الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
كلام فى التجديد بمناسبة العام الجديد

كلام فى التجديد بمناسبة العام الجديد

على أبواب العام الجديد ما زالت سلسلة من التساؤلات عن أخبار تجديد الخطاب الدينى مطروحة بقوة.. بلا إجابات حتى الآن.. وبلا نهايات قاطعة حتى تاريخه.



ما زال التجديد محل اختلاف.. وشد وجذب.. وأخذ ورد.. وفى النهاية ما زال التجديد «محلك سر».

للآن يظهر أن الذين ننتظر منهم التجديد، إما أنهم لا يعرفون ما الذي نعنيه بالتجديد.. أو لا يعرفون ما الذي تحتاجه مجتمعاتنا من أشكال تجديد.. أو ربما ما زالوا لا يعرفون أن مجتمعاتنا فى حاجة إلى تجديد من الأساس.

 

ما زالت النظرة السلفية مسيطرة على من يفترض فيهم التجديد. والتجديد يعنى خلع رداء السلفية، وإلقاءه على الأرض بعيدًا.. بنظرة للمستقبل وطلبًا لرؤى أكثر حداثة لخطاب الدين.

السؤال المهم بمناسبة العام الجديد: لماذا وافق مشايخنا وأقروا حاجة المجتمعات الحديثة للتجديد.. وقالوا إنهم أهل له.. ووعدوا.. ثم قالوا إنهم الفعل بدأوا.. ثم عادوا وتراجعوا.. وبدوا أنهم صرفوا النظر عن كل ما وعدوا به.. ورجعت ريما..

مواقع التواصل مليانة بالأفكار المتشددة.. ومواقع الفتوى للمؤسسات الدينية مليئة بإسلام الطقوس، وأسئلة عن دخول الحمام بالرجل اليمين أو الرجل الشمال بعيدًا عن الأصول.. وبعيدًا عن روح الدين.

ما زال بعضهم فى الطريق المضاد لمطالب المجددين. ما زال المشايخ يعقدون الثورات فورًا، وينصبون المشانق ليلًا كى يعلقوا عليها رءوس المجددين فى الصباح.

ما زال مشايخنا يتكلمون عن التراث بنبرة احترام، ومهابة تقديس، رغم أن لا التراث كله مقدس.. ولا كله ينفع أن نسترشد به.. ورغم أن ليس كل التراث من الدين.

(1)

ما الذي تطالب به دعوات التجديد مما يخرج عن الدين.. أو يخرج الدين عن صحيح الدين؟

هل غلط مطالب إعادة فتح باب الاجتهاد؟! هل الخطأ فى إعادة النظر إلى قضايانا الإسلامية.. وأحكامنا الشرعية.. بما يتناسب مع الظروف وتغيير المجتمعات؟

هل مطالب المجددين فى إعادة فحص السُنّة.. أو إعادة التثبت منها خطيئة من الخطايا وإثم كبير على قوائم الإثم؟

لم يطلب المجددون سوى إعادة النقاش فى ما يصر المشايخ على أنه «معلوم من الدين بالضرورة». 

لماذا؟

لأنه لا أحد يعرف، للآن، ما المقصود بالمعلوم من الدين بالضرورة،  ولا من الذي جعله معلومًا،  ولا من الذي استوجب ضرورته! لا أحد يعرف – للآن أيضًا – وهذا هو أصل المشكلة، ما هى بالتحديد أسباب امتداد المعارك بين المؤسسات الدينية وبين طوائف المجددين بدايةَ من زمن الإمام محمد عبده وانتهاء بعصر الجزائرى محمد أركون.. أو السورى محمد شحرور ومحمد جابر الأنصارى؟

أبسط مطالب التجديد للآن، هى وجوب إعادة فتح باب اجتهاد قال المشايخ إنه أغلق. لكنهم فى الوقت نفسه لم يقولوا من الذي أغلقه.. ولا ما معنى إغلاقه؟

يرى كثير من الباحثين أن أكبر أسباب الصدام بين المشايخ ومجتمعاتهم فى الميل ناحية الأشعرية.

الأشعرية ليست مذهبًا.. لكنها طريقة تفكير. ليس عيبًا لو وصفنا الأشعرية «بالنظرة الضيقة».. أو لو وصفها آخرون بأنها «نظرة لابد من إعادة النظر فيها». 

لو أصبنا لنا أجران.. ولو أخطأنا فلا يمنعنا أحد أجر الاجتهاد.

لكن الأشاعرة يرون أنهم الوسطيون.. أو هم الوسطيون الوحيدون. لكن هذا ليس صحيحًا. الصحيح أن الأشعريين سلفيون.. يعظمون التراث.. ويقدسونه.. ويتعبدون فى محرابه، فلا يفتحون الباب، ويحرمون فتح النوافذ، ويفردون الأسلاك الشائكة.. فلا يمنحون الفرص لأى محاولات تنقية.. ولا لأى مداولات نقاش.

التراث أشكال وألوان.. أوله النقل.. بلا فحص. النقل عن الأولين.. النقل عن المسلمين فى عصور الإسلام الأولى.. نقل الأحكام ونقل الاجتهادات.. ونقل وجهات النظر فى مشكلات المسلمين.

لذلك يبقى أول سؤال فى طريق التجديد: هل يصح أن يظل للآن، فى عصور الإنترنت والآى باد والمعلومات المتاحة والأرضيات المعرفية الواسعة، أن يظل النقل قبل العقل؟

أم أن الصحيح، أن يسعى المسلمون لأن يعيدوا المعادلة، ويعيدوا الصياغة، بحيث يأتى العقل فى مكانه الصحيح.. قبل النقل؟ هنا مربط الفرس.. إذ يصر الأشاعرة على اعتبار «العقل» فى خدمة «النقل» مهما تغيرت العصور، ومهما طرأت المستجدات.

(2)

النقل هو كل ما ورد أو نسب إلى عصر المسلمين الأوائل.. وعصور الصحابة والتابعين.

والمقصو د بـ«كل ما ورد» هو كل ما وصل إلينا راكبًا على ظهر الزمن من سنن نبوية، وأفعال واجتهادات الصحابة فى تفسيرات القرآن الكريم وأحكامه.. وتطبيقاته.

فى الإسلام مرونة لأنه أنزل للعالمين. لم ينزل الإسلام لأهل عصر ما أو زمن بعينه. أكثر أسباب المرونة سنة الله فى كونه بتغير المجتمعات، وتلاحق الأزمان مع ثبات النص الكريم.. منح الله تعالى لنصه الكريم مرونة تستوعب الأزمنة والتغيرات ومشاكل المجتمعات الإسلامية التي تختلف حلولها ومتطلبات أحكامها الشرعية عن حلول واجتهادات الصحابة فى عصور المسلمين الأوائل. التعامل مع مرونة النص ومرونة الأحكام فى كتاب الله بإعادة الاجتهاد أول وآخر مطالب المجددين.

(3)

منذ عصر الخليفة المتوكل (عصر الاضمحلال العباسى) سيطر النقل على الدين. رفض الفكر الأشعرى أى مطالبات بإعادة تقييم «المنقول».

المنقول يبدأ من أول اجتهادات الأوائل فى الأحكام الشرعية لحلول المشكلات.. وانتهاء بإعادة فحص ما يتداول من سنن وأحاديث منسوبة للنبى (ص). 

منذ نشأة علم الفقه فى القرن الثانى الهجرى، حتى الآن، لم يحدث أن تعدى الفكر الأشعرى اختيارات وترجيحات بين آراء الصحابة أو التابعين فى العبادات أو فى المعاملات.

لا يختلف الفكر الأشعرى عن الفكر السلفى كثيرًا. فالأخير اعتبر المسلمين الأوائل هم الإسلام.. واعتبر اجتهاداتهم فى تفسير القرآن الكريم «الباترون الرسمي والسماوى» للاجتهاد.. بصرف النظر عن الظروف وبصرف النظر عن المستجدات.

الأشعرية مثل السلفية

 أرست الأشعرية القواعد لإسلام ضيق.. ورسخت لعقيدة «سمعية نقلية» تحتفى بظاهر النص.. وتحتفل بأقوال الصحابة.. وتعتمد على النقل.. وعلى التراث.. وعلى كل ما وصلنا منه.. بتسليم كامل.. وتقديس هائل.. بلا عقل ولا فحص ولا قدرة ولا رغبة على إعادة النظر.

ضيقت السلفية الدين، وفعل الأشاعرة الأمر نفسه. فما الفارق بين أفكار سلفية شددت فى التناول والطرح.. وبين أشعرية ضيقت فى المفهوم والإدراك؟!

(4)

هل نخطئ لو قلنا إن طرق التعاطى مع الأحكام الشرعية المقصورة على الماضى هى التي كانت سببًا فى فهم مغلوط للدين، وأن تلك الطرق فى التعاطى كانت السبب فى الذين قَتَلوا وذََبََحوا واستباحوا الأموال واغتصبوا النساء وطلبوا السلطة ولو على دماء الشعوب.. بفهم خاطئ للنص، وتأويل قاصر لآياته وأحكامه؟

هل غلطنا لو قلنا إن هذه الأفكار كانت هى المسؤولة عن تحويل الإسلام الرحب المتسامح من عقيدة واسعة إلى نصوص منقولة بالتواتر والعنعنات؟

هل غلطنا لو استرجعنا الشواهد، ودعونا بعضنا بعضًا، وجلسنا نتداول بالحوار، والرأى الهادئ، من كان سببًا وعائقًا في منع الدين من التطور، ودخل بأحكامه الكريمة مناطق مظلمة.. لعبت فيها ثعابين الإخوان، وتنانين داعش، وديناصورات القاعدة.. فعَلّبت الإرهاب وسفك الدماء والصراع على السلطة والتجارة بالدين فى علبٍ ملفوفة بسلوفان مفضض.. وقتلت به باسم الله، وحرقت بسنة رسول الله.. ثم عادت لتقول إنها أوامر الله؟

كلام.. لا يرضى الله. 

لا أحد يعرف كيف وصل الأمر بالأشعرية إلى معاداة العقل؟ كيف وصل الأمر بالإمام الغزالى إلى أن نفى السببية فى الظواهر الدنيوية؟

كما لو أن الإمام الغزالى قد توصل إلى أن الحل لإرضاء الله، هو الاعتقاد فى ضرورة إيقاف سلطة القوانين الربانية التي وضعها الله فى الكون للذين يتدبرون.. ويتفكرون.. ويفقهون طمعًا فى بركة الله!

 معنى نفى السببية؟ 

يعنى كثيرًا. يكفى أنها إشارة إلى طريقة تفكير، ويكفى أنها دلالة على طريقة تعاطى غير عقلية مع قوانين الدنيا.. ونواميس الله فى خلقه.. وقوانين الله فى كونه. 

قبل الإمام الغزالى نفى الأشاعرة إرادة الإنسان الكاملة عن أفعاله. نفوا قدرة البشر على الخير والشر. ينفون قدرتنا على الاختيار، مع أن تلك القدرة هى أساس التكليف فى كتاب الله «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». 

وصلت الأشعرية بالإمام الغزالى إلى أن أوقف حدوث الأحداث على أسبابها، بعدما أرجع أسباب حدوث الحوادث إلى إرادة الله. قال الإمام الغزالى إن الإنسان يفعل لأن الله يريد.. وأن الإنسان غير قادر على الفعل وحده.. وغير مختار.. مع أن كتاب الله الكريم يقول: «وما كُنّا مُعَذّبين حتى نبعث رسولًا».

فى التاريخ محطات كثيرة وكبيرة خنق فيها الأشاعرة العقل ووضعوه فى أركان ضيقة. على مر التاريخ تمسك الأشاعرة باعتبار العقل دائمًا مضادًا للنقل، لذلك اعتبروا  التفكير فى الدين حرام.. وأقروا أن الإيمان تسليم.. ولا يَسأل المؤمن.. ولا يُجادل! 

طيب.. هل ده كلام؟!

(5)

فى عصور الازدهار الإسلامى، كان الفكر الاعتزالى النقدى هو الغالب.. وظل الإسلام مختلفًا بين الاثنين.. بين المعتزلة والأشاعرة. وظل الصراع ملتهبًا.. ومستمرًا بين الاثنين أيضًا.

فى العصر العباسى الثانى (عصر الاضمحلال والضعف) أخذت الأشعرية على عاتقها رد المساحات الواسعة للحرية الإنسانية التي ناقشها المعتزلة واكتسبوها. رد الأشاعرة تلك المساحات إلى مناطق محدودة.. بعدما حاول المعتزلة البرهنة على قدرة الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، وبعدما حاول العقلانيون المسلمون التأكيد على أن سلوكيات البشر نابعة من إرادتهم هم.. لا من تقدير الخالق ومشيئته.. وإلا لماذا يحاسبنا ربنا يوم القيامة على ما فعلنا؟ وإلا على أى أساس يثبنا على خير.. ويعاقبنا على شر؟ 

لو شاء الله لأنزل الإسلام أشعريًا. لو شاء الرسول (ص) لنص على أن الأشاعرة هم ورثة الأرض.. وورثة الأنبياء.. وأصحاب الرسالة.. وهم وحدهم المسلمون.

للآن يصر الأشاعرة على اعتماد أقوال الصحابة ومسانيد التابعين «أصلًا دينيًّا» فى فهم الإسلام وأحكامه. أضافوا هذا المفهوم، مع الوقت، للفقه الإسلامى، الذي تطور، على يد المتأخرين منهم ووصل إلى اعتبار مسالك المسلمين الأوائل هى الإسلام.. وأن اجتهاداتهم هى صحيح الدين.

ما الذي لا يجعل الأشاعرة..  وفق هذا الكلام  سلفيين؟! ما الذي يجعلنا نرفض النظرة إليهم باعتبارهم هكذا؟! 

للآن يرى الأشاعرة أن مذهبهم «وسطى هادئ متعقل، لا هو معتزلى متطرف، ولا هو شيعى غنوصى» .. وهو بصراحة كلام نصفه فقط صحيح. صحيح أن المذهب الاشعرى ليس شيعيًّا غنوصيًّا، لكن وصفه بأنه «وسطى هادئ متعقل».. يظل كلامًا فيه كلام!

نظرة الأشاعرة لأنفسهم تبقى دائمًا .. مخالفة ومناقضة لما أحدثوه فى الفكر الإسلامى.. لذلك يستمر الصراع بين العقلانيين المسلمين.. المطالبين بالتجديد صونًا للدين.. وطلبًا للمصلحة.. وبين تشدد بعض من نصّب نفسه حارسًا على الدين.. بلا سند من الله.. وبلا مقتضى من الكتاب الكريم.