الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الموسيقى فى زمن الحرب

خلال إحدى تدريبات الكورال
خلال إحدى تدريبات الكورال

فى ليلة هادئة من ليالى لبنان الساحرة كنا نجلس فى حلقات دائرية نستمع إلى الشخص الآخر المختلف القادم من أحد البلاد العربية.. وعند منتصف الليل جلس شاب ومعه العود وصوته العذب وبدأ يغنى لأم كلثوم وينتقل إلى وردة فى يوم وليلة، ثم إلى ليلى مراد وعبدالوهاب، لم تكن هناك أغنية لا يعرفها.. ولم يكن هناك أحد لم يطرب بصوته على نغمات عوده..



هو سورى اسمه باسل حداد، أسّس فرقة كورال من أطفال الحرب فى بلاده الذين شردهم الدمار.. حيث الفن يستعيد الحياة.

وبعد سهرة.. كان لى معه هذا الحوار حول سوريا وتفاصيل الحرب والمشردين وأطفال بكراه أحلى .. كان عنده الكثير ليحكيه والكثير الذى يؤمن به..

باسل ابن مدينة يبرود يعشق الموسيقى تَربَّى على نغمات الكبار ورغم معاناته من ضعف بصره وصعوبة حركته إلا أن ذلك لم يثنيه عن حلمه ببلده وبنفسه وبمستقبل أطفال سوريا. 

 شاب فى الواحد والعشرين من عمره، بدأ قبل الحرب بقليل عندما انتقل ليدرس الموسيقى من مدينة يبرود إلى دمشق وإلى حمص.

بدأت الأحداث الصلبة فى عام 2011 فغابت سوريا التى كانت آمنة يعيش فيها مختلف المذاهب والطوائف والمعتقدات، تحتوى الأصالة كلها فى نغمة واحدة يرددها كبيرهم وصغيرهم ويضرب صداها علو ارتفاع جبالهم وعبق تاريخهم.

كان يسمع قبل الحرب عن المشروعات التى غزت سوريا والبنوك والتقدم الملحوظ الذى بدأ ينتشر، كان يشعر بالنشوة وبالفخر تجاه بلاده. 

 

باسل حداد مع العود
باسل حداد مع العود

 

 

وباسل نشأ وكبر بسوريا ويؤمن بتاريخها وحضارتها وأصالتها وطربها، وكان يعيش بمفرده مع والدته وهو فى سن صغيرة.

يحكى باسل أنه فجأة ومن دون مقدمات بدأت الحرب فى صباح يوم أحد الأيام فجأة وجدنا أناسًا يرتدون ملابس غريبة ويغطون وشوشهم، ويوقفون كل المارة للتحقيق معهم، كانوا مسلحين ومرصصين فى كل ناحية وفى كل مكان.

كانوا يسألون المارة أسئلة عن أسمائهم وعن وجهتهم؟ ولماذا؟ متى سيعودون؟ أسئلة من ذلك النوع، لم يكن السوريون معتادين عليها، وفجأة نسمع صوت إطلاق نار وأن أحدهم قتل وآخر اختفى وفى أقل من عدة أيام عمت الفوضى وانتشر العنف فى أرجاء سوريا، لم يبق ولا مكان آمن يذهب إليه أحد الجميع يركض فى الحارات الضيقة وأنا مثلهم .

يعود باسل بالذاكرة يقول: «سوريا تتكسر أمامى،  أصبحنا لا نستجرئ أن نخرج إلى الشارع أو أن نقول أسماءنا، انتشر الخوف والرعب ما كنا نشاهده على شاشات التليفزيون أصبح يحدث أمام أعيننا، لم يعد باستطاعتى أن أكمل دراستى فى حمص أو دمشق وتركت كل شىء؛ بيتى وكل حاجتى والأدوات الموسيقية والأغراض الشخصية وتعريفات الهوية وممتلكات كثيرة وأشياء كانت لها عندى قيمة كبيرة ومعظمها كانت مرتبط بقيمة البلد وبصورته التى ضاعت».

يكمل باسل: عدت إلى بيروت مجددًا وكانت مثلها مثل كل سوريا الخراب يعتريها والضحايا والخوف بات لازمًا على مسامعنا.

 

صدى فى حفلة عامة بسوريا
صدى فى حفلة عامة بسوريا

 

 

كان الجميع فى غيبوبة، وهذا ما كان يشل تفكيرى وحياتى ويجعلنى لا أستطع تخيل سوريا بهذا الكم من العشوائية والخراب.

فى ذلك الوقت- باسل كما قال- «لم أعد أومن بشىء حقيقى سوى الموسيقى».. 

فعندما كان يعزف على عوده فى منزله كان يعرف أن للغد كلمة أخرى وواقعًا آخر، أكثر ما دخل إلى أعماقه وألمه كان قصص الأطفال المنهكين الذين المفقودين آباءهم والمعرضين لأبشع صور الاستغلال والاغتصاب.

يجولون بشوارع سوريا دون معرفة ولا إدراك بما يمكن أن يفعلوه ولا من سيعتنى بهم.

هنا بدأ باسل يفكر فى مواجهة العنف بضم الأطفال المشردين فى الحرب لفريق موسيقى، وكما يذكر باسل «كان التحدى كبيرًا لأن الخطر كبير وفوق الاحتمال».

النقطة الأصعب كانت فى مدى نجاحه فى جمع الأطفال من مشردى الحرب من الشوارع وتعليمهم الموسيقى، ذلك الشىء المرتب الذى يتطلب الإحساس والحضور أخذ هذا وقتًا وجهدًا كبيرًا وشهورًا متتالية، لكن- كما يقول باسل- أنه كان يؤمن بأهمية الموسيقى التى تمنح الحياة للطفل المشرد بقدرته على إخراجه من دائرة العنف والفوضى والفقدان والألم  وتمنح معنى لوجوده.

فى البداية جعل الأطفال يغنون مقسمين لمجموعات حسب طبيعة صوتهم، وبحكم المقطوعات دربهم على مجموعة تعلو بصوتها، ومجموعة تتوقف لتمرر للمجموعة الثانية، وهكذا أصبحوا متناغمين ثم قسم تلك المجموعات لأوقات التدريب ومنح الفرصة لكل طفل كى يسمع غيره ويعطى مجالا للآخر للتعبير بصوته عن نفسه

يقول باسل: «فعلت معهم مثل ما تربيت أنا»، بعدها بدأ التفكير فى تأسيس كورال اسمه «صدى» بمساعدة أخته رغد حداد التى لها الفضل الكبير فى ذلك العمل كما يذكر باسل.

يكمل» «بدأت جوقة صدى للأطفال فى مدينة يبرود ولاقت نجاحًا كبيرًا وتقديرًا فى أرجاء سوريا قبل أن ينضم لها الكبار».

يقول: «صدى تضم أعمارًا مختلفة فى كل المذاهب، وهذا شىء ليس غريبًا عن بلادنا، فالسوريون قبل هذه الحرب يعيشون بشكل متناغم بالرغم من كثرة المذاهب والطوائف».

يقول باسل: «أعمل الآن على الاهتمام بأطفال الشوارع وأيتام الحرب لخروج جيل يتقبل بعضه ويتناغم مع بعضه يسمع بعضه، أعتبر الموسيقى من الأساسيات ودخلت بكورال بكره أحلى وجوقة صدى أكبر الحفلات فى سوريا والشام ومحافظات أخرى ورصدت أكبر الجوائز والتقدير وصارت جوقة صدى الخارجة من قلب الحرب تعمر فى قلب كل طفل هدمت الحرب فى عائلته وفى نفسه».

أنهى باسل كلامه قائلاً: «غناؤنا مستمر.. موسيقانا مستمرة ورسالتنا مستمرة، فنحن نؤمن بأزلية رسالة الفنون وأنها تخرج جيلاً مختلفًا بتجربة تخترق روحه تنقيها وتجعله يتأمل ويفكر ولا يندفع إلى الحرب أبدًا».