الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أنا جاهل بالسياسة ولست من دنياها!

د. زكى نجيب محمود يعترف:

أنا جاهل بالسياسة ولست من دنياها!

لا أظن أننى قرأت أو سمعت لكاتب صحفى صغير أو كبير يعترف فى لحظة صدق بأنه «جاهل بالسياسة»!



مستحيل أن يحدث هذا فى عالمنا العربى، فقد امتلأت الصحف وشاشات الفضائيات بخبراء السياسة، وأساتذة السياسة، ونشطاء السياسة، وننام على سياسة ونصحو على سياسة، ومن كل هذه الأطنان المكتوبة أو المسموعة والمرئية لن تجد واحدا يعترف بأنه جاهل بالسياسة!

 

ولهذا كانت دهشتى بالغة عندما وجدت بين أوراقى مقالاً مهماً وخطيراً كتبه الدكتور زكى نجيب محمود وصدمنى عنوانه «جاهل بالسياسة يتحدث عنها»!

مقال جرىء وصادم يندر أن يتكرر من كاتب أى كاتب، لكن د. زكى نجيب محمود فعلها وعلى الملأ فى جريدة «الأهرام» بتاريخ 12 مارس سنة 1984، واحتل المقال صفحة كاملة إلا قليلا فماذا جاء فى هذا المقال المهم؟! وصاحبه هو مؤلف كتاب «تجديد الفكر العربى» و«ثقافتنا فى مواجهة العصر»، و«هموم المثقفين» و«قصة عقل» و«قصة نفس» و«مجتمع جديد أو الكارثة» وحسب كلامه، فقد وصل عدد صفحات الكتب التى أخرجها للقارئ ما يقرب من عشرين ألف صفحة!

يقول د.زكى نجيب محمود فى مقدمة مقاله:

«أما الجاهل بالسياسة الذى - رغم ذلك الجهل - يجعلها موضوعًا للحديث فهو «أنا» فلست من دنيا السياسة فى كثير أو قليل، إننى بالطبع أعيشها كما يعيشها الملايين، لكننى لا أملك القدرة على «تنظيرها»، فأنا أعيشها بمعنى أننى كسائر الناس، أهم أو أشقى بالحوادث كما تجرى، لكن ذلك لا يعنى أننى أستشف تلك الحوادث لأرى وراءها: كيف تجمعت أو تفرقت لتنتج ما أنتجته، نعيمًا للناس فى حياتهم العملية أو شقاء»!

ويمضى د. زكى نجيب محمود فى نفس المقال قائلا:

لقد مررت فى حياتى بخبرات مسست فيها مجال السياسة مسًا رقيقًا جعلنى أحمد الله حمدًا كثيرا على أننى نجوت من الخوض فى تلك اللجج الرهيبة، وأقل ما أقوله فى هذا الصدد - هو أن رجال السياسة ينهجون فى عملهم - وربما فى حياتهم العملية كذلك - نهجا لم يخلق له عقلى!

فقد حدث فى أوائل سنة 1946 أن اجتمعت هيئة الأمم المتحدة فى أول اجتماع لها بعد إنشائها عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة بمدينة لندن، لأن مبناها فى نيويورك لم يكن قد تم إعداده! ثم حدث لإحدى الدول العربية ألا يكون لها من أبنائها من سمحت الظروف بإرساله إلى لندن لحضور ذلك الاجتماع، إلا ثلاثة أعضاء ممن يصلحون لتمثيل بلدهم فى اللجان المختلفة، وكان عدد تلك اللجان ستا، وأرسلت سفارة تلك الدولة إلى السفارة المصرية بلندن تطلب منها إذا أمكن اختيار ثلاثة مصريين من الموجودين فى إنجلترا ليكونوا أعضاء فى وفد تلك الدولة فى أول اجتماع لهيئة الأمم المتحدة!

وكان أن اختارتنى سفارتنا مع زميلين آخرين، ولبث انعقاد الهيئة الدولة ستة أسابيع، رأيت خلالها «مكنة» السياسة كيف تعمل وهى فى أعلى مستوياتها، وذلك أن ألمع النجوم فى دنيا السياسة من أرجاء الأرض جميعًا كانوا حاضرين فكانت تلك هى المناسبة الأولى - وربما كانت الأخيرة كذلك التى «تفرجت فيها على السياسة وهى على مقربة من بصرى وسمعى، فماذا رأيت»؟!

إنى لأطلب المعذرة والمغفرة ممن جعلوا السياسة عملا يرتزقون منه، أو يسعون إلى المجد عن طريقه، لأن تلك السياسة كما رأيتها فى ألمع نجومها يومئذ، لم تزد فى رأيى عن براعة الحواة! لأنه إذا أشكل على الحاضرين أمر، بحيث اختلفت فى شأنه الدول - وخاصة القوية منها - فإن السعى كله إنما ينصب على إيجاد «صيغة» يرضى عنها الجميع، فليس الذى «حلوه» بسعيهم هو المشكلة نفسها كما هى قائمة على أرض الواقع، بل هو «الصيغة اللفظية» التى يرضى عنها جميع الأطراف! وجميع الأطراف إنما رضيت لأن الصيغة التى انتهى إليها التفكير السياسى لا تُلزم أحدًا بشىء!

ويضرب د. زكى نجيب محمود مثلا آخر يوضح به فكرته عن السياسة فيقول: استمعت ذات يوم منذ أعوام قلائل وبمحض المصادفة إلى حديث فى الإذاعة البريطانية أجراه مذيع مع «لورد كارادن» وهو الذى صاغ لمجلس الأمن سنة 1967 بعد حرب العرب وإسرائيل القرار رقم 242 الذى رضى به العرب أو معظمهم وإسرائيل معًا، ومع ذلك فنحن نعلم أنه هو.. هو نفسه القرار الذى لم يحل من المشكلة العربية الإسرائيلية شيئًا إلى اليوم.

أقول أنى استمعت إلى ذلك الحديث وفيه سأل المذيع «لورد كاردان» كيف وصلت إلى صياغة ذلك القرار؟ فأجاب اللورد بما معناه: كان الأمر يسيرا فقد سألت الجانب العربى ماذا تريدون؟ فقالوا: نريد الأرض، وسألت الجانب الإسرائيلى: ماذا تريدون؟ قالوا نريد تأمين حدودنا؟!

وبهاتين الإجابتين صنعت القرار، فأحد بنوده يطالب بعودة الأرض المحتلة إلى أهلها، وبند آخر من بنوده يطالب بضرورة أن تكون حدود إسرائيل آمنة! لكننا نسأل: أين هى براعة السياسى البارع فى هذا؟!

والجواب هو أنه عرف كيف يصوغ ألفاظ القرار صياغة يوافق عليها الطرفان! لكن هل حلت تلك الصيغة، البارعة شيئًا من مشكلتنا كما هى على أرض الواقع؟ لا لم تستطع ذلك، فقد وجدت فيها إسرائيل من ثقوب متعمدة يمكن أن تقول على أساسها أن المنصوص عليه هو أن نعين أرضًا.. حتى ولو كانت مساحتها شبرًا مربعًا؟! وكان الظن عند الجانب العربى هو أن إعادة الأرض المحتلة إلى أهلها، لا تحتمل إلا معنى واحدا، هو أن تعاد «كل» الأرض المحتلة!

ومن العجيب أن رئيس وزراء بريطانيا السابق.. هارولد ويلسون، وقد كان زعيمًا لحزب العمال، زار إسرائيل ولم يكن حينئذ فى الحكم، فسأل هناك، ولعل ذلك السؤال قد جاء بعد اتفاق سابق - هل تعنى عبارة إعادة الأرض الواردة فى القرار رقم 242 كل الأرض أو بعض الأرض؟ فأجاب بقوله: لو كنا نعنى كل الأرض لقلنا ذلك فى القرار!

ويعلق د.زكى نجيب محمود بقوله: وتلك هى البراعة السياسية كما يراها أصحابها، فتبقى المشكلات على حالها وتنجح السياسة! على غرار أن يقال فى المجال الطبى: نجحت العملية الجراحية ومات المريض!

ويسترسل د.زكى نجيب محمود قائلاً:

إننى لأعترف بكل صدق أننى كثيرا ما حاولت مع نفسى أن أحدد المعنى المقصود بكلمة «سياسة» فلم أجد لنفسى جوابًا مقنعًا!!

وابدأ معى بما يسمونه السياسة الداخلية فأبحث الأمر ما شئت وافحص ما شئت، فلن تجد أمامك إلا مشكلات معينة مطروحة أمامنا تريد لها حلولاً لكن تلك الحلول لن تكون أبدا عند «السياسى» إنما هى دائمًا عند رجل العلم فى كل ميدان على حدة، فإذا كانت المشكلة اقتصادية فحلها عند علماء الاقتصاد، وإذا كانت مشكلة فى التعليم فحلها عند خبراء التربية، وإذا كانت مشكلة تتعلق بالحالة الصحية فحلها عند علماء الطب بجانبيه الوقائى والعلاجى!!

وهكذا وهكذا فإذا تولى العلماء فى ميادين تخصصاتهم حل المشكلات التى تعرض لهم فى تلك الميادين فماذا يبقى للسياسى»؟!

وأما ما يسمونه بالسياسة الخارجية فقرارات يتخذها الكبار أو لا يتخذونها، وفى عباءة هؤلاء يدور «الصغار» حول صياغات لفظية تنزع منها الأشواك التى تخز الجلود ليبقى السطح الأملس الناعم الذى لا يؤذى أحدًا، فتوافق عليه الأطراف المتنازعة وكان الله يحب المحسنين!

ويؤكد د.زكى نجيب محمود فى عبارات حاسمة قاطعة قوله:

إننى مؤمن بالعلم أولاً وآخرًا، وتأسيسًا على هذا الإيمان أعتقد أن ما لا تحله العلوم من المشكلات بجميع أنواعها لا تحله التعاويذ، وما يسمونه حلولًا سياسية إنما هو ضروب من التعاويذ!!

وأظن أن ما أسموه بالمعجزة الألمانية والتى قصدوا بها إحياء ألمانيا الغربية بعد أن خربتها الحرب العالمية الثانية تخريبا، ظن أن لن يكون لها قيام بعده، إنما ترجع إلى جماعة العلماء فكان كل منهم أعلم الناس بما يعيد الحياة إلى المجال الذى تولى شئونه!

أردت بهذا كله أن أقول إن الكشف عن الحقائق وحلول ما يعرض لنا من مشكلات هو من شأن العلم لا من شأن السياسة!

ويتساءل الاسم العربى «سياسة» يثير عندى أسئلة كثيرة أولها وأنا هنا أسأل عما لست أعرفه - هل استعملت كلمة «سياسة أو سياسى» فى العصور العربية الأولى»؟ وإذا لم تكن فمتى دخلت باستعمالها المعروف الآن!

وللكاتب الناقد الفنى «هربرت ريد» مقال عنوانه سياسة بغير سياسيين».. يرحب فيه بالسياسة إذا جاءت راعية للشعب فى أمور حياته لكنه يرفض رجال السياسة الذين يحولون المسألة إلى حرفة يكسبون منها المال والمجد! ويحيطونها بكهنوت يوهمون به الناس، أنهم يستطيعون مالا يستطيعه كثيرون!

وخلاصة الخلاصة هى أنى لو سئلت فى دنيا السياسة أى المذاهب تختار؟

لأجبت بأنى أختار كل اتجاه يجعل من رغبات الشعب أهدافًا، ومن الحكومة علماء يحققون بمنهجهم العلمى تلك الأهداف.

انتهى المقال وللأسف لم يعش د.زكى نجيب حتى يرى ويسمع عن فئة، الناشط السياسى، والمحلل السياسى، والخبير السياسى، ممن احترفوا الكلام والسلام!