة منذ ربع قرن أو يزيد، ربما منذ سنة 1943 وكان يدرس الفلسفة فى كلية الآداب، وكنت أعلمه الإنجليزية فى (مدرج 74) وكان من دفعة «محمود أمين العالم» و«مصطفى سويف» و«بدر الديب» و«عباس أحمد» و«أمين عزالدين» و«لطيفة الزيات» وغيرهم وغيرهم من اللامعين وغير اللامعين.

وكان متفجر الذكاء شغوفًا بالاطلاع وعلى درجة عالية من الفضول العقلى، وكان مثل أقرانه يبحث عن قيم جديدة لنفسه وعن قيم جديدة لمجتمعه، ولذا كان مثلهم كثير الأسئلة والمحاورات معى ومع معلميه الآخرين ولاسيما «عبدالرحمن بدوى»، وكان الوحيد بين أقرانه الذى يقرأ يومئذ بالألمانية!

أظن أنه ذكر لى أن جدته كانت ألمانية أو شيئا من هذا القبيل، وكان أشدهم انجذابًا إلى الأدب الألمانى والفكر الألمانى، وكانت فرنسيته خيرا من فرنسيتهم! وكنت فرحًا بفتى فى العشرين يحدثنى عن «كافكا» و«ريلكه» وكان رفاقه يتحدثون عن «أفلاطون» و«أرسطو» أما هو فكان يتحدث عن «سارتر» و«كامو»!

كان معاصرًا وكان واضحًا أنه يعرف من الأشياء أكثر مما يعرفه أقرانه على المستوى الأفقى لا الرأسى! ولا أدرى لماذا تملكنى الإحساس بأنه ينتمى إلى أسرة متمدنة، ربما لأنه كان أكثر تلاميذى شبهًا بالطلبة الأوروبيين أو لعلها كانت هذه المعاصرة فيه».

ومنذ اللحظة الأولى أدركت أنه من معدن غير معدن أقرانه، كان ذكاؤهم تأمليا، أما ذكاؤه فكان خاطف البريق كالآلاف من كسر الماس تشع بضياء مشتت فإذا تركز كان كمرايا الأطفال تجمع فيها أشعة الشمس لتغشى الأبصار أو لتحرق جلد الناس فى مداعبة عابثة!

 

د.لويس عوض- أنيس منصور
د.لويس عوض- أنيس منصور

 

كان منهم وليس منهم، كانوا يبحثون فى اهتمام وعذاب، وكان يبحث فى اهتمام ولا مبالاة! كانوا يبحثون عن انتماء عظيم وكان يبحث عن التحرر من كل انتماء، كانوا يجنحون إلى الفكر المادى والاجتماعى، وكان يجنح إلى المثالية والفردية وكان محصنًا ضد الفلسفات المادية والجماعية، كانوا يبحثون عن سلام النفس فى الإيمان «بالغير» أما هو فكان يبحث عن سلام نفسه فى الإيمان بالنفس، وكانوا أقرب إليّ منه، ولكن رغم أنى كنت أختلف معه فى كثير من أفكاره الأساسية إلا أنى كنت أرجو له أن يصبح أستاذًا فى الجامعة، وكنت أحثه حثًاَ أن يعد نفسه لهذا النوع من «الرهبانية» وكان هذا أكثر مما توسمته فى بعضهم!

هذا هو أنيس منصور كما عرفته منذ ربع قرن أو يزيد!

ويمضى د.لويس عوض فى سرد ذكرياته مع أنيس منصور فيقول: وبعد نحو عشر سنوات بعد رحلتى الأمريكية الأولى التقيت به مصادفة عام 1953 فى أحد شوارع القاهرة، فعرفت منه أنه قد عين معيدا فى قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، وأنه يعد رسالة للماجستير أو الدكتوراه وأنه يزاول الكتابة الصحفية فى دار الأخبار فى الوقت نفسه، وفرحت بذلك فرحًا عظيمًا!

وكنت أقرأ له فى «آخر ساعة» أو فى «الجيل» لا أذكر فلا ألقى بالا إلى أكثر ما يكتب! أو لعلنى كنت أحزن لبعض ما يكتب، كان يلهو، كان يسلى، كان يثرثر كل ذلك بطريقة طريفة خلابة، ولكن دون مستواه، وكان مصدر حزنى خيبة أملى، فقد كنت أعلم أن «أنيس منصور» قادر على كتابة النافع والعميق من الكلام، وكنت أعجب له كيف يرضى باختياره أن يضحى بطاقاته الفخمة وبعلمه الواسع لكى يسلى الناس بـ«لغو» الكلام!

ثم التقيت بأنيس منصور مرة أخرى فى أحد شوارع القاهرة، دائمًا فى المنطقة بين «سليمان باشا» و«قصر النيل» فعرفت منه أن دار الأخبار قد عرضت عليه أن يستقيل من الجامعة ليتفرغ للصحافة مقابل مرتب ضخم، وأنه يفكر جديًا فى القبول، فتألمت ألمًا عظيمًا، بلغ مبلغ الغضب وأغلظت له القول وذكرته بواجباته نحو الجامعة والجامعيين! وقد غفر لى غضبى لأنه كان واثقا من سلامة مقاصدى ولأنى أعتقد أنه كان فى قراراته يدرك تماما هذه المعانى التى حدثته فيها ويقدرها تقديرًا حقيقيًا، ولهذا استمع إلى زجرى فى صبر كبير، ولكنى رغم كل ما قيل قرأت فى عينيه أنه قد انتهى إلى القرار الخطير، فانصرفت حزينًا عليه وعلى الجامعة!

ومرت نحو عشر سنوات أخرى، ثم التقيت بأنيس مصادفة عام 1963 فى البن البرازيلى، وكانت أخباره قد انقطعت عنى مرتين، مرة خلال رحلتى الأمريكية الثانية نحو عامين من عملى فى الأمم المتحدة، ومرة فى رحلة نقاهة مريرة، وفيما بينهما كنت فى شغل عنه برحلتى السورية وبرحلتى الوزارية الثقافية، ومع ذلك فقد كانت فضائحه الثقافية تبلغنى كحكاية السلة والجن والعفاريت، وكنا على قلة لقاءاتنا نلتقى دائمًا على ود متصل وكأننا لم نفترق إلا أمس الأول، ويطمئن كل منا على أخبار صاحبه وقوفًا وفى خاطف الحديث!

ودعانى أو دعوته لمزيد من الحوار على إحدى موائد «الأكسلسيور» المطلة على شارع عدلى باشا، وفوجئت بعد دقيقتين من جلوسنا بجمهرة من الشبان، خمسة أو ستة منهم يحتشدون أمام النافذة الكبيرة قبالة مائدتنا وأحدهم يصيح: أنيس منصور.. أنيس منصور!

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

وإذا بكل منهم يمد يده بنوتة أو أوتوجراف طالبًا من أنيس منصور أن يوقعها له!

ودهشت لذلك دهشة عظيمة، لأنى لم أكن أتصور أن أنيس منصور قد أصبح «نجما» كنجوم السينما أو المسرح، كنت حتى تلك اللحظة أتصور أنه مجرد أديب ضل طريقه إلى الصحافة، وكان واضحًا أن هؤلاء الشبان عليهم سمات الطلبة فبدا لى أن أسألهم عن تخصصاتهم، فعرفت أن ثلاثة منهم طلبة فى كلية الطب وواحد فى الآداب وواحد فى التجارة!

وبعد أن انصرفوا أخذت أتأمل وجه «أنيس منصور» وأتفحص عينيه الرماديتين لأحاول أن أفهم منهما حكايته مع «مفتونيه» فلم أوفق إلى شىء لأن نظراته كانت شديدة الزوغان، غالبا من فرط الرضا عن النفس، ولكنى تعلمت أن هناك جيلا جديدا من الشباب يجب أن يحسب حسابه، جيلا يستمد ثقافته ونظرته للحياة من «أنيس منصور» بغض النظر عن رأينا فى هذه الثقافة وهذه النظرة للحياة!

وسألت نفسى هذا السؤال: هل ورث أنيس منصور بأدواته الأكثر عصرية وببرشام الفكر الذی يقدمه لقرائه رعايا «إحسان عبدالقدوس» أم ترى لكل منهما دولته المستقلة؟!

ومنذ ذلك التاريخ بدأت أتابع كتابات أنيس منصور ما أمكنني ذلك ليس فقط لأعرف ماذا يقول ولكن لأكون فكرة عن عقلية شريحة كبيرة من الجيل الصاعد!

ويمضى «لويس عوض» فى مقاله المنشور فى كتابه «الحرية ونقد الحرية» صدر 1971 فيقول: «كل هذا الكلام سقته لأقول شيئًا عن كتاب أنيس منصور «وداعًا أيها الملل» الذى صدر أخيرًا فى طبعته الثانية، وهو من أجود كتبه، عسى أن يعطى هذا البورتريه فكرة عن صاحب الكتاب، وقد كان من الممكن لأنيس منصور أن يسمى كتابه «مرحبا أيها الملل» لأن الكتاب فيه من الاحتفال بالملل أكثر مما فيه من وداع الملل! أو هو على الأصح دراسات فى الملل: ملل الحضارة وملل الثورة على الحضارة، ملل العظماء وملل البسطاء، ملل الكتاب وملل القراءة، ملل الأفراد وملل الجماعات!

والكتاب خال من الوحدة، ففيه من الدراسات الأدبية شىء كثير، وفيه من التأملات الفكرية شىء كثير، وفيه من محاورات العظماء شىء كثير، وفيه من الذكريات الشخصية شىء كثير، ومظهر الوحدة الوحيد الذى تجده فى الكتاب هو أنه يتناول موضوعًا واحدًا هو الملل».

وللحكاية بقية!