الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مديـن الهـوى لا يمـوت

حمدى منصور
حمدى منصور

حمدى منصور الشاعر الكبير الذى آثر الانزواء على نفسه عقب رحيل شقيقه الأكبر عبدالرحيم عبدالرحيم منصور، أوقف عقارب الزمن فى الثامن والعشرين من يوليو لسنة 1984، ورفض أن يحضر جنازته أو يأخذ عزاه، بعدها كان يسافر من قنا إلى القاهرة لينظر إلى شرفته المغلقة، ويفترض أنه خرج ليقابل بليغ «بليغ حمدى»، ربما يحضران لعمل جديد مع وردة أو عفاف راضى، وربما يجلس مع العم منيب «الموسيقار أحمد منيب» ومعهما محمد منير، كان يقضى يومه يتردد على جميع الأماكن التى اعتادا أن يجلسا بها سويًا، يشتم رائحته فى كل شبر وكل مجلس، ثم يذهب ليقضى الليل حتى الصباح بالسيدة زينب أو الحسين، ويعود قنا محملًا بجرح أكبر مما غادر به، وجد راحته فى النوم، فكان ينام كثيرًا ربما هربًا من مواجهة الواقع، انطوى عن العالم تدريجيًا حتى صنع عالمًا بمفرده، يجلس فيه وحيدًا ويستأنس بنفسه، وبكتاباته، ربما وعى لماهية الحياة فعرف أنها بلا قيمة وأقل من اهتمامه، لذا قرر أن ينتظر، ولكن ينتظر ماذا؟!



 

ظل ينتظر الرحيل، ينتظر الدار الأبدية، ينتظر اللقاء، لقاء الأحبة، الذى تمناه كثيرًا، 38 عامًا ظل فيها حمدى منصور ينتظر صامتًا راضيًا ومستبشرًا باللحظة. 

 

جابلى قلب أخضر على كفه
جابلى قلب أخضر على كفه

 

فلاش باك 

لم يعرف حمدى منصور من الحب غير الإخلاص... 

فى نهار داخلى سنة 1971 داخل شقة عبدالرحيم منصور بالمهندسين،  كان قد وصل حمدى من الصعيد للتو، وبعد السلام والتحية أخذ عبدالرحيم يحكى لحمدى أنه يريد كتابة أغنية عاطفية لإحدى المطربات ولكنه يريد الابتعاد عن الشكل التقليدى للأغنية العاطفية آنذاك، والتى كانت تتغزل بعيون الحبيبة وشعرها وبحبك ووحشتيني، يريد أن يخلق قالبًا حديثًا وغير مستهلك كما فعل فى الأغنية الوطنية. 

قال عبدالرحيم ما قاله ثم انصرف لتحضير الإفطار وترك حمدى وحيدًا على الطاولة ومعه قلم وعلبة سجائره، قطع العلبة ليستخدمها كورقة وكتب عليها.. 

جابلك إيه يا صبية حبيبك لما عاد 

جابلى عقد وجلابية وقاللى كفاية بُعاد 

جابلك إيه يا صبية حبيبك لما عاد 

جابلى قلب أخضر على كفه وقاللى كفاية بُعاد 

خرج عبد الرحيم منصور ولم يجد حمدى، لم يجد سوى تلك الورقة التى قرأها وكاد أن يجن من روعة وخفة الكلمات، وكان قد غادر حمدى المدينة المزدحمة وأخذ القطار عائدًا إلى مدينته الصغيرة قنا، التى كان يشعر بالدفء فى شوارعها ويحبها كثيرًا ولولا وجود عبدالرحيم فى القاهرة لما وطأت قدماه شوارعها. 

حاول بعدها عبدالرحيم الاتصال بحمدى حتى يكمل الأغنية ولكنه لم يتوصل له فأكملها هو ولحنها سيد إسماعيل وغنتها عايدة الشاعر، وبينما يستمع حمدى كعادته ذات يوم لإذاعة الأغانى منتظر أجدد أعمال عبدالرحيم سمع الأغنية وأعقبها صوت المذيع أن الأغنية كلمات عبدالرحيم منصور، طار فرحًا وجال فى شوارع قنا يسمع الناس ما كتب عبدالرحيم بصوت عايدة الشاعر، كان وقتها كل بيت يحتوى على شاب متزوج ويعول ترك أسرته للعمل فى الخليج، ولذلك وقع الأغنية كان مدويًا فى القلوب. 

 

بياع قناديل 

عندما قرر عبدالرحيم منصور ترك قنا ليعيش فى القاهرة بشكل دائم، وبالتالى ترك حمدى منصور الذى كان يكره القاهرة بقسوتها وزحمتها وطبيعة البشر فيها التى لا تتماشى مع حمدى، كتب حمدى خطابًا لعبدالرحيم منصور يقول فيه.. 

قفلنا الدار 

بعد ما راح وهجر الدار 

قفلنا الدار 

بعد م كنا قسمنا اللقمة والضحكة وهم المشوار 

قفلنا الدار 

بعد م شلته فى عنيا طول المشوار 

قفلنا الدار 

بعد م عمرى اديتهوله ورماه فى النار 

قفلنا الدار 

تغنى بهذه الأغنية محمد رشدى ولحنها بليغ حمدى وتذاع حتى اليوم بكلمات عبدالرحيم منصور. 

عندما تجلس مع حمدى وتسأله عن حقيقة هذا الكلام يقول لك بكل حب أن حمدى وعبدالرحيم واحد، لا فرق بينهما، أغانى عبدالرحيم بتاعتى وكلماتى كلها بتاعت عبدالرحيم. 

وكان يغضب جدًا لو شخص اتهم عبدالرحيم بالسرقة، أغانٍ كثيرة جدًا كتباها معًا بكل حب، وإلى آخر لحظة كان حمدى ممتنًا لوجود عبدالرحيم معه، نعم كان يعيش معه، ترك العالم والحياة بأكملها، ليعيش فقط مع عبدالرحيم. 

فى ذمة العاقل 

ربما من علىّ الله وأكرمنى بطريقة للتواصل معه، ومنحنى نعمة ووسيلة نتواصل بها، ألا وهى الشعر كان يحب أن يستمع إلى أشعارى، وكنت الوحيدة التى يتحدث معها ويلقى عليها أشعاره، حارب فى أكتوبر المجيدة وكتب عن وطنه. 

وتنبأ بأحداث ثورة يناير قبلها بعشرات السنوات فى قصيدة بعنوان أمشير يقول فيها.. 

أمشير بره 

يطوح فى شجر الغيطان 

يهز السلوك والورق والعيدان 

تطول الضفاير وتصبح ستاير 

ستاير خيوط الشموس فى يناير 

وتوسع عنيا 

عليا وعليكى 

وراسك تطول النجوم والعماير 

نحن أمام شاعر استثنائى شاعر ذي حدس وحس صادق يقول أيضًا مخاطبًا مصر 

وباطك فى باطى 

مانيش احتياطى 

وعمرى م اطاطى 

وعمرى ما أخون 

وبصدق فى قولى وشعرى وشجونى 

وتوسع عيونى 

عيون الحقيقة 

سموش العيون 

كان زاهدًا درويشًا عاشقًا وما على العاشق ملام، له العديد من الدواين «الولد.. ما على العاشق ملام.. قمرك أخضر يابلدنا». 

قبل رحيل مدير أعمال محمد منير بأيام قليلة، أى منذ سنة تقريبًا، اتصل بحمدى وطلب منه أغنية كان قد كتبها حمدى لمنير ولم يكملها، فطلب مدير أعماله إكمالها لأن منير يرغب فى غنائها، رفض حمدى التعامل مع منير، وهذا ليس أول مرة يطلب فيها منير العمل مع حمدى منذ رحيل عبدالرحيم منصور، كلمات الأغنية تقول.. 

صلت صليت وراها 

غنت غنيت معاها 

صرخت توهت فى حشاها 

صبحت هى العشيقة 

وانا العاشق هواها 

لحنها منير فى الثمانينيات وكان يغنيها فى جلساته الخاصة ولدىّ تسجيل الأغنية بصوت منير، ولكن حمدى رفض التعامل معه بعد رحيل عبدالرحيم ورفض التعامل مع الحياة بأكملها.

ربما دارت حول حمدى العديد من المدارات وصنع بصمته الكثير من الأسئلة، والأسرار التى ذهب بها، ولكن فى النهاية أود أقول أن مدين الهوى لا يموت، وإن كفنوك ودفنوك ومن يحبك ما زال على قيد الحياة، فأنت حى لم تمت، أحبك يا حمدى وسأعيش معك حتى آخر أنفاسى، إلى أن ألقاك وأدفن بجوارك.