الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

كفيفان جمعهما القرآن

خيط رفيع يفصلها بين تلاوة القرآن الذى حفظته كاملاً فى سن 11 عامًا وأداء الابتهالات الدينية وبين الطرب, التحقت بمعهد الموسيقى العربية وتخطت المحلية وصولاً لخارج الحدود المصرية، فكان لها جمهورها فى كل بلاد العرب.



كانت تتلو القرآن فى الفترة الصباحية بالإذاعة وتغنى فى فقرة أخرى مساءً، إلى أن قررت التركيز على التلاوة فقط، إنها الشيخة «كريمة العدلية».

 

اسمها كريمة محمد العدلى،  مولودة 1914 توفى والدها وهى فى الخامسة وتولى تربيتها شقيقها الأكبر، الذى كان له دور كبير فى حياتها فهو الذى  شجعها على حفظ القرآن الكريم، فى كتاب الشيخ محمد الأسمر بحى السلطان الحنفى بالسيدة زينب.

البداية

بدأ يظهر على «كريمة» صعوبة فى التركيز خلال حفظها القرآن، بسبب بنوبات متكررة من الآلام الشديدة بالرأس، تسبب فى ضعف الإبصار كانت ترى بنسبة لا تتعدى 10 %، ولذلك لم يحدث أى تدخل جراحى مبكرًا لعدم فائدته فى حالتها.

مع ذلك ظلت تستمتع بالحياة، وتتعرف على كل ما فى الطبيعة بالألوان، إلى أن فقدت بصرها بالكامل عام 1930، ولم تكن قد بلغت ربيعها السادس عشر من عمرها بعد.

كانت بداية جديدة لرحلتها، حيث أصبحت الشيخة كريمة أول من تم اعتمادها بعد اجتيازها الاختبارات كقارئة ومطربة بالإذاعة المصرية 1934 وهذه السنة أيضا كانت الفاصلة التى غيرت مجرى أحداث الشيوخ والمقرآت فى مصر.

كانت كريمة على علاقة وطيدة بزوجات رجال ثورة يوليو 52 فهى أشهر من كانت تحيى المناسبات الخاصة بهن لذلك ولأسباب أخرى طلب منها المخرج «أحمد بدرخان» أداء مشهد فى فيلمه «الله معنا» عام 1955، الذى دارت أحداثه حول حرب فلسطين والشهداء.

كان المشهد فى سرادق كبير خاص بالعزاء للسيدات أرامل الأبطال وأهلهم وصوروها وهى ترتل آيات من الذكر الحكيم.

يحكى وقتها أنه طلب منها بدرخان وضع بعض من «المكياج» أثناء التصوير ولكنها فى بداية الأمر رفضت وقالت «أنا شيخة ومقدرش أعمل كدا»، ولكنه استطاع إقناعها وقال لها صورتك لم تكن واضحة فى الكاميرات أثناء التصوير من غير بعض التجميل.

ووافقت كريمة على طلب بدرخان، وصادف فى هذا اليوم مناسبة عائلية وهى زفاف نجل شقيقها، ما جعلها تتحرك مسرعة إلى حفل الزفاف بعد الانتهاء من تصوير مشهد السينما دون التخلص من المكياج.

وعند وصولها الفرح  ظن المدعوون أنها العروس وارتفعت الزغاريد.

اعتادت كريمة على إحياء حفل للابتهال بأحد منازل الأثرياء بالأقاليم الخميس الأول من كل شهر.. اعتاد حضور الحفل كبار المقرئين مثل الشيخ «محمد رفعت»، «محمد الصيفى» و«منصور بدار» وكانت كريمة صوتًا ضمن مشاهير القراء ممن ينتظرهم الجمهور .

عام 1949 قررت الإذاعة المصرية منع الشيخة كريمة العدلية فى تلاوة القرآن خلف ميكروفونها..ليغيب صوت أنثوى مصرى أصيل من تجليات السماء كان ذلك فى نهاية الخمسينيات بموجب فتوى تحريم صوت المرأة لاعتباره «عورة».

 

 

 

قصة حب

عاشت كريمة العدلية قصة حب فريدة كصوتها انتهت بزواجها من الشيخ «على محمود».

كان على محمود أستاذًا بمعهد الموسيقى العربية، وكان كلاهما كفيفان، جمعهما حب القرآن.

ففى ليلة من ليالى الخميس التى كانت بتبهل فيها كريمة العدلية كعادتها فى أحد بيوت العمد الأثرياء، صعد الشيخ على محمود إلى الأريكة التى تقف عليها كريمة، وأنشد بعدها فأعجبت بصوته، وبطريقته الفذة وقدرته على تلوين الألحان.

ومنذ ذلك اليوم أصبح الشيخ على صديقها، الذى لم ينس السيدة التى أبهرت الجميع بعذب صوتها الجميل.. وبدأت قصتهما.

حيث كانت كريمة حريصة على زيارة مسجد الحسين بالقاهرة، لأداء صلاة الفجر، وهناك تمكنت على استحياء من الاستماع إلى الشيخ على محمود يرفع الأذان.

كان هو الآخر يحب الاستماع إلى قراءتها للقرآن وأدائها للابتهالات ويقضيها على كثير من القراء الرجال، لذلك كانت كريمة حالة فريدة، وخصوصا أن من تلاميذ الشيخ على محمود أسماء كبار فى دنيا الابتهال والتلاوة أمثال محمد رفعت، وطه الفشنى،  وكامل يوسف البهتيمى،  وإمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد، والموسيقار محمد عبدالوهاب الذى تعلم على يدى الشيخ على محمود الكثير من فنون الموسيقى،  إضافة إلى سيدة الغناء العربى أم كلثوم، واسمهان.

 كان للشيخ على محمود باع فى الموسيقى بجانب كونه مقرئا، كما كان من مؤسسى فن الإنشاد والتواشيح الدينية.  خلال الأربعينيات  والخمسينيات كانت عادة  إحياء المناسبات تناوب المؤديين الرجال مع مؤديات من النساء فكان الشيخ «محمود» يتبع «العدلية» إلى أماكن تجلى لياليها كما كان يسترق السمع لتلاوتها القرآن الكريم  للسيدات فى المصلى المخصص داخل مسجد الحسين.  

بعد شهرة واسعة  وبعد ضجة أحدثتها ظهور «كريمة العدلية» فى الوسط الفنى،  نافست بها المطربة «منيرة المهدية» الملقبة ب«السلطانة»، عرش الطرب أكثر من 15عامًا،ظهرت العدلية لتكسركل تماثيل الرموزتنشد فى الموالد وتبتهل وتمدح وترتل القرآن الكريم فى منافسة استمرت إلى أن قررت العدلية فجأة الاعتزال وسافرت لأداء فريضة الحج وأقامت فى مكة 3 أعوام، ثم عادت إلى مصربينما كانت تغرب شمس «منيرة المهدية».

بعد فترة من عودتها لمصر تقدم الشيخ «أبو العنين شعيشع» الذى كان نقيبا لمقرئى القرآن الكريم، بطلب للإذاعة المصرية اعتماد مقرئات كما وافق على طلب انضمامهن للنقابة بشرط اجتيازهن الاختبارات بنجاح.

ولم يكن بالأمر السهل خصوصا أن لجنة عليا من كبار المشايخ هى التى تعتمد نتائج الاختبارات للمتقدمات لاختبارات التلاوة والابتهال والمديح وفى مسابقة كانت تشمل حفظ القرآن الكريم كاملاً وأصول التجويد، والأحكام والتفسير، ومخارج الألفاظ والحروف.

تقدمت كريمة العدلية للاختبارات ودعمها الشيخ شعيشع  وكانت عودة العصر الذهبى للأصوات النسائية.

ظلت كريمة العدلية تشدو بصوتها عبر الإذاعات الأهلية والمصرية، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية، لتتوقف بعدها عن التلاوة، ورفضت تسجيل أسطوانات إلى أن توفيت دون أن تترك أثرًا مسموعًا.