الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أحمد بهاء الدين يكتب عن المفكر «فولتير»!

أحمد بهاء الدين يكتب عن المفكر «فولتير»!

ذات يوم قرر الكاتب الكبير الأستاذ «أحمد بهاء الدين» أن يشارك فرنسا وكبار مثقفيها فى احتفالهم بمناسبة مرور مائتى سنة على ميلاد «فولتير» و«جان جاك روسو» أحد أشهر فلاسفة ومفكرى عصر الثورة الفرنسية، فباسم أفكارهما قامت الثورة الفرنسية الكبرى!



فى ذلك الوقت سنة 1978 كان أحمد بهاءالدين يتولى رئاسة تحرير مجلة «العربى» الكويتية، وعلى صفحاتها أقام احتفاليته الخاصة بكتابة مقال نادر ملىء بالمعلومات والحكايات والدلالات عنهما ووصفهما بقوله: «اثنين من أعظم أبناء فرنسا وأبناء الإنسانية كلها».

 

وسأكتفى هنا بما كتبه عن «فولتير» الذى وصفه بهاء فى مقاله بأنه «أعظم صحفى حتى هذا الزمان» ومضى يقول:

«سيد رجال عصر العقل جميعًا بغير منازع كان «فولتير»، وحتى الآن وبعد مضى مائتى سنة على وفاته مازال الكتاب يختصمون فيه، واحد يراه فيلسوفا وآخر يراه مهرجا، وواحد يراه مناضلا وآخر يراه متزلفًا، ومازالت عملية اقتناص صورة حقيقية له، مسألة تفلت من يد كل كاتب، فمن ناحية إنتاجه فى أى فريق يصنف «فولتير»؟

 

رسائل للأباطرة والنبلاء
رسائل للأباطرة والنبلاء

 

هل هو مبشر أخلاقى؟ هل هو مؤلف مسرحى؟ هل هو روائى؟ هل هو فيلسوف؟ هل هو كاتب مقالات ومشارك فى أول دائرة معارف؟!

لقد كتب «فولتير» كل هذا وبالعشرات، ونقاد كل فرع يضعونه فى مقام الرائد الطليعى العبقرى، ونقاد يرفضونه ويلفظونه من فرع إلى فرع! أستاذ الفلسفة يقول: ربما كان مسرحيًا! ودارس المسرح يقول: ربما كان روائيًا!

ومن ناحية آرائه السياسية والاجتماعية، هل كان مناضلا ضد الاستبداد والكنيسة؟

هل كان على العكس من ذلك ملكيًا مؤمنًا بالاستبداد المستنير فحسب؟! هل كان منافقًا يتزلف للملوك ويداهن النبلاء ويراسل الحكام والأباطرة ويعيش دسائس البلاط الإمبراطورى هنا وهناك؟! وينهى عن الثورة ويحتقر الجماهير أو بالأحرى لا يراها جديرة بإعطائها مسئوليات السلطة؟!

ويمضى الأستاذ أحمد بهاء الدين قائلا فى تحليله المبهر:

«لقد كتب «فولتير» فعلاً كل هذه الآراء، دعا إلى الثورة وحذر منها داعيًا الملوك والنبلاء إلى الإصلاح، دافع عن قضايا المواطنين فى بسالة هائلة، وكان يقرأ رواياته قبل نشرها فى صالون الأميرات والنبيلات ويراعى ملاحظاتهن!

هل كان مؤمنًا أم ملحدًا؟ لقد اهتم بإثبات أنه مؤمن، ولكنه كتب عشرات المقالات فى الإلحاد ضد الكنيسة بتوقيعات مستعارة، وكانت مراسلاته الشهيرة مع «كاترين» العظمى قيصرة روسيا تدور كلها حول محاولة إقناعها بإلغاء نظام الرق وامتلاك الفلاحين للأراضى!

هل كان ذا وجهين أو عشرة أوجه؟ لقد كان ضئيلًا دميمًا فقيرًا، ولكنه لاذع اللسان وقادر على كسب الأعداء بصورة مذهلة، وفى سن الرابعة والعشرين كان قد اشتغل مع النبلاء ثم تشاجر معهم، ثم سجنوه فى الباستيل، ثم أصدر روايات فاشلة، ثم ألف مسرحية «أوديب» فأصبح أشهر اسم أدبى فى فرنسا وعاش بعدها حتى سن الرابعة والثمانين!

 

فولتير
فولتير

 

وكان بخيلاً جدا، ولكنه كان يسخى إلى آخر الحدود على الفنانين البؤساء وينفق على فرق تمثيلية صغيرة فى زمن لم يكن لهذه الفنون أهل يرعونها؟!

وحين أدرك قيمة المال دخل فى التجارة والمضاربات وعمليات قيل إن بعضها لم يكن بريئًا تمامًا! ولكنه كوَّن ثروة كبيرة استغنى بها عن النبلاء!

هل كان متفائلاً أم متشائمًا؟ لعل هذا من أكبر الأسئلة التى حيرت المؤرخين!

فهو ساخر دائمًا، والبعض يقول حاقد دائمًا: «إذا أمسك بتلابيب أعظم العظماء لا يتركه إلا مدمرًا، شاكًّا فيما حوله يرى المؤامرات تحاك لقتله واضطهاده لكثرة من قتلهم وسفك دماءهم بقلمه الجبار!

وهى سخرية نراها فى صوره وتماثيله التى حفظها الزمن، ويتأملها المرء فلا يعرف هل هو يضحك للدنيا؟ أم هو يضحك من الدنيا! وهل يصدق المرء كلامه عن «العالم الشريد» أم دعوته فى آخر مؤلفاته «كانديه أو التفاؤل» حيث يصل البطل بعد مقاساة كل الشرور إلى أن خير ما يفعله الإنسان: أن يعكف على زراعة حديقته الصغيرة، حتى هذه العبارة البسيطة، أن يعكف كل إنسان على زراعة حديقته الصغيرة، هل هى مشاركة فى بناء العالم، أم هى إدارة ظهر لهذا العالم؟!

ويصل الأستاذ أحمد بهاء الدين فى تحليله وتشخيصه الدقيق إلى القول:

«الواقع أننى أغامر وأقول إننا إزاء «فولتير» إنما نجد ظاهرة فى عالم الكتابة لا نظير له! إنه ليس فيلسوفًا ولا مؤلفًا مسرحيًا ولا روائيًا ولا أكاديميًا بالمعنى المتفوق لأى كلمة من هذه الكلمات، على الأقل بالقدر الذى يساوى شهرته وتأثيره طوال قرنين من الزمان! أغامر وأقول إنه كان «الكاتب الصحفى» الأعظم حتى هذا الزمان!

ففى زمن لم تكن فيه صحافة منتشرة ولا طباعة كتب ولا قراء بهذا الاتساع ولا رأيًا عاما بالمعنى المفهوم. فى زمان كهذا كان «فولتير» بمثابة مؤسسة كاملة للإعلام والنشر والتثقيف والإثارة والجدل.. ناقلا كل هذه القضايا إلى أوسع دائرة نقلها إليها كاتب بمفرده فى مثل ذلك الزمان!

 

أحمد بهاء الدين
أحمد بهاء الدين

 

نحن أمام كاتب ترك لنا ما يقرب من مائة مؤلف، ما بين رواية ومسرحية ودراسة فلسفية وأبحاث فى السياسة والاجتماع والدين ونظم الحكم!

وربما أهم من ذلك رسائله التى كان يكتبها أو مراسلاته مع الملوك والأباطرة والحكام والمفكرين والأصدقاء فى كل أنحاء أوروبا، ويقدر ما بقى من مراسلاته بحوالى عشرين ألف رسالة مكتوبة فى حوالى ربع مليون صفحة! وهذا هو المؤكد الباقى المنشور فى كتب ومجلدات!

ويتساءل الأستاذ أحمد بهاء الدين: أيمكن أن تقول جريدة أكثر من هذا؟

أيمكن أن تصدر دار نشر مثل هذه الكمية، ولكن تشبيهه بالصحفى «الكاتب» هل لمجرد الكمية.. كلا!

ولكن لفارق آخر جوهرى يخيل لى إنه يمكن أن يكون المفتاح الذى يحل لنا متناقضات كثيرة فى أعماله، وترددات فى آرائه وصعودا وهبوطا فى حماسته!

فالفيلسوف مثلاً يعكف على الفكر الفلسفى ويحاول إخضاع كل شىء لنظام فكرى معين، وأى واحد من هؤلاء يحتاج إلى بطء فى الإنتاج، إلى فترة تخمر كافية إزاء كل حدث، بل كل مرحلة!

ولكن «فولتير» لم يكن كذلك، كان ضاربًا بسيفه القاطع الحاد فى كل قضية ومشكلة وفى كل يوم وساعة.. محاربًا فى كل الجبهات معًا، محاولا - وهذا هو مربط الفرس - أن يقدم الحلول العملية الممكنة إزاء كل موقف يراه، وهذه ليست مهمة الفيلسوف ولا الفنان ولا الأديب، ولكن الصحفى يخضع كل ميوله وإمكانياته فى هذه المجالات للتصدى للواقع، ومعالجة الأحداث وتقديم الحلول، فهو فى «كر وفر» وفى صراع دائم وفى تجارب تصيب وتخيب!

قال عنه ناقد متخصص فى أعماله: «كان مثل جهاز «السيسموجراف» الذى يرصد أدق الهزات الأرضية ويتأثر بها ويتجاوب معها، وليس هناك هدف يمكن أن تصل إليه «صحافة» أسمى من هذا الهدف، هذه الحساسية، الدقة وسرعة والرصد والرد معًا، كان يلعب دورًا «دنيويًا» مائة فى المائة لا نظريًا ولا فكريًا!

كانت قدراته الفلسفية والروائية والمسرحية والجدلية هائلة، ولكنه لم يخضع نفسه لها، بل أخضعها كلها لمواجهة الدنيا الحافلة بالمشاكل، استخدمها جميعًا فى هدم نظام قديم وإقامة نظام جديد، حارب بها كلها ونقل صوته إلى كل الأسماع من أبعد الأباطرة إلى أبسط الناس، واستطاع أن يجعل أعظم شخصيات عصره مثل «فردريك الأكبر» فى برلين، و«كاترين العظمى» فى بطرسبرج «ليننجراد الحالية» يعتبرون أنفسهم تلاميذ له!

فإذا لم تسعفه الكتب والمقالات ولا الرسائل وضاق صدر العالم من احتمال جرأته على القيم القديمة، لجأ إلى الكتابة وهو فى أوج مجده بأسماء مستعارة ليقول ما لا يستطيع أن يقوله باسمه الكبير الصريح! وما كان لهذا كله أن يجعله عظيمًا أو مؤثرًا إلا إذا كان كل هذا النشاط الشيطانى تربطه أفكار أساسية يحاول فى النهاية تثبيتها فى أساس النظام الجديد!

فهو رجل العقل فى الدرجة الأولى وأبرز مؤسسى عصر سيادة العقل، وهو داعية الأفكار الجديدة التى هى الحق والقانون والعدل وقيمة المواطن، بل ووصف الفرد بأنه مواطن، لقد فتح «فولتير» مستقبلاً عظيمًا للعقل فى الوقت المناسب».

انتهى مقال الأستاذ أحمد بهاء الدين وهو درس فى فن الكتابة العذبة والعميقة، مقال واحد بقلمه الفذ يغنيك عن قراءة عشرات المقالات وربما الكتب عن حياة ومؤلفات «فولتير»، ولعلك عرفت الآن لماذا أصبح «بهاء» أستاذ الكلمة الراقية الصادقة التى تحترم عقلك لأقصى الحدود!