الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
بطلوع الروح.. درس فى براعة الاستهلال

إستراحة مشاهد

بطلوع الروح.. درس فى براعة الاستهلال

تضع مسلسلات الخمس عشرة حلقة وأقل مؤلفيها أمام اختبار صعب، فالمؤلف مطالب بالدخول فى الموضوع مباشرة، والتعريف بالشخصيات وخلفياتها باستخدام علامات وإشارات محدودة وذات دلالة ناصعة فى الوقت نفسه، حتى تبدأ الأحداث وتتفاعل الحبكة قبل انتهاء الحلقة الأولى، وإن لم يفعل يفقد الجمهور ارتباطه بالتسلسل الدرامى. وقد تجد أحدهم ينصح الآخر بأن يبدأ المشاهدة من الحلقة الخامسة فما سبق غير مهم.



 

هذا «المطب الدرامى» خرج منه سالمًا محمد هشام عبية مؤلف مسلسل «بطلوع الروح»، مستفيدًا بالقطع من قدرات مخرجة فى حجم كاملة أبو ذكرى على تحويل الإشارات المكتوبة على الورق إلى علامات مرئية يستمتع المُشاهد وهو يربط بينها؛ استعدادًا للتعايش مع الشخصيات وإدراك المفارقات التى ستجمع بين كل شخصية وأخرى، دون الإحساس بأن فهمه للموقف برمته كان يحتاج لمزيد من التمهيد.

النصف الأول من الحلقة الأولى من المسلسل الذى يجمع منة شلبى وأحمد السعدنى ومحمد حاتم، يمكن اعتباره درسًا بليغًا فى براعة الاستهلال الدرامى. المشهد الافتتاحى الذى يبدأ فى صيف 2014 نرى فيه الزوج «أكرم» يدخن ويشرب الكحوليات وهو يشاهد فيديوهات لمعاناة فئة من المسلمين فى مكان ما بالعالم، لنعرف بنعومة أن «أكرم» تخلص لاحقا من الكحوليات والمخدرات عبر استقطابه من أحد المتشددين، لكنه لم يمتلك الشجاعة الكافية لإبلاغ زوجته على مدار ثلاث سنوات، حتى إنه عندما أبلغها فعلا ظنت أنه عاد للمخدرات مرة أخرى. هكذا قدَّم «عبية» أحد الروافد الأساسية لاستقطاب الداعشيين الجُدد، التائهين فى حياتهم الخاصة، معدومى الشخصية، الذى ربما يشعر أنه لا يستحق زوجته ويريد أن يثبت استحقاقه بالتحول إلى قائد.

مع الانتقال لفبراير 2017 تعمدت كاملة أبو ذكرى إطالة مشهد النيل المجاور للفندق الذى تعمل فيه «روح» ليس من أجل القول بأننا فى مصر، ولكن لتقديم الدولة المستقرة المعمورة فى مقابل الدولة التى سيهرب إليها «أكرم» وكيف أن «روح» ستجد نفسها رغمًا عنها فى عالم آخر لا فكاك منه إلا «بطلوع الروح». وعلى مستوى الجُمل الحوارية عكست جملة مثل «أنا هخطفك أسبوع فى تركيا» نية الزوج الحقيقية، فلم يقل لها سنسافر أو نطير أو نستمتع؛ بل استخدم المؤلف تعبير الخطف هنا ليكشف ما يفكر فيه العقل الباطن للشخصية، ثم جاء ظهور «عمر» أحمد السعدنى فى «غازى عنتاب» ليكشف أن الموضوع أكبر من استقطاب متشدد لآخر مهتز للانضمام إلى داعش؛ وإنما شهوة «عمر» تجاه زوجة زميله تظهر من أول لمسة يد فى مشهد المطعم وتكرارها مرة أخرى، لتقول لنا إن أزمة «روح» لا تتلخص فى استقطاب زوجها؛ وإنما فى أن رجلا كانت تعتبره «الطويل الرخم» فى أيام الدراسة، لم يفتأ يفكر بها ويريد امتلاكها بأى ثمَن.

 

 

 

سافر الزوجان وطفلهما. انبهرت الزوجة بمدينة «غازى عنتاب» وتجاوزت عن الاختيار المستغرب من زوجها، لكننا نراه يعنف أحدهم لأنه التحم بالطفل الصغير، إشارة أخرى تمهد لنوعية المرض النادر الذى يعانى منه الطفل والذى سيظهر بوضوح فى الحلقة الثانية، إذ يجب على الطفل ألا يصاب بأى جرح، والأب يعرف ذلك جيدًا ومع ذلك يذهب به إلى داعش، تناقُض يدفعنا لاحقا للحُكم على الشخصية بالأنانية، هو يخاف على طفله لكنه لا يوفر الأمان الكافى سعيًا وراء شعور مزيف بالأهمية ينقص الأب. المدينة نفسها حوَّلها صناع المسلسل إلى دلالة على الدور التركى فى صناعة داعش، والدليل تسهيل دخول المنضمين الجُدد إليها. ظهور صديق الأب أيمن عزب كان مهمًا ليس فقط لدوره لاحقا فى استعادة البنت وزوجها؛ ولكن لأن إقامته فى تركيا أعطت مصداقية للصورة التى نقلها للزوجين، سافر 12 ساعة للوصول إليهما فى دلالة على كون المدينة حدودية ما يعزز غرابة اختيار الزوج لها، حديثه عن كونها أرضًا سورية بالأصلى وكيف حوَّلها الأتراك إلى مخلب فى جسد الدولة السورية بدعم الدواعش، وتاليًا كيف استغل سكان المدينة فى بيزنس استعادة المخطوفين.

قبل مشهد المواجهة بين روح وأكرم الذى أكمل تاريخ الجفاء العاطفى بينهما، كان هناك مشهد ذو دلالة خاصة؛ حيث حدوتة قبل النوم من الأم لطفلها، والتى تم اختيارها بعناية أيضًا. نسمع روح تروى لسيف كيف انتصر سوبرمان على الأشرار وطردهم من المدينة، فيما هى بعد قليل ستجد نفسها فى مكان ملىء بأسوأ أنواع الأشرار، فيما تعبر عن نقطة ضعفها الوحيدة بأن تظهر اسم سيف قبل أكرم وهى تطلب من والدها الدعاء، تمهيدًا لخضوعها التام لما سيمليه عليها زوجها المختفى فى اتصال شهد ذكر أول اسم أجنبى فى الحلقة، السائق «سويدن»؛ ليكون الباب الذى يقدم منه صناع المسلسل دولة داعش متعددة الجنسيات والهويات، هؤلاء الذين لم يجمعهم سوى الطموح الكاذب بالحاجة للتميز والاستقلالية حتى ولو دمروا دولا وأزهقوا أرواحًا وظلموا سيدة مثل «روح»، وجدت نفسها أسيرة بحثا عن ابنها، فى مهمة لن تنتهى على خير إلا «بطلوع الروح».