الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أم كلثـــوم تؤلـــف روايـــة!

حكايات صحفية

أم كلثـــوم تؤلـــف روايـــة!

فى كل صيف كانت «عشة» - شاليه - الأستاذ الكبير محمد التابعى «ملتقى أهل الأدب والصحافة والفن»، وما أكثر المناوشات والشجارات الأدبية والصحفية التي دارت بينهم، وحرص التابعی على تسجيلها فى مقدمة كتابه الشهير «ألوان من القصص».



وذات مساء اشتعلت المناقشة والحوارات عندما قال د. سعيد عبده إن التأليف تزييف، وهاجم مسرحيات يوسف وهبى، وتدخل «توفيق الحكيم» ليسأله محتجًا: وأى فضل لك فى القصص التي نشرتها باسمك؟!

وأجاب د. سعيد عبده: لى فضل الحائك، الترزى الذي يتناول قطعة قماش ويحيك أو يصنع منها ثوبًا.. وفضله يظهر فى براعة التفصيل ودقة الحياكة.. أو لى فضل الملحن الموسيقى الذي يتناول قصيدة أو طقطوقة ويلحنها.. وقد يتناول موسيقار آخر نفس المنظومة ويلحنها ويختلف اللحنان جودة ومستوى وقيمة وطربًا.. وقد تتناول أنت يا أستاذ «توفيق» القصة نفسها وتكتبها وتعرضها على طريقتك وتوشيها وتزخرفها بحوارك البارع فتجىء قصة خالدة أو يكتبها شخص ثالث سوانا فتولد قصة هزيلة أو ميتة، ومع ذلك فالقصة واحدة، ولكن طريقة العرض هى التي تختلف وتفرق بين الجودة والرداءة وبين الغث والسمين!

وهنا قال الصاوى: هذا صحيح فأنا أعرف صحفيين يتناولون النبأ المثير ليكتبوه فيموت بين أيديهم، ويخرج خبرا تافها هزيلا، وأعرف زملاء يتناولون الخبر التافه ويكتبونه بطريقتهم وأسلوبهم الخاص فيجعلون منه نبأ مهمًا خطيرًا!

 

التابعى والحكيم

التابعى والحكيم

 

وهنا تدخلت «أم كلثوم» فی الحديث وقالت: معذرة عن تطفلى على حديثكم، ولكننى أشعر أنكم جميعًا تغالطون.. وأن القياس فى مناقشاتكم مع الفارق.. وإلا ما هى العلاقة بين «التأليف تزييف».. وبين النبأ المثير والخبر الهزيل؟!

وقال يوسف وهبى: هذا صحيح.. فقد خرجنا عن موضوع المناقشة، ولكن «سعيد عبده» أصر على أنه لم يخرج وقال: «لم نخرج عن أصل الموضوع وليس فى حديثنا قياس مع الفارق أو الحكاية كلها، هى أن هناك أخبارا تؤلفها الصحف وتنشرها أنباء مهمة مثيرة أو تولد أخبارا تافهة هزيلة، كلا فالصحف لا تؤلف أخبارا، ولكنها تتناول الأخبار الحقيقية الواقعية، ولكن الصياغة أو مهارة أو براعة الصنعة هى التي تختلف! وكذلك القصة فليس هناك قصص مؤلفة وإن وجدت فهى كما قلت مزيفة! خذوا مثلا قصص «شكسبير» الخالدة قصة «روميو وجولييت» ما الذی فيها مما يمكن وصفه بأنه جديد مؤلف؟!

لا شىء لأنها قصة فتى أحب فتاة وأحبته، والفتى والفتاة من أسرتين، العداء بينهما قديم! وتقوم الصعاب وينتحر الفتى والفتاة، أى جديد أو أى تأليف فى هذه القصة التی تتكرر حوادثها، كل ما فيها قديم قدم التاريخ نفسه!

وقصة الغيرة فى «عطيل» زوج يغار على زوجته، ووغد سافل يذكى الغيرة فى صدر الزوج لغرض فى نفسه! ويقتل الزوج زوجته البريئة! أى جديد أو أى تأليف فى هذه القصة التي يقع مثلها فى كل عصر وكل بلد وفى كل بيئة! وابحثوا فى مكاتب المحامين أو فى سجلات الجنايات فى مصر تجدوا عشرات القصص الشبيهة! ولكن «شكسبير» تناول هذه القصص أو الحوادث القديمة وعوامل الحب واليأس والغيرة والدس وصاغها ببراعته وزخرفها ووشاها بشعره وحكمته وأخرجها آيات خالدات، أخرجها فى إطار «روميو وجولييت» ثم أخرجها فى «عطيل»!

وسكت «سعيد عبده» وهو يلهث، سكت ريثما يجمع أنفاسه المتلاحقة، وانطلقت ضحكة رنانة من «أم كلثوم» وقالت صديقتنا المطربة:

- خايفة تقولوا إن أم كلثوم بتسرق من شكسبير، ثم مضت تقول: أنا كما تعرفون من قرية «طماى الزهايرة» مركز السنبلاوين، وفى نفس المركز توجد قرية كان لها عمدة نعرفه وكان كثيرا ما يدعونا لإحياء الحفلات فى قريته، ده كان أيام زمان، وكان أجرى وأجر التخت كله يتراوح بين عشرين وخمسين قرشا، وكنت طفلة وكان العمدة المذكور معروفًا بأنه ابن حظ وزير نساء، وكان للقرية شيخ خفر متزوجًا ملكة جمال فى القرية والقرى المجاورة، وأحبها العمدة واشتهاها، ولكن عينى زوجها شيخ الخفر كانتا مفتوحتين دائمًا فلم يتمكن العمدة من الوصول إليها! ولكنه استطاع أن يوفد إليها من يغريها!

وذات يوم أصيب شيخ الخفر بمغص شديد وآلام فى المعدة وتوفى، وحصل العمدة - بالتليفون - على إذن من طبيب الصحة بدفن الجثة لأن الوفاة - بشهادة حلاق الصحة - كانت طبيعية! وبعد بضعة شهور تزوج العمدة من أرملة شيخ الخفر التي كان لها من زوجها المتوفى ولد فى سن الثانية عشرة!

وسكتت «أم كلثوم» لحظة وهى تدير عينيها فى وجوهنا ثم قالت: هيه هل أكمل القصة أو تراكم عرفتم ماذا أريد أن أقول؟

وأسرع «كامل الشناوى يقول: دعينى أكمل القصة نيابة عنك! قالت: ليه هل أنت من مركز السنبلاوين وسمعت بالقصة؟

قال: كلا لم أسمعها ولكنى حذرت ماذا تريدين أن تقولى! قالت: اتفضل!!

واعتدل كامل الشناوى ومضى يكمل القصة التي بدأتها «أم كلثوم» فقال: وانطلقت الشائعات فى القرية والقرى المجاورة تقول أن زوجة شيخ الخفر هى التي قتلته بأن دست له سُمًا فى الطعام!

وقاطعته أم كلثوم قائلة: كلا.. بل فى القهوة فقد وضعت فيها سم الزرنيخ!

واستأنف كامل الشناوى الحديث: وكبر الغلام ابن شيخ الخفر وسمع بالشائعات والروايات وأن أمه قتلت أباه بإيعاز وإغراء من العمدة الذي تزوجته فصمم على الانتقام.

 

أم كلثوم فى شبابها

أم كلثوم فى شبابها

 

وقاطعته «أم كلثوم» مرة أخرى وهى تقول: برافو.. نعم صمم على الانتقام.. ولكنه انتقم من الاثنين من أمه ومن العمدة! فقد دخل عليهما وهو يحمل بندقية أبيه شيخ الخفر وأفرغ رصاص البندقية فى رأسيهما.

ثم دارت - أم كلثوم - بعينيها فى وجوهنا وقالت: ترى لو نشرت هذه القصة باسم المؤلفة «أم كلثوم» ألا يتهمنى النقاد بأننى سرقت قصة هملت من شكسبير!

وضحكنا وقلنا: صحيح! فقالت: ولكنى كما ترون لم أسرق من شكسبير بل رويت قصة معروفة فى مركز السنبلاوين!

وساد السكون لحظات إلى أن قال الأستاذ أحمد الصاوى محمد موجهًا كلامه إلى غير أحد: هذا صحيح يا عزيزي! صحيح مائة فى المائة، وأنا أذكر أننى قرأت مرة لكاتب كبير لا أذكر اسمه ما معناه أن فى استطاعة أى هلفوت - أى واحد منا أن يكتب قصة خالدة لو أنه كتب قصة حياته بأمانة وصدق وصراحة! أى حد.. أى هلفوت على شرط أن يكتب القصة - قصة حياته - بصدق فيصف نزواته وشهواته والصراع الذي قام بين عقله وقلبه أو بين ضميره وجسده.. وأن يسجل فى القصة الانفعالات والانطباعات فى نفسه؟ ولكن من الذي يستطيع أن يتعرى تمامًا أمام الجمهور؟! الذي يستطيع أن يخلع عنه ثياب الحياء والكرامة والتقاليد ويقف عاريًا تمامًا أمام الجمهور لست أنا على كل حال!!

وهنا قال يوسف وهبى: يعنى وصلنا لأية نتيجة؟

وأجاب توفيق الحكيم: وصلنا على قدر فهمى إلى هذه النتيجة وهى أنه ليست هناك قصص مؤلفة، بل هناك قصص قديمة قد أعيدت كتابتها وصياغتها!

وهنا سألته - أى التابعى: وهل تنكر هذا يا توفيق؟ قصص أهل الكهف؟

«بيجماليون» شهرا زاد جديدة مؤلفة؟ أو قديمة قدم التاريخ؟ و«يوميات نائب فى الأرياف» هل هى مؤلفة من نسج الخيال أو هى مجموعة وقائع حدثت فعلا ووقعت فعلا وأيام كنت وكيلا للنائب العام!

وقال، يعنى عاوز تقول إيه؟

قلت: عاوز أقول «سعيد عبده» على حق! فليس هناك قصص مؤلفة جديدة أو أفكار جديدة ولكن هناك طرقًا جديدة لعرض أو صياغة الأفكار أو القصص القديمة!

وقال سعيد عبده: وأنا أريد أن أقول شيئا آخر! عاوز أقول أن فى حياتنا وفى حياة الذين نلقاهم فى كل يوم قصصا كثيرة تصلح للنشر لو عرفنا كيف نعرضها! أنت مثلا ألم تعرف أو تسمع بقصة حقيقية وقعت لصديق أو الزميل لك.. قصة تفوق فى حبكتها وغرابتها وفى مفاجآتها وفى مغزاها كثيرًا من القصص التي تنشر فى الصحف والمجلات على أنها من تأليف الأديب فلان أو القصص علان؟!

وسكت الحكيم لحظة قبل أن يقول: أى والله صحيح.. فأنا أعرف قصصًا من هذا النوع!

وسألته: ولم لا تكتبها.. أو تقصها علينا؟

قال: لأنها تمس حياة أصدقاء وزملاء!!

وقال يوسف وهبى: وأين براعة القصص الأديب الكبير أين سعة حيلتك وحكمتك وخيالك وكياستك؟

وهز توفيق الحكيم رأسه وسكت وقال «سعيد عبده»: أما أنا فعندى قصة حاضرة وجاهزة ولا أرى مانعًا من ذكر أسماء أشخاصها لأنهم جميعًا معروفون لكم، والعهد بحوادث القصة قريب!

وابتسم يوسف وهبى وقال: وعندى أنا أيضا قصة.. بل هى صفحة من حياتى ولكننى أخاف إن قصصتها عليكم أن تتخذوا منها مادة للتشنيع عليّ!!

وينهى الأستاذ الكبير «محمد التابعى» مقدمة كتابه بهذه السطور:

«وكانت الساعة قد جاوزت منتصف الليل، وقمنا على أن نجتمع مساء الغد لنسمع قصة صديقنا دكتور «سعيد عبده»!

هذا ما يقوله ويؤكده الأصدقاء الرواة «وكلهم صادق وأمين، ولكنى - مع ذلك - أحب أن أقول ما قد يحب كل منهم أن يقوله فى صدر قصته إذا جلس وكتبها بالقلم!

قد يقول: أنا لا أزعم أن حوادث هذه القصة قد وقعت تمامًا كما هى مدونة هنا، ولكنى أزعم أنه كان من الممكن بل من المحتمل أن تقع.. ومادام وقوعها كان ممكنًا بل محتملًا فلماذا لا تكون قد وقعت فعلًا وحقًا؟».

وتنتهى ذكريات التابعى الممتعة مع نجوم ذلك الزمن وكما رواها فى كتابه الممتع «ألوان من القصص»!!