السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
صلاح جاهين وأزمات الكاريكاتير!

حكايات صحفية

صلاح جاهين وأزمات الكاريكاتير!

«جاءنا شاب قصير بدين هارب من كلية الحقوق ومن بيت أبيه المستشار الجليل لأنه يهوى الرسم والشعر الشعبى، وبدأنا نستعين به فى البروفات وما إلى ذلك، وذات يوم وجدته أنه ملأ الفراغات المرشحة ليملأها كاريكاتير برسوم كاريكاتيرية فعلا، ودهشت لما فيها من خطوط جديدة وروح جديدة ونبض جديد وسألته: لماذا لا ترسم كاريكاتير وتترك حكاية الأغانى؟! فقال لى: فى عرضك لا أحد يعطينى الفرصة!!



وظهرت «صباح الخير» وأحد أعظم مفاجآتها رسام كاريكاتير اسمه «صلاح جاهين»!

صاحب هذه الشهادة هو الأستاذ الكبير «أحمد بهاء الدين» أول رئيس لتحرير صباح الخير وجاءت ضمن مقاله فى صباح الخير بمناسبة عيد ميلادها الخامس والعشرين فى عدد 12 فبراير 1981.

ولم تمض سنوات قليلة حتى أصبح «صلاح جاهين» رئيسا لتحرير صباح الخير وكان ذلك عام 1966 وكانت تجربة صحفية فريدة فى حياته لم تستمر سوى عام واحد فقط. ولعل أكثر الأزمات أو المشاكل التى تعرض لها كانت بسبب رسوم الكاريكاتير سواء له أو لغيره من نجوم صباح الخير وقتها.

ويروى «صلاح جاهين» بخفة دمه وسخريته اللاذعة إحدى هذه الأزمات قائلا: «زعل مننا أستاذنا ومعلمنا الدكتور «عبدالقادر القط» وأرسل إلينا من يعنفنا و«يبستفنا» نحن التلاميذ المشاغبين فى مجلة «صباح الخير» التى يتغنى بحبها الطير، والسبب هو تلك الصور الكاريكاتيرية الظريفة التى ظهرت فى عددنا الماضى والتى ناغشت وداعبت أسيادنا وتاج راسنا أساتذة الجامعات!

ثم ظهرت الصحف صباح الأحد وفيها نداء من الدكتور «عزت سلامة» وزير التعليم العالى لمعشر الصحفيين من كُتاب» و«نكتيين» يناشدنا فيه أن نتوخى الاعتدال فى نقدنا للجامعات وأساتذتها وأن تتجنب إثارة الحساسيات!

وبصفتى من تلاميذ الدكتور «القط» وأيضًا من أشد المعجبين بالدكتور «عزت سلامة» لم يهن عليّ أن أترك الحكاية تمر دون كلمة تهدئ من خاطريهما ودون مناقشة تضع الأشياء فى وضعها الصحيح!

ويمضى الأستاذ «صلاح جاهين» يقول فى كلمته الهادئة!

«طبعا أنا إذا رسمت نكتة عن رجل تضربه حماته بالقبقاب» فليس معنى ذلك أن كل الرجال مضاريب بقباقيب «حماواتهم»، وإذا قلت أن «أبوسريع عجلاتى» وأن «أبوسريع كائن بشرى» فمن الخطأ أن نستنتج بعد أن كل البشر «عجلاتية» وهكذا.. إذن فهذه الصور الكاريكاتيرية غير مقصود بها أساتذة الجامعات كلهم وإنما القليل النادر!

 

 

 

وقد استوقفنى تعبير «الحساسيات» المذكور أعلاه، لأننى ولأول مرة فى حياتى وجدتنى أمرض بالحساسية وأكتشف أن أمراضها منتشرة جدا هذه الأيام. أنا مثلا عندى حساسية من إشارات المرور، كلما رأيت إشارة مرور تظهر على جبهتى ثلاث دوائر ملتهبة تحت بعضها: واحدة حمراء وواحدة صفراء وواحدة خضراء ثم أحس بميل شديد إلى هرشها ولكنى استخدم قوة إرادتى لأمنع نفسى من ذلك لأننى إن فعلت امتلأ جسدى كله بهذه الدوائر الملتهبة وصارت وقعتى ما يعلم بها إلا ربنا وقد قال لى الأطباء أنه ليس لهذه الحساسية التى عندى أى علاج إلا إذا ألغيت إشارات المرور، وطبعا لا أستطيع أن أطالب بهذا، وحتى إذا طالبت فإننى أشك كثيرًا فى أن أحدًا سيجيبنى إلى مطلبى بالرغم من أننى رئيس تحرير مجلة صباح الخير التى يتغنى بحبها الطير!

لذلك فقد اهتممت جدًا، بموضوع «عدم إثارة الحساسيات» عند القيام برسم الصور الكاريكاتورية، وانتهيت من دراستى بأن الحل الوحيد لعدم إثارة هذه الحساسيات هو التوقف عن «التنكيت» على عباد الله من أى نوع أو أى شكل لأن الكاريكاتير لا بد وأن يثير «الحساسيات» عند أحد من الناس فى أحد الأمكنة وخرجت من كل هذا بأن وضع مثل هذه الفكرة موضع الاعتبار سوف يكون قيدًا على أى رسام كاريكاتورى يريد أن يقوم بواجبه الفكاهى نحو وطنه.. وبأنه كما أن إلغاء علامات المرور عشان خاطر عيونى شىء مستحيل، فإن إلغاء الكاريكاتير عشان خاطر عيون غيرى شىء مستحيل أيضًا!

إن فن الكاريكاتير فى حد ذاته فن يتناول الأشياء من وجهة نظر واحدة ولا يستطيع بطبيعته أن يستخدم كلمة «ولكن» التى يستخدمها فن المقال ببراعة يحسد عليها، فتراه يحيط بالموضوع من جميع الزوايا ويقول ما للشىء وما عليه فى دقة وتوازن تامين!

وحيث إن هذا الذى أكتبه الآن مقال وليس صورة كاريكاتورية فإننى أستطيع أن أقول فيه كل «الولاكنات» التى لم تظهر فى نكت العدد الماضى، أستطيع مثلًا أن أقول على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.

- بعض الأساتذة يستغلون الطلبة ببيع المحاضرات على هيئة ملازم، ولكن الكثير منهم لا يفعل ذلك!

وأستطيع أن أقول أيضا: «الأساتذة الذين يفعلون ذلك مخطئون ولكن هم معذورون نسبيا لأن رواتبهم صغيرة ولا تتلائم مع مكانتهم العلمية ومظهرهم فى المجتمع وهكذا.

بعد هذا التوضيح والشرح من صلاح جاهين يكمل مقاله قائلا: و«على أية حال فمجلة «صباح الخير» التى يتغنى بحبها الطير تحمل لأساتذة الجامعات أعمق التقدير، ولا تنسى أنهم كانوا أول من أيد الثورة فى مهدها سنة 1952 وأنهم دائما محل فخرنا وكبريائنا فى المجالات الدولية وأنهم صانعو الأجيال الجديدة المثقفة المتخصصة الكفؤة، وأن من علمنى حرفًا صرت له عبدًا.

كذلك فإننا نتابع بكل اهتمام وأمل الجهود المخلصة التى يبذلها الأساتذة متعاونين مع وزير التعليم العالى لرفع مستوى الجامعات ووضع الحلول العملية للمشاكل التى تعوقها.. نتابع كل هذا ونتمنى لهم جميعًا النجاح والتوفيق، ولعزت سلامة نقول مشجعين: شد حيلك وربنا معاك.

أما لأستاذنا الدكتور «القط» الذى وجدنا نعمل دوشة فى الفصل فالتفت إلينا غاضبًا ملوحًا بالمؤشر فإننا نقول: معلهش والنبى يا أفندي!

وتحت عنوان جانبى هو «العبد لله وحالته فى طب الأمراض العقلية» يعترف بأنه شخصية «مرحنقباضية» وهى كلمة مكونة من شقين «المرح والانقباض» ويقول: الشخصية «المرحنقباضية» تجدها فى بعض الأحيان شديدة المرح والابتهاج تكاد تطير من الأرض طيرانًا وفى أحيان أخرى تجدها شديدة الانقباض كأنها مضروبة ستين ألف صرمة قديمة، ومع مرارة حقيقية فى الحلق وثقل فى الأطراف، تسير مطأطأة الرأس تجر نفسها جرًا، والحالتان تحدثان لها عادة بدون سبب!

 

 

 

وبما أننا فتحنا سيرة الكاريكاتير فلا مانع من أن أزيد حضراتكم علمًا فأقول أن معظم رسامى الكاريكاتير فى العالم شخصياتهم من هذا النوع: «مرحنقباضية» ولقد كنت أحرص فى كل بلد أزوره من بلدان العالم، أن أمر بدور الصحف هناك وأحاول أن أتعرف على أهل «كارى»، وسواء كنت فى إيطاليا أو ألمانيا أو فرنسا أو إنجلترا أو أمريكا، فإننى كنت أقابل نفس الشخصية حتى أكاد أحسب أننى لم أخرج من القاهرة، وأننى مازلت مع بهجت وحجازى وإيهاب وناجى والليثى وزهدى وصاروخان وعبدالسميع ورخا وجورج ومصطفى حسين وطوغان!

نفس الطباع، نفس الغلب والتعاسة والضحكات المفاجئة التى تلوح لحظة كالشمس بين غيوم السويد!

والسبب بحسب اجتهادى فى تفسير هذه الظاهرة الذى يجعل «المرحنقباضية» هى مرض المهنة بيننا، كما أن السل هو مرض المهنة عند العمال فى بعض الصناعات، إن الإنسان متوازن بطبيعته يحمل من قدرة الانفعال المرح بقدر ما يحمل من قدرة الانفعال الغاضب، فإذا تعمد أن يبالغ فى المرح وفى خلق جو لتأليف نكتة أو رسم كاريكاتير لا بد وأن ينقلب إلى الطرف الآخر بنفس درجة البعد عن نقطة الوسط ثم يظل هكذا يتأرجح مثل البندول!

وكثيرًا ما كان البعض يسألوننى: كيف تستطيع أن تكون رسامًا كاريكاتوريًا وبكل هذا التهريج، وفى نفس الوقت شاعرًا وبكل هذا الحزن.. ولم يخطر فى بالى أبدًا أن أخبرهم باسم حالتى فى طب الأمراض العقلية: «المرحنقباضية».

وليس معنى هذا أن «المرحنقباضية» تصيب رسامى الكاريكاتير فقط، وإنما أيضا تصيب غيرهم من الأفراد والجماعات بل الشعوب أيضًا.. خذ مثلا الشعوب التى تعتقد فى قرارة نفسها أنها كلما ضحكت كثيرًا ولذلك تجدها إذا ضحكت تقول: «ربنا يجعله خير».

وينهى صلاح جاهين مقاله الساخر الممتع بقوله: «أخوكم العبد الفقير فى مرحلة الانقباض الآن».. انتظر يومًا أن تزول وتحل محلها الأخرى فلم تفعل! أنتظر يومًا آخر فلم تفعل!

انتظر أسبوعًا، أسبوعين، ثلاثة فلم تفعل! لماذا؟! لأنه يبحث عن شقة».

ويظل صلاح جاهين برسومه المدهشة والبديعة واحدًا من أنبغ وأمهر من أمسك بالريشة يسخر من عيوبنا الاجتماعية، فيثير دهشتك ويرسم على شفتيك ابتسامات لا نهاية لها!