الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الحمد لله

كنت قد عدت من مدرستى قرب العصر، وكنت تعبًا للغاية، فقد لعبتُ الكرة مع الأولاد فى الحوش الواسع، وجريت كثيرًا وكثيرًا..



ألقيت بنفسى فوق فراشى.. ودخلت أمى..

ـ قم اغتسل..

لم أستطع حتى أن أرد عليها، فقد كان صدرى يعلو ويهبط فى عنف شديد..

اقتربت منّى ووضعت يدها فوق رأسى..

قالت فى خوف:

ـ حرارتك مرتفعة!

ثم وضعت يدها على صدرى، وتفاجأت أيضًا لدقات صدرى السريعة.

قالت فى خوف أنها ستأخذنى للطبيب.. 

وخفت من خوفها علىَّ، فطلبتُ منها أن لا تفعل.. وأن الأمر لن يتعدى دقائق قليلة ثم أقوم كـ «الشيطان» كما كانت تنعتنى..

ابتسمتْ لى وقامت..

ـ سأعود لك بعد هذه الدقائق يا شيطانى الصغير..

حاولت أن أعتدل لكنى لم أستطع..

كان ألمًا فظيعًا يضرب فى جنبى تحت عضلة قلبى، ولم يكن يتوقف؛ بل يزيد بحيث لم أعد أستطيع احتماله..

تأوهت بصوت خافت كى لا تسمعنى أمى، لكنها اقتحمت غرفتى فجأة وارتمت علىَّ تفحصنى فى رعب.. 

ثم أطلقت صرخة انتفض لها كيانى..

ذهبنا للطبيب..

كان شابًا ذا ذقن خفيفة..

قال لأمى:

ـ من الأفضل له أن يخرج، فى المستشفى «كانتين» يستطيع أن يذهب له..

ناولتنى أمى جنيهين، ثم خرجت..

لم أذهب للكانتين؛ بل أخذت أتمشى فى المستشفى، وأحرص ألا أبتعد عن غرفة الطبيب..

كان العدد كثيرًا جدًا، أحسست أن كل الناس تعانى من أمراض، وأنه لا مكان للأصحاء فى هذه الدنيا..

كانوا متفاوتى الأعمار، ومنهم من كان فى مثل سنّى.. 

لم ألعب مع أحد أو أقترب من أحد؛ خوفًا من أن يكون أحدهم مصابًا بمرض خطير فينتقل لى..

وسمعت أمى تنادينى..

مشينا سويًا ولاحظت أنها واجمة.. حاولت أن أداعب كفها التى تمسك بى فى حرص، لكنها ابتسمت ابتسامة خفيفة..

قلت لها: 

ـ ماذا قال الطبيب؟

نظرت لى فى دهشة، ثم هزت رأسها، وقالت:

ـ لا شىء.. تحتاج للراحة فقط..

ـ نعم أنا أحتاج للراحة.. ولكن إلى متى؟!

لم ترد.. أعدتُ سؤالى، فقالت:

ـ تلزمك راحة طويلة بعض الشىء..

فقلتُ متهللاً:

ـ هل لن أذهب للمدرسة؟

ردت على الفور:

ـ ستذهب كل يوم لتتعلم.. ولكن.. لن تلعب مع أصدقائك.

قلت فى خوف:

ـ ماذا؟!

لم ترد مجددًا.. 

ظللنا ماشيين حتى عدنا للبيت..

ودخلت غرفتى.. 

كان صدرى يؤلمنى من صعود السلم، وكنت متفاجئًا من التغيرات التى تُنبِئُنِى بها أمى.. لقد ظلت صامتة طوال الوقت حتى أبلغتنى فى صرامة أنه لا لعب مع الأولاد.. لا جرى فى الصالة ولا تنطيط فوق السرير.. لا مشى كثير ولا حتى حمْل أشياء ثقيلة..

كادت الدهشة والذعر أن يميتانى، وهى لم تمنحنى حتى الفرصة للاعتراض..

كانت حزينة أكثر منّى، وكنت ألمح دموعها تتساقط وتخفيها بكفها فى سرعة..

أمسكت جنبى ورقدت متألمًا.. 

والغريبة أنى نمت..

فى الصباح كانت تلبسنى الثياب ولم نتبادل كلمة.. كررت أوامرها الجديدة فى صرامة، وقالت أنها اتصلت بالمدرسين ليراقبونى..

وخرجت متبرمًا..

دعانى الأولاد للعب فى الفسحة، لكنى لم أفعل.. جلست فوق حجر فى الحوش أراقبهم، وهم يلعبون.. كنت أريد مشاركتهم، لكن الوجع كان فى جنبى لا يزال.. أتت الكرة إلى جوارى، فناولتها لهم بيدى.. لما أيقنت بأننى لم أعد أصلح للعب، قمت فى يأس وحملت شنطتى..

فى البيت.. 

قابلتنى أمى بوجهها الحزين، فهمت ما بى من نظرة..

أتت خلفى ورقدت على السرير تتصنع الضحك لى، ثم أخرجت ألعابًا خفيفة من شنطة بلاستيكية، ظنت أنها قد تنسينى ألعابى التى تعتمد على الجرى والصياح.. لكننى مللت من اللعب بها، ما أن لمستها أصابعى، ولّيْتُ وجهى نحو الحائط.. ودون إرادة منّى، نزلت دموعى..

قالت أمى أخيرًا لى الحقيقة.. أننى أصبحت مريضًا بمرض فى القلب.. ويتحتم على عدم الانفعال بأى شىء، وإلا عرضت نفسى لألم فظيع وربما الموت..

كانت تقطع شرحها بالبكاء أيضًا، وأنا كنت مرعوبًا مما أسمع..

لم أكن لأتخيل حياتى جامدة بلا روح..

أن أحيا بلا حركة كعجوز فى أخريات أيامه، وأن أمنع نفسى عن كل نشاط، وأن أكبح زمام نفسى فى كل شىء، ذلك أمر ما كنت أطيقه وما كان يناسب طبيعتى أبدًا..

خرجت من غرفتى، وتركتنى لحالى من البكاء والعويل.. زاد «النغز» فى جنبى الأيسر.. حاولت أن أتجاهله لكننى لم أستطع.. حرمنى من النوم الهانئ السريع..

وفى المَدرسة كنت وحيدًا أتطلع للجميع..

والكل يتطلع إلىّ فى رثاء، فقد شاع الخبر، وأصبح تختى الصغير مزارًا من الطلبة والمدرسين، لكنه أيضًا قد خلا إلا منّى.. لم يقبل أى من الأولاد أن يجلس إلى جوارى.. فاكتسبت وحدة جديدة تضاف إلى نصيبى من الحياة.. وفى الفسحة رأيتهم يشكلون فريقين، ولم ينقصهم إلا لاعب.. وتطلعوا حولهم ليبحثوا عمن يشاركهم، فوجدونى أتجه نحوهم.. قلت فى تحدٍّ:

ـ سألعب معكم..

نظروا إلىّ بعضهم فى دهشة، قالوا إن المدرسين حذروهم من حالتى الجديدة، لكننى عاندتهم بل وتوسلت إليهم.. فلم أكن قد لمست الكرة بقدمى منذ شهر..

طلبوا أن أقف فى المرمى، لكننى رفضت، صممت أن ألعب فى الوسط معهم.. وبالفعل لعبت.. انطلقت فرحًا أمارس مهارات فى اللعب لم أتوقعها فىّ، وجريت كما لم أكن أجرى من قبل.. حتى إنهم تحمسوا لى، وصاروا يعتمدون على فى اللعب..

لكننى سقطت فجأة..

نعم سقطت فجأة، وأثرت فى قلوبهم الرعب جميعًا..

فللحظة واحدة دب نغز شديد فى صدرى، نغز لم يكن لى أن أتحمله أبدًا، نغز كالسكين وربما أقوى..

سقطت، وكنت أريد أن أصرخ ألمًا، لكنى لم أفعل..

فالتفوا حولى فى رعب..

وفى البيت قالت أمى فى صرامة، بعينيها الدامعتين:

ـ لا مفر.. لقد طلبت من المدرسة أن تدرس هنا فى البيت.. وقد وافقوا..

ثم خرجت وأغلقت الباب..

تطلعت إلى الحائط..

هذه المرّة لم أمنع نفسى من الصراخ والبكاء..

بدا علىّ أننى قد فهمت أخيرًا المرحلة التى يجب أن أتعايش على أساسها.. مرحلة أننى مريض بالقلب، والمريض يُحرَم من الاستمتاع بالحياة..

فكرت فى نصيبى من الحياة، وشكوت إلى الله كونه اختارنى أنا لهذا المرض ولم يختر غيرى.. وذكرت له فى إصرار أكثر من عشرين شخصًا يستحقون المرض المؤلم أكثر منّى..

ثم بكيت فى النهاية بمنتهى الحرقة، بعدما تأكدت من وضعى الحالى والذى سيستمر للأبد..

كنت أعلم أن أمى فى الخارج تبكى أيضًا..

لكننى فى النهاية لم أجد البكاء علاجًا ناجعًا لأى شىء، وأن محنتى لن تتأثر ببكائى مَهما كان فصمت وتنهدت طويلاً..

ثم وجدتنى أهمس دون أن أدرى: الحمد لله.. مرددًا جملة خطرت فى ذهنى من حيث لا أدرى، وإذا بى يخف من وجعى شىء ما.