الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
«عشة» التابعى وأسرار من القصص!

حكايات صحفية

«عشة» التابعى وأسرار من القصص!

أغلب مؤلفات الأستاذ الكبير «محمد التابعى» كانت تسبقها مقدمة لا تقل جمالًا وروعة عن موضوعات الكتاب نفسه، وفى معظم هذه المقدمات كواليس وحكايات وأسرار مدهشة وممتعة أيضًا!



«ألوان من القصص» واحد من كتب الأستاذ التابعى المهمة والممتعة أيضًا، ويكفى أن تلقى نظرة على عناوين فصوله لتدرك ما أقول، ومنها مثلًا «جمهور الطوب والحجارة» وأم كلثوم تؤلف قصة من الحياة، و«من ذكريات منيرة المهدية» و«مطربة القطرين تفقد عشرة آلاف من الجنيهات» و«قلينى فهمى باشا يتزوج من ملكة الجمال التركية»، و«معلومات لم تنشر عن سعد زغلول» و«خفق قلبى ثلاث مرات».. و«أحببت قاتلة» وغيرها من قص الكتاب!

محمد التابعى
محمد التابعى

 

فى مقدمة الكتاب يقول الأستاذ «محمد التابعى»: «هذه كلمة أقدم بها مجموعة أو ألوانًا من القصص التى سمعتها من أصدقاء وزملاء وكل منهم يقول - أو يزعم - أن قصته حقيقية وأنه لم يؤلفها «ولم» يقرأها فى كتاب، بل هى قصة سمعها من راوية ثقة أو عاش فيها أو كان له بين أبطالها دور ونصيب، وهذه القصص كثيرة ولكننى - وأنا أكتب هذه المقدمة - لا أعرف عدد القصص التى سوف أنشرها هنا، لأننى لم أستأذن بعد هؤلاء الأصدقاء والزملاء فى نشر القصص التى رووها أمامي!

ولقد يعترض الأستاذ «يوسف وهبى» مثلا - على نشر القصة التى رواها أمامنا ذات مساء من أمسيات شهر يوليو عام 1942، بل وقد يقيم ضدى دعوى قد يطالبنى فيها بتعويض مالى كبير لأننا نشرنا القصة أو تفاصيل جريمة قتل اشترك الممثل الكبير فى ارتكابها من غير قصد!! وجريمة القتل المذكورة وقعت فى إيطاليا وفى إحدى ضواحى «فينيسيا» على وجه التحديد»!

وكذلك مطربتنا العظيمة «أم كلثوم» قد ترفض أن تأذن لى بنشر القصة، التى روتها لأسباب تراها وتقدرها.

ومثلها الزميل الصديق دكتور «سعيد عبده» فقد يرفض ويعترض ويسوق أسبابًا عائلية تحول دون النشر، لأن نشر القصة ينكأ الجرح القديم!

وفكرى أباظة ومحمد عبدالوهاب وتوفيق الحكيم.. كل هؤلاء رووا قصصًا مثيرة أو قصصًا غامضة.. وكلهم يؤكد أن قصته حقيقية وأن حوادثها وقعت وأبطالها ماتوا.. وبعضهم لايزال على قيد الحياة».

فهل يسمحون لى بنشر قصصهم أو يرفضون؟ ثم ما هو حكم الذمة والأمانة مع الأصدقاء الأحباب الذين توفاهم الله مثل «نجيب الريحانى» و«حفنى محمود» و«سليمان نجيب» وكل منهم كان قصصيًا بالفطرة وبارعًا فى الرواية؟

هل أروى القصص التى رووها؟ ومنهم من كان فى قصته ضحية؟ ومنهم من اكتوى بالنار ولعق الجرح بلسانه وضمده بالدموع! هل أنشر أو أسكت وأبقى القصة فى صدرى؟! سؤال أو حيرة لم أبت فيها حتى الآن».

بعد ذلك يروى الأستاذ التابعى قيام الحرب العالمية الثانية أوائل خريف سنة 1939 وأقبل الصيف وكل الطرق إلى أوروبا مسدودة أمام المصريين الذين اعتادوا قضاء الصيف على شواطئ أوروبا.. واضطروا أن يتواضعوا ويلجأوا إلى مصيف «رأس البر» الذى كان المكان الوحيد الآمن وليس فيه أهداف عسكرية تغرى طائرات دول المحور، ويمضى التابعى فى وصف ما جرى قائلا: ولأول مرة فى التاريخ عرف مصيف رأس البر معنى الإقبال ومعنى «العز» ومعنى الزحام، ولأول مرة سمعت رأس البر فى شوارعها ألقاب أصحاب المقام الرفيع والدولة والمعالى، بل ألقاب الجلالة والسمو.. فصاحبة الجلالة «نازلى» ملكة مصر السابقة وبناتها صاحبات السمو يقمن فى فندق كريستال على الضفة الشرقية للنيل أمام رأس البر، ورفعة النحاس باشا وأسرته يقيمون فى أحد ملاحق فندق كورتيل، وصاحبا الدولة «إسماعيل صدقى باشا» و«عبدالفتاح يحيى باشا» يقيمان فى فندق «مارين فؤاد» ومعالى مكرم عبيد باشا يقيم فى جناح بفندق «كورتيل» ليكون بالقرب من صديقه وزعيمه الجليل!

وعلى الشاطئ الرملى البدائى الساذج خطرت الغزلان يرتدين ثياب الاستحمام وأحدث أزياء الصيف التى كن اشترينها - الصيف الماضى - من دور الأزياء فى دوفيل ونيس وكان وباريس وروما!! والآن فى رأس البر!!

وكانت لى عشة صغيرة على شاطئ البحر مباشرة.. وأنا من هواة «رأس البر» حتى ومن قبل قيام الحرب، وكانت عشتى الصغيرة أشبه بدوار ضيافة للأصدقاء فقد كنت أرجوهم أن يقيموا معى ويؤنسوا وحدتى.. وكانوا يتفضلون بقبول الرجاء.

وكان يحدث أن أترك رأس البر إلى القاهرة لعمل ما ثم أعود إلى عشتى بعد يومين أو ثلاثة فأجد أن صديقًا أو صديقين قد حضرا أثناء غيابى واحتلا غرفة نومى، وهنا كان نزلاء العشة يجتمعون فى هيئة «لجنة طوارئ» ويبحثون لى عن «كنبه» أو مقعد طويل يضعونه فى حجرة الطعام مثلًا لأنام عليه! أو يجرون «قرعة» بينى وبين الصديقين اللذين احتلا حجرتى وفراشي!

 

أم كلثوم
أم كلثوم

 

وكان فى العشة ثلاث حجرات للنوم، وفى كل حجرة منها سريران، وكانت «الأسرة» تتسع أحيانًا لعشرة من الأصدقاء، عدا أريكتين فى قاعة الطعام ومثلهما فى الشرفة التى تطل على البحر.. كنا إذن عشرة وكان العدد يرتفع فى عطلات الأسبوع إلى خمسة عشر! عدا الأصدقاء الذين كانوا يقيمون فى الفنادق ويفدون على العشة للزيارة أو لتمضية السهرة!

وكنا نسمى هؤلاء الزائرين.. أعضاء شرف - أو أعضاء منتسبين ومنهم على سبيل المثال: أم كلثوم، وحفنى محمود ويوسف وهبى ونجيب الريحانى الذى كان يصحب معه دائما استفان روستى وحسن الأعور ودكتور سعيد عبده.. و..و..

أما الأعضاء العاملون - أى الذين كانوا يقيمون فى العشة - فكان منهم «سليمان نجيب وتوفيق الحكيم، وكامل الشناوى والصاوى وإحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالوهاب.

مازال الأستاذ التابعى يتذكر أيام وليالى الصيف فى مصيف «رأس البر» فيقول:

فكنا نخرج للنزهة على شاطئ البحر سيرًا على الأقدام.. وغالبًا إلى حيث كانت تجلس أم كلثوم، وكانت تقيم فى عشة فى آخر المصيف إلى الجنوب، وكانت «أم كلثوم» تجلس دائمًا أمام «عشتها» على الشاطئ تحت مظلة وفى يدها كتاب!

وكنا نحييها ونجلس على الرمال حولها.. وبعد أن توزع نكاتها علينا بالعدل والقسطاس كانت أحيانًا تسألنى: طابخين إيه النهاردة عندكم؟!

وكنت أحيلها على «سليمان نجيب» - الممثل الشهير - لأنه كان الوحيد الذى يهتم بالمطبخ وما يجرى فيه.. والوحيد الذى كان يشترك مع الطاهى الأوسطى «أحمد» فى إعداد قائمة الطعام!

وكانت الأطباق المفضلة عند «أم كلثوم» هى البط على الطريقة الدمياطية.. والأوز بالملوخية والرقاق وورق العنب والكوارع واللحم والحمام!

فإذا تصادف إن كان أحد هذه الأطباق فى قائمة طعام اليوم قالت المطربة الذواقة على الفور: طيب اعملوا حسابى بأه.. جاية أتعشى معاكم النهارده!

وكانت السهرات التى نحضرها - وأم كلثوم على رأسها - نسخر من الذين يأكلون بشهية! ونروى القصص. أو نتحدث عن الحب أو فى السياسة الداخلية.. أو خيرًا من هذا وذاك نتناول سيرة أحد المصطافين أو إحدى المصطافات.. وغالبًا سيرة الاثنين معًا!

وتصيح أم كلثوم: أعوذ بالله من لسانكم اللى زى المبرد!!

ولكنها مع ذلك تشترك معنا بنصيب الأسد فى الحديث.

وفجأة ننتبه إلى شيء ما.. وتخفت الأصوات ثم نسكت تمامًا، فقد بدأت «أم كلثوم» تدندن وهى تبتسم لنا كأنها تتحدانا أن نستمر فى حديثنا إذا استطعنا!

ويعلو النغم قليلًا.. قليلًا.. ويتجمع ويرتفع.. ثم ينطلق قويًا ويجلجل.. وتختفى الابتسامة.. وتتوه عيناها فقد نسيتنا جميعًا ونست كل ما حولها وهى تغنى لنفسها!

وأدور بعينى على الحاضرين.. سليمان نجيب يشد فى شعر رأسه ثم يركل بعصبية وهنا يتراجع توفيق الحكيم بمقعده إلى الوراء بعيدًا فقد أصيبت ساقه بإحدى «رفصات» سليمان نجيب، وتوفيق الحكيم يهز رأسه ويمصمص شفتيه والصاوى أحمر العينين يغالب النعاس فقد كان صديقنا الذى يسهر الآن فى عمله الصحفى إلى الصباح.. كان فى تلك الأيام لايطيق السهر بعد العاشرة مساء!

وإذا ما انتهت أم كلثوم من الغناء.. سمعنا دوى التصفيق خارج العشة ونخرج إلى الشرفة المطلة على البحر ونجد عشرات وعشرات من سكان العشش المجاورة الذين كانوا أقبلوا على غناء أم كلثوم قد افترشوا رقعة الرمال التى تفصل بين العشة ومياه البحر!

ويستأذن الصاوى وينسحب إلى حجرة نومه وفراشه، ونجلس نحن على الشرفة ونمضى السهرة فى الحديث، وكم سمعنا وكم روينا فى هذه السهرات.. أم كلثوم والصفحات المجهولة من تاريخ كفاحها المضنى فى دنيا الغناء، «محمد عبدالوهاب وكيف أتى يوم كاد يفقد فيه صوته.. وكان غلامًا سنه بضع عشرة سنة والذين يدين لهم بالفضل والجميل.. ويوسف وهبى ومغامراته أيام الشباب فى إيطاليا.. وأحمد الصاوى وجولاته وغزواته فى باريس، وتوفيق الحكيم وسرحاته فى باريس عندما كان يسرح ويسير على غير هدى فى أزقة مونتمارتر أو شوارع الحى اللاتينى الضيقة أو يجلس فى مقهى أو فى بار قديم يستوحى من الجو المحيط به مادة لقصة أو لونًا يرسم به شخصية ما فى قصة ما».

ولذكريات الأستاذ التابعى بقية!