الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

فيللينى.. الشيخ المراهق

أثناء التحضير لأحد الأفلام
أثناء التحضير لأحد الأفلام

«عندما أشعر بشىء شعورًا قويًا، يجب أن أفعله على طريقتى» ف. ف 



يقولون إنه لو أوتى لشادى عبد السلام ما كان ليوسف شاهين من إمكانيات لتفوق عليه. متأسف، هذا غير ممكن بالمرة. ثمة أشياء تفوق مفهوم الكم والكيف فى القدرات وتتجاوز العبقرية ذاتها. عندما يقبض الحالم الأعظم فيللينى على محور قصة بسيطة تحدث كل يوم ويجعلها قصته هو وأسطورته الذاتية، فأى تعريف لهذا على وجه التحديد؟ لعلها كاريزما الشغف والإيمان بالوهم الجميل. عندما تبتعد الصورة فى نهاية فيلم (المواطن كين) لنجد تفاصيل الثراء فى حياته تخنقه وهو مجرد نقش ضئيل فى تعبير عن الضياع، نرى صورة الزمن كلما ابتعدت عن فيديريكو فيللينى جعلته أكبر من مشاهد أفلامه العظيمة التى خلقها لتخلق مجده فصار أكبر من الحياة نفسها. 

معرض صور وثائقى وأفلام مرممة لفيللينى
معرض صور وثائقى وأفلام مرممة لفيللينى

 

 

الواقعية الجديدة والمدينة المفتوحة

لم تكن الواقعية الجديدة  عبارة عن ميلودراما فواجع، ولكن المشاهد فهم أنها الحقيقة لأن ما كانت تعرضه الأفلام من أحداث كان قد حدث منذ وقت قصير أمام الكل. أنت لا تصف الشوارع العشوائية فى (الحريف) لمحمد خان بأى مصطلح أكاديمى متحذلق، فقط أنت تعرف أنك تمشى فى هذه الأماكن، هنا يكون من السهل أن تجد نفسك فى البطل الضائع. على أنه فى مثل هذا الوقت سالف الذكر فى إيطاليا لم يكن الوضع نفسه.

رأى فيللينى فى الأماكن المهدمة ديكورات جاهزة لأفلامه لدرجة أنها تكاد تكون وثائقية وكان لابد من التصوير فى الخلاء وأماكن مضاءة بنور ربنا الطبيعى، فالواقعية الجديدة اخترعتها الضرورة، وكان الفنان هو شخص متحمس يريد أن يعمل.

فى هذا الوقت كان فيديريكو فيللينى ينطلق مع روسيلليتى فى جنبات إيطاليا لتصوير فيلم(بايزان)-Paisan- عن تقدم الأمريكان فى بلاده خلال الحرب العالمية الثانية، انطلق ليشاهد أماكن يراها لأول مرة ومعها آثار الحرب، كان يتعلم سينما أكثر، ويزداد وعيه السياسى أكثر. وتعلم أن ينقل لهجات مدن إيطاليا المختلفة إلى أفلامه، كان يدوِّن الملاحظات فى مفكرة صغيرة، وكان يختم فيلمه (المدينة المفتوحة) عندما تعثر جندى أمريكى فى كابل كهرباء ممدود لهم فى الشارع. تتبع الكابل حتى وصل إلى (فيللينى) وعرَفه بنفسه؛ أنه منتج أفلام! صدقوه أو هكذا تظاهروا فجعلوه يشاهد الفيلم الذى دخل دماغه واقترح عليهم عرضه فى أمريكا. منحوه نسخة من الشريط، وقيمها بعد ما تبين أنهم كانوا محظوظين بالعفوية التى تصرفوا بها وبتلقائية الانفتاح على الآخر. 

 

لقطة من فيلم ليالى كابريه
لقطة من فيلم ليالى كابريه

 

طبعًا لم يكن الرجل منتجًا ولا يحزنون، لكنه أخذ الطبعة إلى بلاده وعرضها فى نيويورك على شركة تقوم بتوزيع الأفلام الأجنبية، فاشترتها منه وبدأ التواصل، وعاد الجندى الأمريكى الذى صار سمساراً للأفلام ومعه بعض الممثلين والمعدات السينمائية الجديدة من الولايات المتحدة، وبواسطتها تمكن من الإعداد لفيلم (المعجزة) عن قصة سمعها فى طفولته من حكايات السيرك، وحتى يجذب الانتباه قال إنها لكاتب روسى كبير وأنها مبنية على أحداث حقيقية وقعت فى روسيا، كما فعل كاتبنا أحمد رجب فى يوم ما عندما نشر مسرحية ساذجة من تأليفه ونسبها للكاتب الكبير دورينمات فانهالت عليه مقالات المديح! طبعًا أعجبوا بقصة فيللينى الروسية فاخترع لهم اسم المؤلف وجاهد أن يظل محتفظًا به حتى لا ينساه كل مرة! أيضاً سألوه عن أعمال أخرى لنفس المؤلف، فكان عليه أن يعترف فى النهاية. 

إن فيلم (المعجزة) يدور حول قرية غجرية فى الغابات اسمها (جامبتيولا) وفيها مجتمع من الحيوانات المتكلمة كقصة ألدوس هكسلى، حدوتة تحكيها له جدته كل ليلة، وظهر بين غجر الغابة رجل طويل وسيم تتدلى من حزامه سكاكين أرعبت الخنازير، وكذلك النساء، كن مرتعبات منه مفتونات به تمامًا. كان جذابًا كالشيطان. وكان فى القرية امرأة كبيرة وقعت فى هواه ووهبت نفسها له وأنجبت منه طفلاً وادعت أن ذلك وقع بدون جماع، وبالطبع لم يصدق أحد هذه المعجزة. لقد أراد (فيللينى) أن يقوم هو نفسه بدور الشاب صاحب السكاكين أمام (آنا مانيانى) فى دور الفلاحة الشبقة الساذجة. وانطلق الرجل لكوافير حريمى ليصبغ شعر رأسه باللون الذهبى حتى يصير كأنه قديس، وبالطبع صار سخرية القوم! أطلقوا عليه فى ذلك الوقت، العزيزة ريتا، نسبة إلى ريتا هيوارث. الدور صغير لكنه مهم، لقد أتاح له أن يعرف كيف يشعر الممثل، بالرغم من أن ذلك الدور الصغير جعل منه نجمًا. وهى تجربة قدمها يوسف شاهين عدة مرات: صاحب دار العرض فى (اليوم السادس)، وموظف البنك فى (إسكندرية ليه) مثلًا. فى ذلك الوقت وحتى انتهت الحرب العالمية الثانية عكف (فيللينى) على كتابة الأفلام، لكنها كالعادة لا تؤمِّن للكاتب أسباب معيشة لائقة، ويفوز بالمجد والأموال، المخرج والممثلون. كان يكتب لروسيللينى وألبرتو لافوادا وبيترو جيرمى، وكان أول فيلم يقدمه مع المخرج لافوادا هو(جريمة جيوفانى ابسكوبو) لكنهم مسخوا النص وعرضوه تحت عنوان تجارى (استسلام الجسد)، وعندما أعاد الكرة فى فيلم (بلا رحمة) و(أمبرسونز الجبار) كان يرى على الشاشة أشياء لم يكتبها، فكان آخر فيلم لهما معًا هو (أضواء حفل المنوعات) عن الحياة الخاصة بمسرح المنوعات الإيطالى، أفراد الفرقة الصغيرة الذين يحلمون بالمجد، ولكن ليسوا مؤهلين لذلك بما يكفى، فكرة الفيلم بالكامل اقتبستها السينما المصرية فى فيلم كوميدى هو (أضواء المدينة). وكلاهما خسر وقت عرضه، الإيطالى والمصرى، لأن الذى كان يجب أن يقوم بأدوار الممثلين عديمى المؤهلات الفنية بالرغم من الطموح الجامح يجب أن يكونوا أصحاب مواهب رفيعة تفهم الموضوع وتنقله للمشاهد!

 

لقطة من فيلم دولتشى فيتا
لقطة من فيلم دولتشى فيتا

 

لكن (فيللينى) لم يفقد طموحه، وبعد عمله كمساعد مخرج فى (أضواء حفل المنوعات) وثق بقدراته على إخراج فيلم كامل وحده وكأن يدرك ما ينتظره من مسئوليات والتزام كامل. اضطرب نومه وانعزل عن الناس وخشى أن يخذلهم. كانت فى رأسه فكرة فيلمه (الشيخ الأبيض)، كانت تحتاج إلى بعض التوضيح على الورق. راح يدنو من الوضع، ويلتقى بالآخرين ثم يقول فى نفسه: يجب أن نتوصل إلى مواءمة من نوع ما، ستعمل بعض ما تريد، وتعطى الآخرين شيئًا مما يريدون. يجب أن تكون منطقيًا ومعتدلًا. ستختار أهم شىء فى نظرك، وعن ذلك لا سبيل إلى التنازل، أما فيما يخص التفاصيل، والأمور غير الأساسية، فعليك أن تكون متسامحًا.

وفى هذا الفيلم ابتكر طريقة ذكية لم يتوقف عنها حتى فيلم (ثمانية ونصف)، أن يبدأ مع منتج وينهى الموضوع مع منتج آخر. كان المنتج يتحسس الطريق معه، يوافق على المبدأ لكنه يخشى الخسارة، كلهم رفضوا الرهان بأموالهم على مخرج شاب (غير مكتمل الرصيد)، وكأنما نصف رصيد أقل من عدم وجود رصيد على الاطلاق. هكذا يلجأ إلى حماس المنتج الأول فى الشروع فى العمل، حتى يعيش فى منتصف الطريق على المنتج المنفذ. وبدأ يكتب قصة الفيلم: الزوجان الجديدان من أهل الريف، يأتيان إلى روما، العاصمة الكاسحة، إنه يتذكر وهو يكتب أول يوم جاء فيه إلى المدينة، ويتذكر ما كانت تحكيه أمه له ولأخيه عن روما التى عاشت فيها وهى شابة صغيرة. وفى القصة تأتى العروس إلى روما لأول مرة فى حياتها، أما العريس فله فيها أقرباء وبالطبع يريدها أن تتعرف عليهم. ثمة مقابلة مع البابا رتبها عم الزوج الذى كان من علية القوم فى روما. هذا اللقاء كان أحد أحلام والدة (فيللينى) ورأى أن يحققه لها على الشاشة. زمن القصة لا يتعدى اليوم الواحد مثل: (يوم من عمرى)، (قبل شروق الشمس)، (من نظرة عين). كان يعرف أنه، خلافاً لاعتقاد أكثر الناس، فإن التحديد، ولا سيما فى السينما، كثيرًا ما يحفز المخيلة أكثر مما تحفزها الحرية المطلقة!

أضفى (فيللينى) الكثير من الأهمية على عمله المتسم بالسيرة الذاتية وعلى استعداده للإفضاء بكل شىء، لكنه يعترف بأنه لا يقدم تقريرًا دقيقًا عن تجاربه، بل يستخدمها إطارا للعمل. «اهتمامى ليس بالكلام على سيرتى الذاتية، لأن ما أكشفه عن نفسى بالكلام على واقع حياتى، أقل مما أكشفه عنها بالكلام على المستوى الأدنى، مستوى أهوائى وأحلامى وأخيلتى». هذا هو فى رأيه واقع الإنسان العادى الذى يسهل عليه أن يكسو نفسه من الخارج ولكن يستحيل عليه أن يخفى باطنه، هذه الإشكالية تتمحور حولها شخصية (فيللينى) الإنسان والفنان، حتى لو أخرج فيلما عن منضدة أو قطة، لكنها سيرة ذاتية إلى حد ما. «كيما تعرفنى معرفة عميقة وشخصية، عليك أن تعرف أفلامى، لأنها انبعثت من أعماقى، وأنا مكشوف تمامًا فيها حتى، أمامى أنا، وخلال إخراج أفلامى أجدنى أفكر فى فيلم، وتخطر لى أفكار لا علم لى بها سابقًا، فبينما يلتمع خيالى يكون الكشف، تكون الحقيقة العميقة للباطن». لم يكن (فيللينى) يرتاح مع أبويه وهو طفل ولا مع أخيه، هكذا اعتبر العاملين معه فى موقع التصوير هم أسرته، ويرى أن عالم الفيلم يجب أن يماثل عالم السيرك، حيث يكون الترابط بين الأقزام والمهرجين والمدربين أقوى من أى شىء. مثل يوسف شاهين تعرض للنقد لأنه لا يعمل أفلامًا إلا لإرضاء نفسه، وهذا النقد مبرر لأنه صحيح، ولكن هذه هى الطريقة الوحيدة التى يستطيع العمل بها. إذا صنعت فيلما لإرضاء الجميع، فإنك لن تُرضى أحدًا، عليك أن ترضى نفسك أولا، وإن أرضى الناس ما يرضيك، تستطيع متابعة العمل. 

 

حضور حسين فهمى لمعرض فيللينى فى المعهد الإيطالى
حضور حسين فهمى لمعرض فيللينى فى المعهد الإيطالى

 

كل من سبيلبيرج وتارانتينو محظوظ لأن ما يحبه. يحبه العديد من المتفرجين على مستوى العالم، المعنى الذى يُلخِّصه ستانلى كوبريك بقوله، من الرائع أن يكون ما تحب عمله هو الذى تربح من ورائه! وكانت الأفلام وصناعتها هى شغف فيللينى، اليوم الذى لا يعمل فيه هو يوم ضائع، يعمل فقط ما يرغب فى عمله، يعمل أفضل مما يستطيع، يماثل بينوكيو الذى رفض أن يكون دميه تحركها الأسلاك وأراد أن يكون ولدًا حقيقيًا، أى أن يكون هو نفسه، وكانت ترعبه فكرة العجز المهنى التى تهدد كل مبدع، الخوف من جفاف المنبع، فتناولها فى فيلمه (ثمانية ونصف) من خلال استحواذ نفس الفكرة على (جويدو)، بالرغم من أنه لم يعان منها، إذ كانت الأفكار تمر عليه سريعة بحيث لا يتمكن حتى من الاستفادة منها، الكثير من الأفكار تخطر له فى الأحلام وهى أحسنها لأنها صور وليست كلمات «إن الموهبة الغامضة كنز عظيم ولكن هناك خوفا دائما من أن تذهب مثلما جاءت مكتنفة بالغموض». رأى فى أحد أحلامه أنه كان يخرج فيلمًا وكان يصرخ ولكن من غير صوت وكان الممثلون والفنيون منتظرين تعليماته، بينهم أفيال فكان المكان عبارة عن حلبة سيرك، كما كان دائما فى طفولته. 

ينتقده البعض لأنه يرتجل أثناء التصوير، وهو يعتبر ذلك انفتاحًا على الامكانات يغير الكثير، لكن يُعد كل شىء أكثر من اللازم، «لا تصنع أفلامى مثل الساعات السويسرية، ما كنت لأقدر على هذا النوع من الدقة، وليست مثل مخطوطات هتكشوك الذى استطاع أن يتعامل مع مخطوط دقيق جًدا لا فى كلماته فقط بل فى إشاراته أيضا، كان يتصور الفيلم قبل أن ينفذه، أما أنا فأرى الفيلم فى عين الخيال بعد أن أكمله».

وكان أمينًا مع نفسه لأبعد درجة، وترى فى أفلامه انعكاس تفصيلات حياته، لقد عمل فيلم (حياة حلوة) وفيلم (ثمانية ونصف) فى أوقات مختلفة من حياته، لذلك فإنهما مختلفان شكلاً وموضوعًا، ولا يوزع الأدوار على الممثلين بطريقة آلية حسب إملاءات المنتج كما يحدث فى العادة بل يبحث عن التجسيد الحى للشخصيات المتخيلة، ولا يعنيه فى كثير أو قليل أن تكون الممثلة أو يكون الممثل من المحترفين، بل لم يكن يهمه إذا كانوا يتكلمون الإيطالية أو لا، فاذا لزم الأمر يجعلهم يلقون بعض الأجزاء بلغاتهم ثم يعالج الأمر فى الدبلجة. إنه يريد من كل واحد أن يقدم أفضل ما عنده، يحاول تخفيف توتر الممثلين حتى يتخلصوا من كوابحهم الداخلية إذا كانوا موهوبين، ومن براعتهم الفنية إذا كانوا محترفين، «إن التعامل مع الممثلين المحترفين هو الأصعب دائما، لأنهم تعلموا الدروس الخاطئة الراسخة التى يصعب التخلص منها». عندما يختار أحد الممثلين ليقوم بدور الملك، فإنه يختار الشخص الذى يظهر ويبدو مثل الملك الذى فى خياله ولا يهمه إذا كان الممثل يشعر بالرغبة أو الارتياح لهذا الدور، فلا يجب على الممثل أن يجد حقيقته هو، بل حقيقة الشخصية التى يمثلها.

سألوه مرة: لماذا لا تصنع أفلاماً نفهمها يا فيفى، فأجابهم: لأنى أقول الحقيقة، والحقيقة ليست جلية أبداً، بينما الأكاذيب سرعان ما يفهمها الجميع. وما قاله حق خالص بلا سفسطة، لأن الإنسان الصادق متناقض، وفهم المتناقضات صعب.

لم يرغب قط فى توضيح كل شيء. إنه يلفه فى حزمة أنيقة ويقدمه مكتملاً فى نهايات أفلامه، لا يرجو إلا أن يتذكر الجمهور شخصياته ويفكر فيها ويظل يتساءل عنها. فى البداية تهرَّب من الارتباط المطلق مع بعض الواقعيين الجدد الذين وجدوا فى الواقعية الجديدة ذريعة مناسبة لكبتهم الإبداعى، وإنفاق القليل من المال، وحتى تقنيع انعدام الكفاءة. عرض عليه سيزارى زافاتينى إخراج أحد أقسام فيلم (حب فى المدينة) بعد أن صار زافاتينى منتجاً، قال له إنه يريد شيئاً بالأسلوب الصحفى الذى كانت تتميز به بعض الأفلام الأمريكية آنذاك، والتى كانت توهم الناس أنها دراما وثائقية فى حين هى محض خيال فى واقع الأمر. وكثيراً ما كانت تستخدم تقنية الراوى الذى يبدو كأنه يروى شريط أنباء رسمى. فى ذلك الوقت كانت أفلام الأخبار فى دور العرض تلاقى من الاهتمام ما تلقاه أخبار نشرة التلفاز حالياً. وكان يتساءل ماذا كان سيفعل المخرجون الكبار وقتها، جيمز ويل أو تود براونينج لو أنهم أخرجوا (دراكيولا) أو (فرانكشتاين) على طريقة الواقعية الجديدة. «خلافاً لما يعتقد بعض الناس، فأنا أحب أن أكون مستعداً كل الاستعداد، وبعد ذلك أقوم بالتغييرات. إن الإهمال يعنى الافتقار إلى الاهتمام. وما مرت بى لحظة لم أكن فيها مهتماً». 

فاز فللينى بأول رحلة إلى أرض الأحلام (أمريكا) عندما رُشح فيلمه (الطريق) للأوسكار، لكنه عندما غادرها شعر أن معرفته بها قلت عما كانت عليه قبل الرحلة. كان هناك الكثير مما ينبغى أن يعرفه، وأدرك آنئذ أنه لن يعرفها أبداً. المكان الذى أحبه كان فى الواقع هو ماضى أمريكا الذى لم يعد موجوداً. فهم أن أمريكا الطفلة البريئة الواثقة قد ماتت! يتفق أن تلقى فى الحياة شخصاً عنده أسرار وحكمة، فتقضى وقتاً رائعاً معه، وترغب فى الاستمرار ومواصلة التجربة فى لقاءات لا تنتهى، ولكن عندما تدوم طويلا لا تتعلم شيئاً. لا يبقى إلا الفراغ، خيبة الأمل المبهمة. لهذا أحجم فيللينى عن إخراج الجزء الثانى من (حياة حلوة). «لو فعلت ذلك لأجبت عن كل أسئلتهم، وتُرِكوا غير راضين، لا بالجزء الثانى من (حياة حلوة)، بل بما يتذكرونه من الجزء الأول.» هذا الوضوح والكبرياء جعلا لاسم الفيلم (Dolce Vita) مكاناً فى المعاجم الأمريكية كعبارة تعنى (حياة الدعة والانغماس فى الملذات)، بل إدراج لفظة (فيللينى) كصفة (Felliniesque) فى سير الأعلام. كان يواصل متعة البحث عن الحياة. «أنا أرى الفنان الخلاق واسطة، وفى نشاطه الإبداعى تتملكه شخصيات شتى عديدة، وكمخرج سينمائى سنحت لى الفرصة لأعيش حيوات كثيرة، وفى مختلف المراحل. ففى وسع المرء أن يصبح مثل خنفساء كافكا فى تحوُّله مع أنه لم يعش تلك الحياة قط»، وكافكا نموذج مبالغ فيه لصاحب المخيلة الجامحة جداً، وكان فى ذلك خير للعالم كله، أما له، فلا. إن الفنان عنده يتحول إلى وحش، أو إلى مسخ أو إلى مصاص دماء، من غير أن يكون واحدًا منهم فى الحقيقة!