الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
سبعون ألف كيلومتر للبحث عن مصر!

سبعون ألف كيلومتر للبحث عن مصر!

منذ عشر سنوات بالضبط (مارس 2012) رحل فى هدوء وصمت الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ «محسن محمد» وترك ثروة صحفية من الكتب كتبها بقلمه الرشيق والعذب والسهل تتناول تاريخ مصر الحديث بكل ما جرى فيه من أحداث وأزمات ومعارك سياسية وحزبية! 



كان البطل عند الأستاذ «محسن محمد» وهو يكتب تاريخ مصر هو قراءته المتأنية للوثائق السرية البريطانية والأمريكية عن مصر من خلال تقارير هؤلاء السفراء التى يبعثون بها إلى وزارات خارجية بلادهم!

كانت آخر مناصبه رئيس مجلس إدارة دار التحرير ورئيس تحرير «الجمهورية» لمدة 12 سنة حتى تمت إقالته عام 1989، وكان أول كتاب صدر له عام 1954 هو «حكايات صحفية» وتوالت كتبه حتى قاربت الثلاثين كتابًا منها: «دنيا الصحافة»، و«الصحافة قصص ومغامرات» و«عندما يموت الملك - فؤاد»، «أوراق سقطت من التاريخ» و«سنة من عمر مصر»، و«سرقة ملك مصر» و«أفندينا يبيع مصر» و«5 أيام هزت مصر» و«رؤساء الوزارات» و«سعد زغلول مولد ثورة» و«التاريخ السرى لمصر» وغيرها من الكتب!

وحكاية محسن محمد وغرامه بالوثائق الأجنبية درس مهم فى فن إتقان المهنة والبحث عن المعلومة ولو فى آخر الدنيا وهذا ما رواه بالتفصيل فى مقدمة كتابه «التاريخ السرى لمصر» (صدر عام 1979) كان عنوان المقدمة هو «70 ألف كيلومتر للبحث عن مصر» وفيها يقول:

«سافرت إلى لندن لأبحث عن سر، وأمضيت فى العاصمة البريطانية عدة أسابيع كان برنامجى خلالها واضحًا ومحددًا، أغادر الفندق مبكرًا كل صباح - لأقف أمام المبنى رقم 18 شارع البرتغال عند تقاطعه بشارع «سيرل» حتى يفتح الباب فى التاسعة والنصف فأكون أول من يدخل ثم آخر من يغادر المبنى فى الخامسة مساءً!وليلاً وفى أثناء عطلة نهاية الأسبوع كنت أجلس فى حجرتى أراجع مئات الأوراق التى حصلت عليها مقابل رسوم محددة تدفع لتصوير المستندات الأصلية فإن ذلك البناء هو مركز الوثائق العامة للحكومة البريطانية!

 

 

 

وللمكتب قواعد معروفة، غير مسموح لك - على الإطلاق - أن تستعمل الحبر، فربما كنت من عشاق التاريخ لدرجة أنك - دون أن يفطن إليك أحد - تحذف  كلمة أو جملة من الوثائق لتغير وتبدل معناها لصالح بلادك! فإن بعض المواطنين يريدون تغيير المستقبل، وبعض الوطنيين المخلصين المتحمسين يريدون - أحيانا - تغيير الماضى أيضًا!

ولا يسمح لك بالدخول إلا بإثبات شخصيتك وهدفك! ثم تحصل على بطاقة تعطيك حق الجلوس على أحد مقاعد مركز الوثائق خمس سنوات كاملة تنقل بالقلم الرصاص، أو تطلب إليهم تصوير ما تريد فيعطونك فى الصباح التالى - صورة لأى وثيقة مقابل قروش للصفحة الواحدة، وهو مبلغ زهيد لشراء التاريخ!

وإذا لم تجد مقعدًا فيجب أن تنتظر، وأمامك عشاق التاريخ يقرأون وأنت وحدك تتلهف وتتلمظ وأحيانًا يطول بك الانتظار إلا إذا اشتركت فى سباق التبكير كما فعلت!

ومن سوء الحظ أن بعض الذين يحبون التاريخ لا يملكون القدر الكافى من المال.. ولا يستطيعون شراء كل الوثائق ولذلك يجيئون لينقلوا نسخًا منها، أو ينسخون صورًا على الآلات الكاتبة، وهناك حجرات خاصة للآلات الكاتبة تحفظ وتكتم الصوت!

ويمضى الأستاذ «محسن محمد» فى وصف ما شاهده عن قرب فيقول:

والمركز يسمح لك بالاطلاع على الوثائق الأصلية، والمركز يبيع صور أى مستند وعليه تأشيرات المسئولين وقراراتهم.

وبريطانيا - برغم الثمن البسيط للصور - تربح الآن من بيع تاريخها وتاريخ الدول التى تعاملت مع بريطانيا أو كانت خاضعة لها وتحت حمايتها فى يوم من الأيام، والمشترون للتاريخ بالألوف كل يوم وكل ساعة! والصور الفوتوغرافية للمستندات المطلوبة بالألوف أيضًا، والزحام على الأماكن فى مركز الوثائق شديد للغاية، هناك دبلوماسيون وصحفيون، وأساتذة جامعات وطلاب علم ومؤرخون من جميع أنحاء العالم. وهناك روائيون يبحثون فى الأوراق، يفتشون عن حكايات كالأساطير ومغامرات مثيرة كالروايات البوليسية، وفى كل ورقة تلمس حكاية ومن كل صفحة تنبض وتلمع قصة، ومن خلال الملفات تجد التاريخ أمامك فيه كل قصص الشعوب من وجهة نظر بريطانية بطبيعة الحال.

وسر الزحام يرجع إلى القرار الذى أصدرته الحكومة البريطانية بإذاعة النصوص والأوراق والمستندات الخاصة بـ 12 وزارة فى بريطانيا خلال الحرب العالمية الأخيرة، وهذه الوثائق فى (900 مجلد) ولو وضعت فوق بعضها لبلغ طولها 12 كيلومترا!!

 

 

 

ويمضى الأستاذ محسن محمد فيكشف عن هدفه قائلا:

كان هدفى أن أبحث عن مصر فى هذه الوثائق وبالذات فى تلك الفترة الحاسمة من تاريخها أيام الحرب العالمية الثانية، وفى بعض الوثائق وجدت إشارة لأحداث قديمة وقعت قبل الحرب بسنين، إن الوثائق تبين لأول مرة كيف أن الإنجليز فكروا فى عزل الملك «أحمد فؤاد» عندما اشتد عليه المرض، وهناك اعترافات لرجال وزراء الخارجية البريطانية تؤكد أنهم غيروا رؤساء الوزارات ورؤساء الديوان فى مصر أيام الملك فؤاد وفاروق!

ولم يكن البحث عن التاريخ السرى لمصر أيام الحرب العالمية الثانية مسألة صعبة، إن السفير البريطانى فى القاهرة كان يبعث إلى وزارة الخارجية فى لندن برقيات متعددة تصل إلى عشر فى اليوم الواحد!

وكان السفير السير «مايلز لامبسون» أو اللورد «كيلرن» - كما عرف فيما بعد - يستشير حكومته فى كل صغيرة، ويبلغها بكل كبيرة، ويعطى المسئولين فى وزارة الخارجية - وهم فى مكاتبهم بلندن - صورة كاملة فيها كل التفاصيل الدقيقة عن الحياة فى مصر والرجال الذين يحكمون.. مبادئهم ونزواتهم أيضًا».

وكان السفير وحكومته يهتمان بكل الأمور فى مصر، ابتداء من محصول القطن حتى حالة الأمن، ويراقبون غراميات الملك وأسرته، ويتابعون أنباء الحاشية والتعيين فى المناصب الكبرى بما فيها الأزهر، ويسجلون مكالمات الملكة «نازلى» ويغضبون إذا منحت «هدى شعراوى» وسامًا، ويراجعون أذون الترخيص بالتنقيب عن الآثار المصرية.

أما الهدف الأول للسفير وحكومته فهو أن يتأكد من أن شاغل كل منصب يدين بالولاء لبريطانيا، أو على الأقل لا يعارض سياستها فى أثناء الحرب!

والغريب فى الأمر أن عددًا من المسئولين المصريين كانوا يجتمعون بالملك أو بزملائهم من زعماء الأحزاب، ثم يخرجون من هذه الاجتماعات إلى دار السفارة البريطانية لإبلاغ السفير بما يجري! والسفير يبرق لحكومته، والمسئول المصرى يظن أن المسألة محبة وصداقة بينه وبين السفير وأن سفراء بريطانيا لا يتكلمون أو تموت الأسرار بموتهم! وتبين من هذه الوثائق أن كل سفير كان يسجل محضرًا بكل حديث ويبرق به إلى حكومته!

ولقد قرأت برقيات تغطى وجه الحياة فى مصر من أكبر إلى أصغر وأتفه الشئون!!

ما أكثر القرارات التى كنا نظن فى شبابنا أن الملك فاروق هو المسئول عنها، وما أكثر القرارات التى كنا نظن أن زعماء أو رؤساء وزارات مصر هم الذين أصدروها، ولكن الوثائق التى قرأتها أكدت لى أن كثيرًا من القرارات الخاصة بمصر صدرت فى مكتب وزير خارجية بريطانيا!».

ولم يكتف الأستاذ محسن محمد بالاطلاع على الوثائق البريطانية وكما يقول «لقد قطعت 70 ألف كيلومتر ذهابا وإيابًا إلى كانبيرا عاصمة أستراليا لاكتشاف وثائق أخرى» وسافرت إلى واشنطن أبحث وأفتش عن الوثائق السرية الأمريكية المحفوظة فى دار الأرشيف القومى وهى بالغة الأهمية».

وكان يمكن أو كان يجب أن تنشر هذه الوثائق كلها، ولكن فيها أحيانًا تكرارًا وفيها ما لا يهم إلا الباحث المتخصص ولذلك اخترت منها (400 وثيقة) وكانت الصعوبة الوحيدة أمامى هى عملية الاختيار عند النشر…

ويشير الأستاذ «محسن محمد» إلى معلومات مهمة فيقول أن اللورد كيلرن الذى أمضى 12 سنة فى مصر كتب مذكراته فى حوالى مليون كلمة وكان من المستحيل أن تنشر كاملة ولذلك قام سكرتيره «تريفور إيفانز» بنشر مائة ألف كلمة فقط منها!!

وأخيرًا يقول «محسن محمد»: لقد ترددت فى نشر هذه الصفحات، ولكنها وثائق ملك الأجيال وهى وحدها صاحبة الحق فى الحكم عليها.

كل ما استطعت أن أحجبه هو الحياة الخاصة، رفضت أن أنشر عنها كلمة واحدة وعف القلم عن النزوات الشخصية للجميع!

إن ما كتبه الأستاذ «محسن محمد» رحمه الله يستحق كل الاحترام والتقدير فقد كتبه بحب وعشق وجهد صادق رغم أى صعوبات تكون قد واجهته!.