الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ممثل مصر فى جائزة البوكر

طارق إمام: الروائى «صياد سمك» عليه تعلُّم الصبر

يكتب طارق إمام فتنسى معه أنك تقرأ، وحينما ينتهى من كتابته تجد جرعات كبيرة ومكثفة من الدهشة والمتعة، لا يُشبه أحدًا فى كتابته وكأنه يُجرب ويبتكر أساليب وطرقًا جديدة ليبعث لنا برسالة مفادها (لا قواعد للفن ولا حدود للإبداع)، مؤكدًا مقولته لا خاسر فى الكتابة.



 فى الشهور القليلة الماضية ظهرت لنا رائعته «ماكيت القاهرة» لتلقى رواجًا أدهشه هو نفسه فلم يقتصر نجاحها على المستوى المحلى فقط بل امتد ليتسع المنطقة العربية بأكملها. 

 

استطاع طارق إمام من خلال روايته أن يكون المصرى الوحيد المتواجد بالقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة باسم «البوكر» عن جدارة واستحقاق لذلك أجرينا معه الحوار التالى:

فى «ماكيت القاهرة» مارست التجريب وكسرت المتعارف عليه، ما ظهر بشكل واضح فى الفكرة والشخصيات ومجمل النص الذى تعمّدت فيه أن يجعل من يقرأه يطرح التساؤلات، هل كنت تتوقع هذا النجاح لـ«تجربة» مثل «ماكيت القاهرة»؟

- التجريب يعنى بشكل بديهى مواجهة السائد، وعدم الانصياع للذوق العام أو للأدب المستأنس. بالتالى فمن يجرب لن يفكر فى نجاح سريع قدر طموحه إلى خلخلة المستقر، جماليًا وفكريًا وحتى على مستوى التلقى. الرهان على التجريب هو انعكاس لرؤية وليس فقط لعب بالتقنيات، فالتجريب دائمًا هو فعل تغيير، والتغيير أصعب من الانصياع، وأبطأ فى تحقيق هدفه، لكنه قادر، بتراكم ما، على أن يخلق الطفرة فى لحظة، وهذا ما حدث لـ«ماكيت القاهرة». بهذا المنطق، فنجاح «ماكيت القاهرة»، الذى فاق توقعى بكل تأكيد، هو تتويج لكتابى الأول «طيور جديدة لم يفسدها الهواء» الذى صدر سنة 1995، أى قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا.

 أرى أن يمارس الناس إنسانيتهم أولًا ثم يمارسوا بعدها الفن، وفى الحقيقة كنت أول المتفاجئين ليس بالنجاح، لكن بمقداره، وبخاصة بين من ندعوهم بـ«القراء العاديين»، حيث أحرزت الرواية انتشارًا واسعًا جدًا رغم أنها رواية مُركّبة ومشبَّعة بأسئلة فلسفية وبروح تجريبية وببنية فنية غير سهلة. هذا النجاح منحنى الأمل فى أن القارئ قطع شوطًا كبيرًا فى الخروج من العباءة الجهنمية لأدب السوق والشروط التسليعية لفن التسلية الخفيف.

حسب رؤيتك الروائية إذا اختفت القاهرة كمدينة واقعية فى المستقبل البعيد، هل ستختفى رواية «ماكيت القاهرة» بالتبعية وتفقد قيمتها؟

- بالعكس، الفن تزداد قيمته ويتضاعف حضوره باندثار المكان أو الواقع الذى عالجه، ذلك أن النص الفنى فى هذه الحالة يصبح أثرًا أو شاهدًا أو دليلًا وحيدًا فى بعض الأحيان حتى على أن ما تم محوه كان موجودًا ذات يوم. لقد صمد الفن الذى كُتب بلغات مندثرة وبقيت النصوص بعد أن اختفت اللغات نفسها التى كُتبت بها. الفن إذن حافِظٌ للغة نفسها، أى لجوهر الوجود الإنسانى. الفن وثيقة أيضًا، على الإنسان والواقع والتاريخ، غير أنها وثيقة بسمات خاصة، ودائمًا الفن يبقى بعد اندثار «موضوعه»، بل ويصبح بالتقادم مرجعًا له بعد أن بدأ من العكس بالضبط، استنادًا لمرجعية الواقع.

10 سنوات كاملة حتى انتهيت من «ماكيت القاهرة»، ما الذى انتظرته كل تلك السنوات لتكتمل روايتك؟ ولو أنك نشرتها قبل تلك السنوات العشر، هل كانت لتلقى نفس الصدى؟

- أعتقد أن «ماكيت القاهرة» لاقت هذا الصدى بالذات لأنها «صبرت» هذه السنوات العشر. لقد كانت تبحث عن صيغتها الأمثل ولم يكن من الممكن أن أنشرها دون الحصول على هذه الصيغة، حتى لو انتظرتُ العمر كله، بل وحتى لو ضحيتُ بنشرها نهائيًا، وهو الاحتمال الذى ظل مطروحًا لسنوات. هناك روايات تخرج للنور وهى تملك أسباب نموها، وأقصد بالنمو هنا تحققها كعمل مقروء وكنص يملك القدرة على الصمود أمام امتحان الزمن الصعب.. وهناك بالمقابل نصوص تولد مبتسرة، ناقصة الأعضاء والعناصر، تظهر وهى تحمل أسباب موتها المبكر، فلا تصمد سوى أيام قليلة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة وهى بعد فى مهدها. وإجمالًا، الرواية كصيد السمك، ابنة الصبر على ما تخفيه الأعماق؛ كلما كان الصبر أكبر كان الصيد أثمن.

 

 

هل ترى أن «ماكيت القاهرة» حققت شعبية ومقروئية من كل الفئات أم اقتصر نجاحها على أوساط المثقفين والنقاد؟

- نجاح «ماكيت القاهرة» انطلق من محطة القارئ العام، وحصلت الرواية على زخمها من هواة القراءة من كل الفئات والأعمار حتى صارت تتصدر قوائم الكتب الأعلى مبيعًا سواء فى المكتبات أو فى معارض الكتاب المصرية والعربية. من هنا فنجاح هذه الرواية جاء «من تحت لفوق» إن جاز التعبير، ومن قبل حتى أن تحظى بهذا النجاح النقدى على المستوى العربى، وبالطبع من قبل التأهل للقائمة الطويلة لجائزة البوكر، حيث ظهرت القائمة بعد ثمانية أشهر من صدور الرواية، كانت خلالها «ماكيت القاهرة» قد طُبعت أكثر من طبعة مصرية وعربية. لهذا أنا سعيد بنجاح الرواية «على الأرض» قبل نجاحها على المستوى النقدى وترشحها لجائزة البوكر.

كيف توازن بين عملك فى الصحافة وعملك كروائي؟

- أقول دائمًا إن الصحافة هى أنسب مهنة للكاتب فى مصر، لكننى أكمل: «بشرط ألا يكون صحفيًا طموحًا». بالتالى التوازن بالنسبة لى يخلقه «دوام كامل» فى الفن، أضحى من أجله بالطموح الصحفى. وأعتقد أننى استطعت الموازنة بين العملين بهذه الطريقة. لابد أيضًا أن أشير إلى أن الصحافة أحد روافد الإلهام للكاتب إن لم يغرق فيها، فهى تضعك فى قلب العالم، وأنا عملت لسنوات كصحفى تحقيقات فى الشارع، كما عملت أغلب سنواتى فى الصحافة وإلى الآن كمحرر بقسم «الديسك» والذى أفادنى كثيرًا على مستوى الانتباه الصياغى والرهافة تجاه تكرار مفردة أو التحايل على اللغة لكى لا أكرر صيغة واحدة مرتين. بل إن اللغة الصحفية نفسها إحدى أدوات اللغة الروائية، التى لا يكفيها نمط لغوى واحد كى تكشف أطياف العالم وأصواته و«أساليبه» حيث إن الرواية كرنفالية من اللغات والأصوات.

ما الرواية التى تمنيت لو كنت أنت كاتبها؟

- تمنيت أن أكون كاتب «خريف البطريرك» لجابرييل جارسيا ماركيز. إنها رواية ملهمة.. وتجمع بشكلٍ إعجازى بين سبيكة نص شعرى خالص بنَفَس طويل متصل، وتجريب لغوى غير محدود، واشتباك سياسى وتاريخى بلا مواربة، إنها بالنسبة لى «نموذج» للنص الأدبى حين يفى بجميع وظائفه: الاجتماعية والسياسية والجمالية معًا، دون تعارُض وهمى بين أدوار النص الروائى.

هل يحلم طارق إمام بتجسيد أعماله على الشاشة؟

- لا أمانع، لكن لا أحلم.. وشتان الفارق بين التعبيرين. أرفض التعامل مع الأدب كأنه «مرحلة» فى عملية ما، يتوجها الفيلم أو المسلسل، الأدب هو الأدب، وهو غايتى النهائية كوسيلة للتعبير. بالمناسبة، رفضتُ كثيرًا كتابة أعمال للشاشة أو تحويل بعض أعمالى بنفسى، لأننى رأيت أن ذلك سينال من وقت الكتابة الأدبية والذى يعني: كل وقتى. رغم ذلك هناك أعمال لى فى طريقها للتحول إلى أفلام سينمائية، منها «هدوء القتلة» وروايتى الأحدث «ماكيت القاهرة» التى تلقيت عرضًا غير مصرى لتحويلها إلى فيلم فى منصة شهيرة.

هل خشيت ألا يستوعب القارئ كم الرمزيات والإسقاطات الموجودة بالرواية ويدرك ما بين السطور، خاصةً وأن الرواية تحتاج إلى مجهود ذهنى ليس بهين، أم لا تشغلك هذه الفكرة أثناء الكتابة؟

- من ناحية، كل نص ينتج قارئه. ومن ناحية أخرى، سأقول بلا تحفظ: القارئ أصبح أكثر ذكاء من الكاتب.. وانظرى لكم «الريفيوهات» التى كتبها قراء لماكيت القاهرة، كى تدركى ما أعنيه.. بل إن بعض القراء فسروا بعض العناصر فى الرواية بتأويلات أعمق من مقصدى نفسه. لا أعتبر القارئ مستهلكًا سلبيًا لما يُملى عليه، وأرى أن هذه الصيغة تمثل أساسًا احتقارًا للقارئ وليس عناية به كما يدعى أرباب الأدب التجارى الرخيص. من يحترم القارئ فليقدم له متعة الشراكة لا سلطة التبعية، فليمنحه متعة أن يسهم فى «إنتاج» النص لا أن «يستعمله» كمنديل ورقى. متعة الأدب الحقيقية تكمن فى قدرة كل قارئ على إعادة خلق النص. القارئ ليس «زبون» لسلعة يبيعها الكاتب فيغريه بسهولة استهلاكها.. والكاتب ليس صاحب «سوبر ماركت» أو «سائق ميكروباص» هدفه شَغل المقاعد الخالية فى عربته، والأدب يعيش بأفكار قرائه مثلما يعيش بأفكار كاتبيه.

فى «ماكيت القاهرة» نجد الخيال ممزوجًا بالفلسفة، والواقعية إلى جانب السياسة، فى رأيك، إلى أى تصنيف أدبى تنتمى هذه الرواية؟

- من المدهش أن كل ناقد كتب عن «ماكيت القاهرة» وضعها فى تصنيف مختلف عن الآخر.. هناك من صنفها كنص ينتمى للواقعية السحرية، هناك من اعتبرها فانتازيا، نص سوريالى، نص سياسى، ديستوبيا، بل إن هناك من ذهب لقراءتها كنص خيال علمى. عدم الاتفاق هذا يعنى أن الرواية يصعب تصنيفها وفق خانة محددة، وأعتقد أن هذه نقطة تُحسب لها، خاصة أن قراء الرواية ينتمون بدورهم لذائقات أدبية شديدة التنوع والاختلاف ويمثل اجتماعهم، بكل هذه الاختلافات، على نصى حلمًا لم أتخيل تحققه.

فى رأيك، هل تعتبر الجوائز الأدبية معيارًا كافيًا على جودة العمل الأدبي؟

- الجوائز أحد أضلع التقييم، مثل القراء، والنقاد. ليس هناك معيار وحيد لتأكيد جودة عمل ما.. لكن المعايير مجتمعة إن توفرت لعمل فإنها تكون مؤشرًا على أنه يحظى بجدارةٍ ما. لكن الأهم والأشمل، هو ذلك الكيان الخفى، غير الملموس، الذى يُدعى «الضمير الأدبى»، والذى تؤلفه عناصر كثيرة، ويعمل كمصفاة تضع كل نص فى مكانه المستحق.. وهو ما يجعل نصوصًا تواصل حياتها بعد مئات السنين، وأخرى تختفى بعد عشرات الساعات.

ما شعورك وأنت المصرى الوحيد المتواجد فى القائمة القصيرة لجائزة البوكر؟

- باعتبارى أحد أصوات الرواية المصرية الجديدة، أشعر أننى أمثل حساسية هذه الكتابة الجديدة تحديدًا.. المشغولة بالتجريب ومحاولة مقاومة النص السائد ومجابهة طوفان من روايات الاستهلاك والتسلية  التى تعمل على تسليع الفن الروائى وتدجين الأسئلة الشائكة لخلق أدب بلا أظافر ومتلقين بلا إرادة. وفق هذا المنطق فـ«ماكيت القاهرة» ربما تكون تمثيلًا ما لمناخ، وليس فقط رواية لكاتب اسمه طارق إمام.