الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

على رصيف الانتظار

نهضت بصعوبة من نومها.. وكأنها تصارع عقارب الساعة، للحاق بأول اجتماع لها فى العمل.. لملمت أشياءها وارتدت ملابسها.. لم يُسعفها الوقت لتشرب فنجان قهوتها اليومى قبل نزولها من البيت.. نظرت فى ساعة يدها، لم يتبقّ من الوقت سوى ساعة إلا ربع على بدء الاجتماع.. استقلت تاكسى من أمام بيتها، لكنها لم تنتظر بداخله كثيرًا، فقد حاوطتها زحمة الطريق من كل مكان.. نظرت حولها تبحث عن طريق آخر تهرب منه، لكن للأسف كان الزحام يشتد أكثر فأكثر.. وكانت كل المؤشرات تدل على امتداده لساعات طويلة!



تشتّت أفكارها.. وبدأت تطقطق أصابع يدها من التوتر، وزفير أنفاسها يعلو مع كل دقيقة تمر عليها وهى داخل التاكسى.. حاولت أن تُهدِّئ من نفسها وتجد حلًا بديلًا تستطيع به الخروج من تلك الزحمة والوصول فى ميعادها.. وأثناء انخراطها فى التفكير، رأت على مرمى بصرها علامة «مترو الأنفاق».. فلم يكن أمامها سوى هذا الاختيار.. الأسرع والأوفر والمنجز فى الوقت.. نزلت من التاكسى ومشت مهرولة لمحطة المترو.

لم يكن فى حسبانها بأن أول يوم اجتماع لها فى العمل ستكون بدايته بهذا الشكل العصيب.. تجنبت أفكارها السلبية التى تشبه «زعابيب أمشير» وتقضى على بريق أملها من الداخل.. أكملت سيرها للمحطة.. وهى تضفر أفكارها من جديد وتهيئ نفسها بأن ما حدث كأن لم يكن بالمرة.. لكن لم تتسن لها الفرصة أن تكمل خطواتها المسرعة بسهولة إلى داخل المحطة.. فقد عرقلتها مجموعة من الناس يقفون على أمتار قليلة خارجها.. لم تنتبه لهم، بل حاولت المرور من بينهم للوصول لشباك التذاكر، لكنها فوجئت بمن يطلب منها بأن تقف فى آخر الصف، لأنها بذلك تخترق طابور التذاكر.. وقفت لثوانٍ تستوعب ما قيل لها!!..و نظرت خلفها، لتجد طابورًا لم ينته من الركاب تخطت حدوده خارج المحطة.. حاولت أن تنجو بنفسها منه وتتجنب الوقوف والانتظار فيه. 

لكنها للأسف سقطت داخل مصيدة الانتظار وكأنها كالفأر الذى لاقى مصيره المحتوم بعد أن فشلت كل محاولاته فى الهرب.. استسلمت للواقع الذى لا مفر منه، خاصة عندما رأت الطريق بجانبها لم يهدأ من كلاكسات السيارات المتراكمة بجانب بعضها.. فكان الانتظار حليفها هذا اليوم.

بدأت انفعالاتها تخرج عن السيطرة، إذا احتك بها أحد دون قصد فى الصف.. حتى وصلت لشباك التذاكر.. أخذت تذكرتها ودخلت المحطة، جلست تنتظر القطار، محدثة نفسها بتأفف، هل سينتهى اليوم عند هذا الحد أم يحمل لى المزيد من المفاجآت؟!.. فكان اليوم يسير عكس كل توقعاتها .. نظرت فى ساعة يدها مرة أخرى،لم يتبق على بدء الاجتماع سوى دقائق.. تمنت أن توقف عقارب الساعة عند هذه اللحظة، لتعيد يومها من جديد.. انتبهت لصافرة القطار قادمًا من بعيد..وقفت واستعدت له وكأنها تستعد لاستقبال دخول العروسين لقاعة الفرح.. ضحكت لسخرية الموقف بينها وبين نفسها وبدأت تأخذ وضع الركوب.

لم تعلم وقتها بأن الحياة لا تسير بالورقة والقلم مثلما نخطط لها.. فأحيانًا تفاجئنا بأشياء غيرمرغوب بها، تعكس بها دفة أحلامنا، وأحيانًا أخرى تلقننا دروسًا فى الحياة صعبة الاستيعاب.. لكن هذه المرة لم تكن على استعداد لتقبل أى شىء منها.. فكانت كالمحارب فى أرض المعركة، قرّرت أن تخوض معركتها اليومية بلا تراجع ولا استسلام.. فقد بدأت تأخذ مكانها فى الصفوف الأمامية بعدما تكدَّست المحطة بالركاب، وبمجرد أن فتحت أبواب القطار كان ناقوس المعركة قد بدأ.. فهناك من يصارعون من أجل الصعود وآخرون يعافرون من أجل النزول فى مشهد صدامى مميت.. حاولت أن تجد لنفسها مكانًا وسطهم.. لكن كان الصدام أقوى منها حتى أطاح بها لدكة الانتظار.. قاومت وحاولت مرة أخرى الدخول فى الصراع معهم، ونسيت ما كانت تذهب إليه، فكان تركيزها منصبًا وقتها فى ركوب القطار، مهما كلفها ذلك من خسائر جسدية أو مظهرية.. فكلما اقتربت من الوصول لباب الصعود، تجد من يعرقل ركوبها ويسحبها للخلف ليأخذ مكانها، لتبدأ هى من جديد.. فقد حاولت مرارًا وتكرارًا، لكن للأسف كل محاولاتها باءت بالفشل.. وظلت فى هذا الصراع من الجذب والشد.. حتى أغلق القطار بابه وذهب.

وقفت على الرصيف تنظر إليه وهو يرحل، وكأنها تودع حبيبها وداع المطارات .. رغرغت عيناها تحت نظارتها الشمس وتذكرت بالفعل حبيبها الذى لم تره لسنوات.. انتبهت لهدوء المحطة من حولها، بعدما انفض الجميع منها.. ووجدت نفسها تقف بمفردها على الرصيف وعيناها لاتزالان على القطار حتى اختفى تمامًا فقد بدأ الملل والإحباط يسيطران عليها من جديد.

ذهبت وجلست على دكة المحطة تنتظر القطار القادم، مثلما تنتظر حبيبها الذى اشتاقت إليه، يعود من الخارج.. فلاتزال تتذكر أول لقاء بينهما، كان أشبه بالقطار المستعجل.. لم تشبع من رؤياه.. فقد تعاهدا على اللقاء مجددًا.. فرغم غياب القطار حتى الآن، فإنه لايزال دايب فى قلبها ويشغل دائما عقلها ويملأ روحها من الداخل.. فكلما حاولت الهروب من انتظاره تجد نفسها تسقط أكثر فى شباكه.