الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
المازنـى ونـزوة روزاليوسـف!

حكايات صحفية

المازنـى ونـزوة روزاليوسـف!

عندما قررت السيدة روزاليوسف إصدار مجلة «روزاليوسف» لم يكن معها سوى صحفى محترف واحد هو الأستاذ «محمد الناجى» الذى كان وقتها موظفًا فى مجلس النواب ويكتب النقد الفنى لجريدة الأهرام بإمضاء «حندس» 



وبدأت روزاليوسف تحاول إيجاد حل لمشكلة عدم وجود محررين لمجلتها!

 

تقول روزاليوسف: اقترح زكى طليمات.. زوجها فى ذلك الوقت - أن نستعين بمقالات من كبار الكتاب والصحفيين المعروفين لندخل فى روع الجمهور أن هؤلاء الكتاب فى هيئة تحرير المجلة تحقيقا للرواج المنشود!

واستطعنا أن نجمع مقالات لعدد لا بأس به من كبار الكتاب فى ذلك الوقت مثل إبراهيم رمزى ومحمد لطفى جمعة وزكى طليمات وحبيب جاماتى وأحمد رامى ومحمد صلاح الدين - الذى أصبح فيما بعد وزيرًا للخارجية فى آخر حكومة وفدية».

 

 

 

ولم يكن الأمر سهلاً على السيدة روزاليوسف وعلى حسب قولها: «رحت أستجدى المقالات من كبار الكتاب فمنهم من كان يعدنى المرة بعد الأخرى كالأستاذ «المازنى» الذى ذهبت إليه أكثر من عشرين مرة لأحصل منه على مقال!!

وكان هؤلاء الكتاب والشعراء جميعًا يكتبون بغير أجر.. إلا أن يساهموا فى إقامة بناء مجلة للأدب والفن.. أما نحن أسرة التحرير الأصلية فقد كنا نعمل أيضًا بلا مكسب ولا أجر وبلا راحة أيضًا».  

وهكذا صدر العدد فى 26 أكتوبر سنة 1925 متضمنًا هذه المقالات ومن بينها مقال غريب وعجيب كتبه الأستاذ «إبراهيم عبدالقادر المازنى» بعنوان «روزاليوسف» يسخر فيه من السيدة روزاليوسف وإقدامها على إصدار مجلة وينصحها بأن تترك الصحافة وتعود لخشبة المسرح!

وكان من رأى البعض وقتها عدم نشر مقال المازنى لما فيه من سخرية جارحة، لكن السيدة روزاليوسف المعروفة بعنادها الشديد قررت نشر المقال كاملاً بل والرد عليه أيضًا فى نفس العدد من المجلة!

وجاء مقال الأستاذ المازنى على النحو التالى:

«روزاليوسف» - كما يعرف القراء - اسم سيدة أحالته صاحبته - كما يرون الآن - اسمًا لمجلة ورمزًا لمعنى تحاول أداءه، وعنوانًا لسعى تعالج أعباءه وأنها لنقلة عسيرة! وأحرى بمن يعرف روزا الممثلة النابغة أن يتعذر عليه أن يجرد اسمها من الحواشى المادية وألا يقرنه فى ذهنه إلا بالمعاني! بل أحرى به أن يسأل نفسه: أيهما خير للفن: أن تبقى «روزا» ممثلة أو أن تستحيل مجلة وتنقلب كاتبة، وبعبارة أخرى أعم: أيهما أفضل وأجدى فى النهاية على الفن والجماهير أن يشتغل بالتمثيل من له استعداد له، وقدرة عليه، وخبرة به ومواهب تكفل له النجاح فيه، أو أن يزاوله مزاولة نظرية بالقلم على الورق ويزج بنفسه فى مجال الكاتب، ولا أعنى بالقلم على الورق تأليف الروايات ووضع القصص أو ترجمتها، وإنما أعنى نشر الدعوة إلى الفن وشرح أصوله والنقد المسرحى وما إلى ذلك مما يتصل به!

ويكمل الأستاذ «المازنى» قائلاً: وأوجز فأقول أنى لست ممن يعتقدون أن الممثل البارع يمكن أن يكون فى كل حال كاتبًا بارعًا، أو أن ما يوفق إليه المرء فى باب من الأبواب يمكن أن يوفق إلى مثله فى أى باب آخر يخطر له أن يطرقه وأنه ليس عليه ألا يريد ويدأب ويروض نفسه.. كلا!! فإن لكل فن مواهب وملكات لا تكاد تجدى فى غيره.. وقد يغلط الناس أحيانًا أن يروا بعض الملكات مشتركة بين الفنون المختلفة!

ونضرب لذلك مثلاً الخيال: ما بأديب أو عالم غنى عنه! وأعنى بالأديب أو العالم الفحل لا أولئك الحفاظ الذين هم أشبه بالأحواض التى تمتلئ بما يصب فيها!

 

 

وغير خاف أن الخيال لا معدى عنه فى العلم كما لابد منه فى الأدب..

ويمضى الأستاذ المازنى فيضرب بعض الأمثلة على ما يقول إلى أن يضيف: ولنتصور أن كل فنان آثر خدمة فنه بالقلم! ولنفرض مثلا أن المصورين هجروا ألواحهم وألوانهم واعتاضوا عنها بالقلم والمداد، وأن الموسيقيين انصرفوا عن آلاتهم وعن ألحانهم وضربوا فى زحمة الكتاب! كلا إنما يخدم كل فن من طريقه، ولو أن كل ما كُتب عن الموسيقى والتصوير والحفر والتمثيل وغير ذلك أشعلت فيه النار لما خسرت الدنيا شيئًا ولا ارتدت هذه الفنون خطوة واحدة إلى الوراء!

ولقد نشأ المسرح قبل أن تنشأ الكتابة فيه، ونبغ المصورون والمثالون قبل أن يعرف أصول ذلك! ومضت أنغام الموسيقى واخترعت آلاتها قبل أن يدرس الصوت!  

بعد ذلك يتوجه المازنى بكلامه إلى السيدة «روزاليوسف» قائلاً: إذن لماذا تعالج السيدة «روزا» فنًا غير الذى خُلقت له وهيأت له فطرتها أسباب النجاح فيه لا أدرى؟! فلعلها نزوة! وعسى أن تكون قد جاشت نفسها بإحساسات قوية غامضة - كما يحدث لنا جميعًا - فاندفعت تبغى الإفضاء بها والكشف عنها والترفيه عن نفسها عن طريق ذلك، أو لعلها ملت أن تظل عمرها تحيا على المسرح غير حياتها، وتلبس خلاف مواطنها وخوالجها وآرائها، وتجرى بلسانها بما يوضع عليه فاشتاقت من أجل ذلك أن تنضو كل هذه الثياب المستعارة وأن تبدو لنا كما هى على الحقيقة لا على المجاز!

ولعلك لو سألتها فى ذلك لما درت كيف تقول فى تعليل هذا الذى أقدمت عليه وشرعت فيه! وأين ذاك الذى يحسن أن يدير عينيه فى نفسه حتى ليقف على أخفى البواعث على ما يأتى وما ينذر.. لا أحد فيما أظن!

وأحسب أن من قلة الذوق أن تكون هذه كلمتى إليها فى أول عدد من مجلتها ولكن عذرى أنى أشد إعجابًا بفنها وأعظم ضنًا بمواهبها من أن تطاوعنى نفسى على تشجيعها على مهاجرة المسرح والانصراف إلى الكتابة، وفى مرجونا ألا تعدم وسيلة للتوفيق بين رغبتها هذه وبين حق الفن عليها!

واختتم المازنى مقاله بسطر يقول فيه:هناك إذن على المسرح مجالك يا سيدتى فارجعى إليه، وإذا أبيت إلا المجلة فلتكن سلوى  لاشغلانًا!!».

ولم تسكت السيدة «روزاليوسف» وتحت عنوان «كلمة السيدة روزاليوسف» على مقال الأستاذ «المازنى» جاء ردها حاسمًا قويًا بلا مجاملة فقالت:

«للأستاذ» «المازنى»  شكرى الخالص على ما أبداه من عناية بى فى مقاله الظريف الذى صدرت به صحيفتى، وأنى لطاردة عنه ما يوجس خيفة منه فأصرح له أنى فكرت يومًا فى أن أهجر التمثيل، وإذا كنت اليوم بعيدة عنه فلأن جوه هذا العام محمل بأنفاس ثقيلة، ولكن للباطل جولة وللمرض شدة وللعاصفة عنف، ثم يأتى الحق ويشرق السلام.

وأؤكد للأستاذ العزيز أنه لا صلة بين تركى المسرح الذى كنت أشتغل فيه وإصدارى هذه الصحيفة، فإن فكرة هذه الصحيفة اختمرت فى رأسى منذ أمد بعيد، ويعلم الأخصاء أنى بدأت فى مباشرة إعدادها قبل أن أعتزم ترك ذاك المسرح، ولكن الأستاذ لا يريد إلا أن يسميها نزوة! لتكن كذلك!

أعتقد أن كل عمل مجيد يكون فى أوله نزوة طارئة ثم يستحيل إلى الفكرة، فإذا رسخت أصبحت يقينًا فجنونًا، كذلك كان حالى مع فنى الجميل!

كنت لم أتجاوز الرابعة عشرة حينما خطر لى أن أمثل، وكانت تربطنى صلات مع أصحاب تياترو شارع عبدالعزيز، ذهبت يومًا إلى هناك وانتقيت فستانًا من المخمل الأسود الموشى بالقصب، والترتر ثم رجعت إلى منزلى الصغير بالفجالة وهناك أسدلت شعرى على أكتافى وخططت وجهى بألوان فاقعة بعد أن ارتديت هذا الفستان الذى كانت تلبسه سابقة ممثلة دور «مارى تيودور»، وكان له ذيل طويل يحسن كنس المسرح، ثم خرجت إلى الطريق أتهادى فى جلال ملكات الخيال، اجتزت شارع الفجالة، فكلوت بك فميدان العتبة الخضراء حتى التياترو.. تبعنى نفر من الناس كما أننى أحسنت كنس الشوارع بذيل فستانى «الخفافى».. لم أنتبه إلى كل هذا إذ كان كل ما يعمر رأسى أنى أسير فى ثياب الملكة مارى تيودور.

أليست هذه نزوة يا أستاذى العزيز.. هى كذلك!!

وبعد فترة قصيرة من تحول «روزاليوسف» من مجلة فنية أدبية إلى مجلة سياسية اشتبكت روزاليوسف مع المازنى ووصل الأمر إلى المحكمة وتقول: «من القضايا التى لا تبرح خاطرى قضية رفعها ضدى الأستاذ «إبراهيم عبدالقادر المازنى» وكان يكتب فى «السياسة» لسان الأحرار الدستوريين والجريدة التى كنا مشتبكين معها فى صراع عنيف، وهاجم المازنى «الوفد» مهاجمة شديدة قابلناها بأحسن منها، وحملنا عليه حملة عنيفة لم يحتمل فأسرع يقدم بلاغًا ضدى إلى النيابة!

ورأت النيابة أن البلاغ ليس فيه شيء يعاقب عليه القانون فحفظته، ورفع المازنى دعوى جنحة مباشرة أمام محكمة عابدين، فحكم القاضى بالحبس خمسة شهور وغرامة خمسمائة جنيه مع النفاذ! وقبل أن يقبض البوليس عليّ ليودعنى بالسجن تنفيذًا للحكم، دفعت الرسوم للاستئناف، وصدر حكم الاستئناف بالبراءة.

وللحكاية بقية