الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عودة

كان يحلم يومًا بالعودة، وظل هذا الحلم يراوده طيلة سنوات الغربة، كيف ينسى ومن ينسى أيام الصبا؟



أصبح أكثر قلقًا فى الأيام الأخيرة. داخله حماسة قوية للعودة هناك إلى أرض الوطن. الدار القديمة والحقول والأشجار والنخيل، لكن هناك من يرفض عودته لازال هناك موانع كثيرة، حِقد ومعارك ومشكلات، لأن الدم مهما طال الزمان وابتعد المكان لا يُنسى أبدًا ربما تهب رياح التغيير فى كل مكان. هبت قوية فى الألفية الجديدة والعولمة، لَكن ربما كان هذا غير كاف للنسيان.

صراع داخلى (حب الحياة، حب الوطن والعودة) الاثنان يتصارعان كل منهما يريد أن يسود على حساب الآخر عشق الوطن والبيت القديم النخلة التى نبتت يوم ميلاده وكبرا معا وكان حالة فريدة بين إنسان ونخلة علاقة غير مفهومة ولكن تكلم عنها كل أهل القرية وقد فارقها دون ذنب اقترفه ومنذ رحل عنها لَم تعد تعطى ثمرًا. 

 ولأسباب التهور والحقد والبغض بسبب هؤلاء فرضت قيود مُميتة جعلت البرىء جانى والطليق الحر مكبل بقيود لا يراها خلف أسوار عالية.

لا تعطى الشمس نورها فى ظل الأحباب والأهل ولكن عليك أن تعيش محرومًا من الحب والدفء وغيرهما. عش كيفما شئت.

لكن قرار العودة رغم كل الصعوبات كان قرارًا لا رجعة فيه فداخله شوق لا يفرغ وإصرار لا يلين وقرر أن يقهر كل هذه الصراعات التى تدور بداخله واهتدى بعد تفكير كثير أن تكون العودة بشروط لجأ لبعض الخطط، لابد وأن يقوم بها أولًا حتى يطمئن للعودة بسلام أرسل رسله ليستطلع الأخبار هناك. دخل الرسول ليلًا وكانت القرية قد انتشرت بها أعمدة الإنارة، على حسب الوصف وصل إلى البيت ومنها إلى دوار العمدة، قد مرق من خلال الطريق على منازل الخصوم، كان تغييرًا شاملًا وكاملًا كل الأماكن والأركان قد هبت ريح التغيير عليها بقوة حتى دخلت بين الشقوق والأزقة وظهرت البيوت الجديدة بجواره العتيقة جدران خرسانية بجوار جدران طينية ومطاعم كبيرة فخمة وأفران خبز للفينو والشامى ومقاهى تقدم (خدمات الوايفاى) قربت البعيد وشيدت مدرسة ابتدائية وأخرى إعدادية ودور لحضانة ووحدة صحية، تضاءل دور حلاق الصحة واختفت تمامًا القابلة (الداية) ولكن مازالت الماشية تخرج إلى الحقول والأوز والبط يسبح فى الترع ومجارى المياه 

وكذلك النخيل والحقول والمبادئ الأولى كما هى لَم يصبها رياح التغيير رجع المرسال المزدوج ينقل الأخبار صحيحة كما هى، ولكن كان الرأى  الأول والأخير له. تردد كثيرًا ولكن قرر أخيرًا العودة ولكن بشروط.

عليه أن يذهب للقرية ليلًا فى ظل جناح الليل المظلم الآمن ليستر عليه من ضوء الشمس الكاشف. أتعود بعد هذه الغربة إلى الوطن متخفيًا غريبًا؟

لم يكن مجرمًا وقاطع طريق بل كان قلبًا نابضًا بالحب والسلام وعقلًا يطمح لأبعد ما فوق الأفق لأجل قريته المحببة إلى قلبه المتسع ليشمل كل البشر وأولهم الخصوم.

وانتظر حتى نامت القرية كلها ونزل من طريق الجبل ولازال يتذكر الطريق المؤدى إلى الدار القديمة تخطى الطريق مسرعا ً حتى لا يصطدم بأحد من أهل القرية وهو يعرف جيدًا لا غريب يدخل إلا وأن يقدم تقريرًا مفصل لأسباب زيارته وكم تستغرق وعند من وغيرها.

 مضت ساعات الفجر الأربع الأولى أسرع الخطى اندهش وانفرجت أسارير وجهه المضطرب عندما وجد توأمته لازالت على قيد الحياة اقترب منها وحضنها بقوة وقبلها ومرر نظرة عليها من جزعها حتى آخر سعفها العالى وجريدها التى كان يرحب به بفعل ريح الليل النادى، تلك هى النخلة التى قضى معها سنوات الصبا، كان بيته على بعد خطوتين فقط أصابته نشوة العودة والنصر بما خطط، الدار أمامه ودخل الباب ولَم يجد عناءً، أغلق الباب خلفه وأشعل لمبة الجاز ذات العويل لازالت موجودة والغاز باقى فيها، وجد كل شىء كما هو  أعشاش الحمام الزاجل كان لايزال إلى الآن باقى، مكان البقرة وعجلها ومرابطهم والأوتاد كما هى، كذلك السياج الذى يحوى التبن.

 ثم قفز سريعًا إلى الدرج مثلما كان يفعل قديمًا وهو فتى رشيق وصعد على السلم الطينى إلى أعلى وهنا وجد الحجرة التى كانت تنام فيها الأسرة كلها تذكر الوالدين والأخوة خرج إلى السطح الذى كان مقابل حجرة النوم كان الفرن لازال موجودًا ومسح بأصابعه (الصماد) المتراكم من الفرن البلدى وتذكر رائحة الخبز البلدى الذى كان يخرج لتوه من الفرن ودقائق حتى صاح  ديك الجيران 

وسمع صوت خوار الماشية تستعد للخروج والاستمتاع بدفء الشمس والتمرغ بين الحشائش.

ولكنه قرر أن يبقى فترة نهار اليوم القادم داخل البيت حتى تمر الساعات والليل الجديد ليرحل مرة أخرى إلى أن تتحسن الأمور، يكتشف خطط أفضل.

وبينما يفكر فى الوضع الراهن حتى انتشرت رائحة الدخان من بيت الجيران التى لازالت تشعل الفرن البلدى بالوقود البدائى (من البوص ومخلفات الماشية).

وأشتم رائحة الماضى البعيد وأعادت له صورة حقيقية قديمةً عند عودته من المدرسة ويجرى عند أمه لتعطى له رغيف الخبز الساخن الغارق فى الزبد والسكر صنع خصيصًا له والتى كانت أكلته المفضلة التى ينتظرها من أسبوع لأسبوع يوم (الخبيز).

واستند على الصومعة القديمة ولازال بها بعض الحنطة، ليرى البيت المجاور  لتعيد إليه ذكريات أخرى، يراقب المشهد والسيدة العجوز تحمل العجين بين يديها وتهبط به إلى الوعاء ليصدر فرقعة محببة لأذنه وكيف السبيل للعودة مرة أخرى لهذه العهود أو العودة المطلقة؟ ارتجف وحزن وزرفت عيونه دمعات معدودة ولَم يتمالك أعصابه وجلس القرفصاء وبينما يحاول تجميع شتاته أكفهر وجه السماء ورعدت وتتساقط الأمطار فى غير موعدها وكان البرق يكشف حدود المكان وصوت الرعد أختلط بصوت البارودو تزلزلت القرية كلها وسمع صراخ وعويل من جميع أرجاء المكان من البيوت و الحقول و المدرسة و كأن القرية ترفض رياح التغيير.