الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
يحىى حقى وسنوات رئاسة التحرير!

يحىى حقى وسنوات رئاسة التحرير!

ربما لا يعرف أبناء هذه الأيام من شباب الصحافة أو حتى القراء الذين يقرأون للأديب الكبير «يحيى حقى» أو شاهدوا له فيلمى «البوسطجى»، و«قنديل أم هاشم» المأخوذين عن أعمال له بالاسم نفسه، أنه كان رئيس تحرير من طراز فريد عندما رأس تحرير مجلة «المجلة» من مايو سنة 1962 وحتى أواخر عام 1970.



كانت مجلة «المجلة» واحدة من أهم المجلات الأدبية والثقافية فى حياتنا وساهمت فى اكتشاف أجيال جديدة من الأدباء الذين أصبحوا فيما بعد من نجوم الكتابة.

 

وطوال سنوات رئاسته لتحرير «المجلة» - حوالى ثمانى سنوات - كان يستقبل عشرات «الموهوبين» أو «الموهومين» بالكتابة وله معهم حكايات ونوادر حرص على تسجيلها فى كتابه الممتع «أنشودة البساطة» الذى صدر عام 1972 - من نصف قرن - ويضم مقالاته فى مجلة «المجلة»، ويحكى قائلاً:

«قرأت أخيرًا قصيدة من إنتاجنا الحديث فلم تترك فى نفسى أقل أثر، «مفرفطة» جىء فيها بالحجارة المنتقاة المشطوفة ورصت على الأرض بنظام، ولكن لم يقم منها بناء، المعانى واضحة جدا.. والكلمات سهلة.. إنها تقول شيئًا، ولكن لا تنم عن شىء، يجب أن تضع أذنك على صدرها لتتأكد أن لها قلبًا وأنه يخفق، وأن لخفقانه إيقاعًا، لم أشعر أننى أحتاج إلى تلاوتها مرة أخرى، ماتت من القراءة الأولى، هى فى ذاتها.

وحكاية أخرى أكثر طرافة ودلالة يرويها الأستاذ «يحيى حقى» قائلاً:

وقرأت أخيرًا قصة قصيرة من إنتاجنا الحديث أيضًا، فأحسست منذ السطر الأول أننى محكوم علىّ بالأشغال الشاقة المؤبدة فى سجن طرة، لا أقطع الزلط فحسب، بل أمضغه أيضًا، الكلمات هى التى تبظ وليس عينى، ثمرة قشرتها من ألف راق غليظ صلب، ونزع كل راق يتطلب مطرقة وجهدًا من عضلات العقل والذراع!

الاستعارات والتشبيهات، مخطوفة غدرًا، والخاطف - على خلاف قرنائه - يجمع كل الاختصاصات: فتح الخزائن، تسلق مواسير المياه، والقبض على الدجاج، وتعبئة الغسيل من على الحبل ولم يجف بعد، ولم الحلل النحاسية ولو بزفارتها، ونشل المحافظ وأقلام الباركر، و«تدلية» التليفزيون والراديو والنجف من الشباك، حقًا إن بيته عجب، فشر محل «عمر أفندى» مخزن لبضاعة غالية محال تستيفه!

 

الغلاف
الغلاف

 

أما الكلمات فاجتماع خصوم فى قيد واحد، كل لفظ يئن من الإرهاق، مكتف بأغلظ الحبال، وكل معنى يصرخ طالبًا الحرية، والانفكاك من الدور المفروض عليه قسرًا، رجل فيلسوف يقوم بدور المهرج، ورجل مهرج يقوم بدور الفيلسوف.

هذا كاتب يفحت بئرًا للبحث عن ماء يرتوى منه، سحره هبوطه شيئًا فشيئًا فى أغوار الأرض، فإذا به قد نسى الماء وانتشى بالفحت وحده! أصبح الغوص همه الوحيد، وانقلب الهم إلى لذة مرضية، وبدلاً من أن يهتف لنا وهو غائص درجة بعد درجة بشراكم، قد اقتربت من الماء، كان هتافه صبرًا لايزال بعد العمق عمق.. انظروا إلى جمال باطن الباطن!

ومع ذلك أحسست أننى لابد من أن أقرأها مرة أخرى، فهى تتحداك، وهذا هو جواب التحدى!

فى المرة الثانية هو رجل يريد أن يحكى لى حكاية ونحن نسير معًا فإذا به لا ينطق بكلمة حتى يستوقفنى بشد ذراعى و«نخس» كتفى بإصبعه وخبط بطنى بكوعه وجذب تلابيبى بيده ويقول:

- اصح، انتبه، افتح عينيك وأذنك، وخذ بالك من هذه الكلمة، وقارنها بالتى قبلها، وتهيأ لتلقى التى بعدها، وإياك أن تغفل عن الخيط غير المرئى الذى يخرج منها، ليتطوح فى الهواء مسافة أربع صفحات، ليسقط على كلمة لاتزال عندك الآن فى عالم الغيب، ولكنك حين تمر بها ستعرف أنها مربوطة بالكلمة التى وقفنا عندها!!

هذا دأبه عند كل كلمة! أصبح المشوار سلسلة من الوقفات، فلا أنا أماشى مشيته، ولا هو يماشى مشيتى، حالة كان ينبغى «لبافلوف» - العالم النفسى الشهير - أن يدرسها أثناء بحثه عن الأمراض العصبية وردود الفعل المشروطة وغير المشروطة فى إنسان جعله هذا العالم النفسانى مادة بلا نفس!

رفضت القصيدة ولم أرفض القصة، لأن الانحراف إلى طريق العمق لايزال أشرف عندنا من الانحراف إلى طريق التزام السطح، ثم إن المبالغة فى الابتذال - وقد شاعت عندنا - تتطلب رد فعل لا يقل عنها مبالغة للوصول إلى الاعتدال، الابتذال يبسطك ولكنه لايحترمك، أما الأغوار فتحترمك ولكنها لا تبسطك، فأنت دائما تحتار: الانبساط أم الاحترام؟

قلت لصاحبى هذه القصة الوعرة وهو صديقى:

- إذا كنت أنا قد خسست خمسة كيلو بعد قراءتها، فلاشك أنك خسست عشرة كيلو على الأقل بعد كتابتها!

فكانت إجابته التى دهشت لها كل الدهشة وملأت قلبى بإحساس لا أدرى هل هو الإعجاب به أم الرثاء لخيابة تخمينى وسذاجتي!

- أبدًا، كتبتها بمنتهى السهولة!

ويعلق الأستاذ «يحيى حقى» بعد ذلك قائلا:

 

يحيى حقى
يحيى حقى

 

- حقا أنه جدير بأن يكون له ركب فى أحد متاحفنا، على شرط أن يوضع داخل بدلة حديدية من ساقه لرأسه كفرسان زمان!! قناعها يغطى وجهه أيضاً!

ويكون قابضاً بيده على مثقاب كبير من مخلفات مشروع الذى أرادوا به الوصول إلى قلب الأرض، ويكون هو واقفاً على قاعدة من الجرانيت الخام، لأسنانه الغليظة بريق سن الإبرة وشكتها، ويكون الدخول إليه بتذكرة يشترط فيها أن يبللها عرق!

وفى مقال بديع وممتع ودرس فى فن الكتابة عنوانه «لمن يكتب الكاتب»؟ يقول: 

لمن يكتب الكاتب؟! ليست هذه المسألة من قبيل الأبحاث النظرية التى لا نخرج منها بنتيجة عملية، فقد دلتنى تجاربى الذاتية أن محاولة الوصول إلى إجابة على هذا السؤال قد تفسر الغموض الذى يحيط ببعض الظواهر فى حركتنا الأدبية المعاصرة ونحار فى تفسيرها!!

دعيت ذات يوم أن أكتب فى مجلة التعاون «التى تزعم أن قراءها من الفلاحين أعضاء النقابات الزراعية، فخيل إليّ فى مبدأ الأمر الجمهور الذى سأحدثه قد تحول من عام إلى خاص، وأن هذا التحول يفرض عليّ أن أصنع أسلوباً يطابق فى ظنى عقلية الفلاح ولغته، فهممت أن أكتب مقالى بالعامية وأن أجعل كلامى يجرى قدر علمى على ألسنة الفلاحين، وأن أقطع الجمل، وأن أبسط الأفكار كأننى أخاطب قوماً بسطاء!

ولكن الذى صدنى عن هذه الحماقة صوت خفى فى قلبى همس لى:

- لا يجمل بك أن تجلس هؤلاء القراء منك جلسة التلاميذ الصغار أمام معلم يلقى عليهم الدرس من منصة عالية بلغة هابطة يتعمد أن يفهمهم بها أنه ينزل بها إلى مستواهم، لن يفسر الفلاحون عملك هذا إلا بأنه إهانة لهم سافرة!

إنهم لايعترفون بفارق بينك وبينهم، وحتى لو اعترفوا فإنهم يريدون أن يسموا إليك لا أن تنزل أنت إليهم، بل إنه لمما يسرهم أن تتيح لهم الفرصة لامتحان قدرتهم على الفهم!

إنهم يريدون منك أن تحدثهم كما تحدث بقية الناس لأنهم ليسوا بدعة بين الناس، إن مقالك المكتوب بالعامية وبلغة تتعمد البساطة سيقابل منهم بازدراء يمنعهم من فهمها رغم سهولتها، أما إذا حدثتهم كما تحدث بقية الناس فقد لا يفهمون كل كلمة فى مقالك ولكنهم سيفهمون قطعاً غرضك وما تهدف إليه أليس هذا قصدك؟!

صاننى هذا الصوت عن الوقوع فى هذه الحماقة! ونفيت عن ذهنى أننى أخاطب جمعاً من الفلاحين، وإنما جعلت همى الأول أن أهتدى إلى فكرة أعلم علم اليقين أنها تمس حياتهم وتخالط وجدانهم كما تخالط وجداني، وأدرت مقالى حولها!

ولما حملت مقالى إلى رئيس التحرير وحدثته بهواجسي، دهشت حين أنبأنى أن الأخبار التى لديهم تدل على أن قراءهم من الفلاحين يتأففون من كل مقال مكتوب بلغة الفلاحين ويزعم أنه يصطنع عقلية الفلاحين!

ولعل أهم درس خرجت به - شخصياً - من قراءة كتاب أنشودة البساطة هو قول الأستاذ يحيى حقى: «أقول لأصدقائى من ناشئة الكتاب قبل أن تشغلوا أنفسكم غاية الشغل بتأليف قصصكم وتجويدها أشغلوها قبل ذلك بتحريك قدرة الذهن على الفهم والروح على الإحساس! والفقر الذهنى والروحى ينعكس ولابد على حصيلة الكاتب».

المتعة كل المتعة أن تعيش مع إبداع «يحيى حقى» رحمه الله.