الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

زيارة للكنيسة

أجلستنى أمى بجانبها، كلتا يديها مشغولتان فى صنع الفطائر الخاصة بالزيارة الموعودة إلى الكنيسة التى تقع فى البلدة المجاورة لقريتنا الصغيرة، بجوار أمى كانت تجلس جارتنا أم جرجس والتى تعد بمثابة أم ثانية لى وهى الأخرى منهمكة معها فى التجهيز للزيارة، إلا إننى لم أستطع أن أصبر وقفزت من جوارهما على حين غفلة منهما، وهرولت صوب الباب للخروج لكى أنضم لأقرانى فى الشارع وهم يلعبون لعبتنا الغالية (البلى الزجاجى) ولم أكترث لنداء أمى الصارخ خلفى- عد يا أحمد أين تذهب؟ ألا نصنع كل هذا من أجلك؟



اندماجى مع الصبية جعلنى أنسى كل شىء، بدأ صراخ الخاسرين يعلو، حتى انتشل جارنا الرجل السبعينى من مرقده ليفتح نافذته الخشبية العتيقة ويقذفنا بسيل من السباب الساخط دون أن يهمل أحدًا منا أو أن ينسى ذكر اسم والدته، وهذا حاله دومًا دون أن تخذله ذاكرته مرة واحدة، ونحن الصغار ما أكثر ما ننسى.

رفع أكبرنا سنًا وجهه شطر الرجل الحانق قائلاً: عذرًا عمنا جميل، لن نفعل ذلك مرة أخرى بحق العذراء لا تغضب علينا.

هدأت ملامح الرجل واستكانت ثورته مغمغمًا: خذ أترابك يا سالم ولا تفعلوها ثانية.

فى تلك اللحظة كان يمر جارنا الشيخ حسين الذى نظر للعم جميل فى عجب وهو يقول: وهل تصدق هؤلاء الشياطين مرة أخرى ألا تكرر فعلتهم هذه مرة تلو الأخرى، وأنت دائما تسامح وهم دائما مستمرون فى لهوهم.

رد العم جميل: إنهم لا يزالون صغارًا، ألم نكن نفعل أكثر منهم عندما كنا فى مثل أعمارهم بل وأكبر؟

ضحك الشيخ حسين وأومأ برأسه مؤمنًا على صدق قوله ثم واصل سيره صوب الجامع.

نادتنى أمى على عجل فهرولت صوبها فقالت: الآن يجب أن ترتدى جلبابك النظيف فقد حان وقت ذهابنا للكنيسة، لحظات وسوف يأتى خالك لكى يقلنا إليها ومعنا الفطائر وقلة المياه.

 لم تكد أمى تنهى كلامها حتى سمعنا نفير سيارة الخال التى أقلتنا للكنيسة ودخلنا إلى بهوها الواسع فقابلنا أحد رجال الدين بها باش الوجه وسأل أمى وابتسامة طيبة لا تزال مرسومة على شفتيه: ماذا بصغيرنا الجميل.

وأخرج من جيبه قطعة حلوى وضعها فى راحتى.

تدخلت أم جرجس قائلة- يا أبانا إنه دائما يهب من نومه مذعورًا، لا يكاد يهنأ بنوم، أتراه قد يكون مسًا شيطانيًا؟

اقترب منى وطبع على جبهتى قبلة حانية ثم أجلسنى بجانبه على كرسى وثير مبطن ببطانة كأنها الحرير وبدأ يرتل تراتيله التى بعثت الخدر فى جسدى وبجانبى الشطائر وقلة الماء التى ترفل فى غطاء من الخيش كى تحتفظ بالماء بارد وزلال.

لحظات ثم رفع يديه إلى السماء قائلا: بحق البتول والمسيح ابن الله شفاؤك العاجل يا ربنا.

ومسح وجهى بكلتا يديه وكأنه يغسلنى بدعواته ويباركنى.

 ثم مد يده إلى كيس الفطائر وأخرج إحداها وبيده مزقها إلى قطع صغيرة ووزعها على جميع الموجودين وتناول قلة المياه ونثر بعض مائها فوق رأسى ووجهى ثم جعلنى أشرب منها ومع الحاضرين جميعهم فعل هذا.

عدنا إلى بيتنا قريب الغروب ما إن هبطنا من سيارة الخال حتى تركنا وانطلق والخالة أم جرجس هى الأخرى ولت صوب دارها مسرعة لتعد العشاء لأبو جرجس وقد أوشك على العودة من عمله، جهزت أمى لنا طعام العشاء وما إن انتهينا منه حتى آوى كلانا إلى مخدعه.

استيقظنا صبيحة اليوم التالى على قرع شديد على الباب، قامت أمى بين اليقظة والمنام واقتربت من الباب وهى تقول هامسة- من يطرق الباب؟

- إنه أنا.

- وأنت من تكون

جاء الرد بصوت غاضب حانق- أنا الشيخ علاء ابن عم ولدك أحمد.

قالت أمى والعجب يملأها لا سيما وإن قريبنا هذا قلما يأتى إلينا حتى فى الأعياد قد لا نراه بالرغم أن ما بين داره ومنزلنا مسافة لا تذكر.

- وماذا تريد يا شيخ علاء فى هذا الوقت الباكر وأنت تعرف أن والد أحمد فى غربته منذ شهور.

- هل صحيح إنك أخذت الصغير وذهبت به إلى الكنيسة؟

- وما دخلك أنت فى هذا، إنك لست وصيًا علينا.

ما إن أنهت أمى حديثها حتى انفجر قريبنا هذا فى الطرق على الباب بكلتا يديه حتى كاد أن يمزق الباب وأيقظ الجيران حولنا، إذ أننى تبينت صوت الشيخ حسين وهو يعنفه على فعلته تلك واِجْتِرَاءه الأرعن فى التهجم على دارنا. 

سمعت الشيخ وهو يقول له: ما فعلته جريمة يا شيخ علاء، أن تتهجم على الناس فى منازلهم.

فرد عليه بصوت غاضب حانق قائلاً: إن عرفت القصة سوف تلتمس لى العذر بل وتبارك فعلتى.

ضحك الشيخ حسين ثم قال: بل أعرف، وأعرف إن من بداخل هذا الدار لم تفعل جريمة تحاسب عليها، ان فكرك العقيم يا ولدى من عظم لك الأمر وهوله.

اقترب الشيخ حسين من بابنا وطرقه طرقًا خفيفًا وهو يقول لأمى :افتحى الباب يا أم أحمد ولا تخشى شيئًا فتحت أمى الباب بروية ليطالعها وجه الشيخ مبتسمًا فى سماحة قائلًا: نريد مقعدين نجلس عليهما كما أريد منك أن تذهبى لنساء البيوت التى حولك لإحضارهن، أما أحمد فليذهب لإحضار الرجال ولا تنسيا أنا تجعلوا من يحضر يأتى ومعه مقعده.

ما إن اكتمل الجمع حتى وقف الشيخ حسين كالخطيب فوق المنبر وبدأ يسرد كل ما حدث والذى كان السبب فى جمعهم وأكمل قائلًا: الكثير منكم يتساءل وما دخلنا فيما حدث بين أم أحمد وقريبها.

صمت هنيهة ثم أكمل متوجهًا بحديثه للشيخ علاء: لقد رأيتك يا ولدى أَحايينُ عدة وأنت تتناول طعامك فى المطعم الموجود فى أول الشارع، أليس هذا صحيح؟

- نعم وماذا فى هذا.

- ألا تعرف أن كل من يعمل فى المطعم من الإخوة المسيحيين.

- بلى 

- ألا تخشى المأكل فيه وأنت تعرف ذلك.

صمت الشيخ علاء فقد وعى مغزى السؤال.

أما الشيخ حسين فقد توجه بحديثه للجميع

- من جاء إلى تلك الحياة -الكبير قبل الصغير- لم يعرف فرقًا بين كونه مسلمًا وجاره المسيحى، أعيادنا نحتفل بها جميعًا ونبارك لبعضنا البعض، هل غير ذلك فى إيماننا، بالطبع لا، ألم يقل رب العزة فى سورة الكافرون ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) لكل منا دينه وعقائده ومقدساته إنما جميعا نتعايش سويًا فى ود واحترام وتقدير، أليس هناك مسيحى يحفظ سورا من القرآن هل ذلك يجعل عشيرته تنفر منه.

وقفت أم أحمد ثم قالت: عذرًا يا شيخ هذه جارتى أم جرجس كانت تترك لى صغيرها حين تذهب لأمر جلل وعندما يجوع كنت أرضعه مع صغيرى وهى أيضا كانت تفعل ذلك مع صغيرى.

- ما رأيك يا شيخ علاء؟

أراد أن يرد ويؤكد حجته إلا أنه لم يجد لديه كلمات.

وخيم صمت حائر فوق الجمع.