الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تاريخ قهاوى مصر

«قهوة عبدالله» النجوم على الرصيف!

ميدان الجيزة
ميدان الجيزة

غيرت كورونا كثيرًا من مَظاهر الحياة التى عرفتها شعوب العالم، وفى مصر، تغيرت عادات رواد المقاهى، واختفت سحب الدخان بعد منع الشيشة خوفًا من الوباء. 



ولم تعد مُشاهدة الزحام المعتادة داخل المقاهى مثلما كانت قبل الفيروس، كل ذلك يعد دافعًا لاسترجاع تاريخ المقاهى الشهيرة فى مصر وحكاويها. 

المقاهى فى مصر تاريخ وسياسة.. خرجت من المقهى حركات التحرُّر الوطنى.. وتحولت بالزمن إلى نوادى مثقفين وحكايات ونوادر «ريش» كانت خير شاهد على 100 سنة ثقافة وظهرت إستامبينوس بوصفها نموذجًا للقاهرة الكوزموبوليتانية. فى الندوة الثقافية حياة, أما مقهى عبدالله الشهير بالجيزة، فكانت قبل أن تتلاشى معالمها ملفًا كاملاً لمرحلة ثقافية سياسية من تاريخ مصر زمان. 

هذه قصص من المقاهى المصرية وتفاصيل مستعادة تُروَى.

 

نجح مقهى «محمد عبدالله»، الذى كان يقع بميدان الجيزة زمان، فى تحقيق شهرة تضاهى شهرة مقاهٍ تاريخية عديدة لأسباب مختلفة، أهمها رواده نجوم الفن والثقافة المصريون فى الأربعينيات والخمسينيات؛ نظرًا لوجود المقهى فى إحدى عمارات ميدان الساعة بالجيزة، ونظرًا لوقوعه فى منطقة وسط بين أحياء الدقى والمنيل، إضافة لقربه من جامعة القاهرة؛ حيث يسكن الأساتذة والطلاب.. كلها عوامل سهّلت على رُواده من أنحاء شتى أن يتلاقوا؛ ليسطع نجمًا فى دنيا المقاهى الشهيرة.

الحجاوى.. زعيم المقهى

لم يقع بين أيدينا مصدر يؤرخ لنشأة المقهى أو المبنى الذى كان موجودًا به، لكن معظم ما وُرد عنه يتحدث عن كوكبة من الرواد كانوا يلتقون عليه بحكايات ونوادر تستحق الرواية.

وقبل الحديث عن رواد المقهى وصفاتهم عُرف رواد مقهى عبدالله؛ زكريا الحجاوى زعيمًا وعمدة للمقهى؛ حيث كان يجلس ويحيطه شباب الأدباء والفنانين النجوم فيما بعد، منهم يوسف إدريس وسمير سرحان ومحمود السعدنى ورجاء النقاش وأحمد طوغان ونعمان عاشور وسيد مكاوى وصلاح عبدالصبور وصلاح جاهين، إضافة للرئيس الراحل أنور السادات فى شبابه.

كانت ندوات زكريا تتناول كل شىء وأحيانًا كان الذين يسترقون السمع من زبائن المقهى أكثر من رواد الندوة؛ الموضوعات شيقة، التعليم والصناعة والزراعة والأدب والفن والشعر والموسيقى والطب والقانون والسياسة، وحتى آخر النكت التى يتداولها الناس. وكانت السهرة كثيرًا ما تمتد حتى الفجر.  

عاش زكريا الحجاوى العبقرى- الذى نادرًا ما يتكرر-  فترات من حياته فى أدنى درجات الفقر والحرمان بسبب تفرده واختلافه عن الآخرين.

حكى رسام الكاريكاتير «طوغان» فى مذكراته كيف اكتشف زكريا الحجاوى، وذهب لمحمود السعدنى مبهورًا به؛ حيث انضم الثنائى لقعدة «الأستاذ» فى مقهى عبدالله.

وعَرف رواد المقهى فيما بعد أن «زكريا» يعول 8 أبناء لأخيه المتوفى الذى تزوج زوجته إضافة إلى زوجته و3 من أبنائه، وعمل فترة من حياته محررًا بجريدة «المصرى» رأس تحريرها الصحفى أحمد أبوالفتوح.. المصرى من أوليات الصحف التى ساندت ثورة يوليو وكان قادة الثورة يترددون عليها وتربطهم علاقة بأصحابها، والمسافة بين مبنى الجريدة ومنزل الحجاوى 12 كيلو يقطعها كل يوم ذهابًا وإيابًا بابتسامة صافية ونَفْس راضية مشيًا على قدميه لتوفير 6 مليمات ثمن تذكرة الترام.

من غرائب وعجائب زكريا الذى كان ظريفًا خفيف الدم والروح قصص وروايات لا تنسى كما يحكى «طوغان»: كنا فى سهرة فى بيتى بشارع شريف، عباس الأسوانى والسعدنى وإحسان عبدالقدوس وعبدالرحمن الشرقاوى ومحمد على ماهر والفنان محمد رضا، وكلهم كانوا ملوك الكلام، وعندما وقعت نكسة يونيو 67 وقعنا جميعًا فى الصدمة والإحباط والحزن الذى فتت قلوبنا وأذهل عقولنا، فيما كان زكريا صامدًا كالطود وتولى إزالة ما فى نفوسنا وقال إن ما حدث هو الضارة النافعة، مؤكدًا أننا سوف نعيد الأرض ونهزم العدو، وبعد ست سنوات تحقق النصر واستعدنا الأرض.

ينسب لعمدة قهوة عبدالله المعلم زكريا الحجاوى أنه أول من نادى بإنشاء قصور الثقافة، وأول من عمل على إنشاء معهد الفنون الشعبية ومن أنشأ الفرقة القومية للفنون الشعبية، وجاء بكثير من الفنانين الشعبيين من قرى ونجوع مصر وصقل مواهبهم حتى أصبحوا نجومًا فى سماء الفن الشعبى، على رأسهم الفنانة خضراء محمد خضر التى تزوجها ونصحه الرئيس أنور السادات بتطليقها فيما بعد.

لم تنته الحكايات التى وردت عن رواد المقهى؛ حيث يضاف اسم كل من الشاعرين صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى، وقيل إن مقهى عبدالله كان له قانونه الخاص؛ حيث أول من يصل من حقه الحديث دون انقطاع، لذلك أطلق على كثير من رواده «المكلمنجية»، ووصف الناقد الراحل رجاء النقاش قهوة عبدالله التى أغلقت أبوابها خمسينيات القرن الماضى بأنها لم تكن مكان لهو وتسلية وترفيه؛ بل كانت مكان علم وتثقيف من طراز فريد.

حكى رجاء النقاش فى هذه القهوة: كنا نسمع بالتفصيل خبايا النظريات الأدبية والفكرية الجديدة، وفيها كنا نسمع أجمل قصائد الشعر بعد ميلادها بلحظات وقبل نشرها على الناس؛ بل كنا نتعرف إلى المواهب الجديدة فى كثير من المجالات قبل أن يصبح أصحابها من النجوم الساطعة فى سماء الأدب والفن والصحافة.

ومثلما تعرّف محمود السعدنى على هذه القهوة إلى كبار الكتاب والأدباء والسياسيين؛ فإنها كانت مسرحًا لواحد من أهم كتبه «مسافر على الرصيف»، ولأن أنور المعداوى الناقد الشهير كان من رواد المقهى؛ فإن «السعدنى» عرض عليه باكورة أعماله الأدبية، وبعد نقاش دار بينهما، كشف «السعدنى» عن قدرات إبداعية متميزة.

الكاتب كمال زاخر، أفرد أيضًا مقالاً للحديث عن قهوة عبدالله فى يوليو 2014 حكى فيها عن الأديب المسرحى الكبير الراحل نعمان عاشور، الذى نقل المسرح المصرى من مربع الاقتباس والنقل عن الأدب العالمى إلى الغوص فى عمق المجتمع المصرى بقلم ساخر مغلف بالكوميديا التى تفتح الطريق إلى المتلقى ومعها قدر من العصف الذهنى الباعث للتفكير والبحث عن مخارج، بداية من «الناس اللى تحت» التى ترصد التحولات الاجتماعية التى صاحبت ونتجت عن ثورة يوليو 52، وتمتد إلى «الناس اللى فوق»، ثم «عيلة الدوغرى» و«بلاد بره» و«بحلم بمصر» وغيرها.

وفى موضع آخر، قال زاخر: عندما تطالع الكتاب يدهشك أن يقدم له الأديب والناقد رجاء النقاش الذى يقترب بالقارئ من مفاتيح شخصية نعمان عاشور، ومن المناخ الثقافى السائد فى جيله، ويفكك جدلية بساطة الإنسان وجرأة الفنان، وكيف استطاع أن يبدد خوفه فى قوة مشاهد مسرحياته المحملة بالرسائل التلغرافية للسُّلطة والتى تلخص أنات الشارع وأحلامه».

 

 

 

وأضاف: يقترب نعمان عاشور من عالم الرواد الممتد لنحو 15 شخصية من أعلام الأدب والشعر والصحافة والمسرح؛ طه حسين، إبراهيم عبدالقادر المازنى، إبراهيم ناجى، عباس محمود العقاد، محمد مندور، سلامة موسى، چورچ أبيض، نجيب الريحانى، محمود تيمور، محمود حسن إسماعيل، بيرم التونسى، مصطفى عبداللطيف السحرتى، زكريا الحجاوى، نجيب سرور، وأخيرًا صلاح عبدالصبور..ويحكى نعمان عاشور كيف تعرّف عليهم واقترب منهم، واجتمع ببعضهم على قهوة عبدالله فى الجيزة أو على «ريش» فى وسط البلد.

وعن مقهى عبدالله ومسامراته اليومية ونجومية رواده يقول زاخر: يدهشك أن هذه الندوات والتجمعات لم تكن تُعقد بقاعات الفنادق الفخمة أو المراكز الثقافية المغلقة بين النخب؛ إنما كان محلها رصيف الشارع الممتد أمام عدد من المقاهى فى أحياء شعبية.

ويتوقف زاخر عند ندوة قهوة عبدالله ساردًا ما ذكره نعمان عاشور فى كتابه بقوله: تعرّف نعمان عاشور على مقهى عبدالله بالجيزة عام 1936 بالمصادفة وهو يهرب من مطاردات «البوليس» لمُظاهرة لطلاب المدارس الثانوية اشترك فيها لدعم احتجاجات الجامعة وقتها.. ويصف نعمان عاشور المشهد: «ما كدنا نصل إلى ميدان الجيزة حتى قوبلنا بوابل من الرصاص، فلجأت بسرعة إلى أقرب مكان.. وكان قهوة عبدالله، فبقيت بداخلها مع بعض زملائى فى حماية جرسونها عم عبده حتى هدأت الحالة، ومن بعدها صارت المزار الدائم الذى أتردد عليه.. وفيها أقضى كل أوقات فراغى.

وتستمر علاقة نعمان عاشور اليومية بها بعد التحاقه بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها شهد لقاءات أنور المعداوى والدكتور كامل حسين والدكتور عبدالحميد يونس وزكريا الحجاوى والشاعر محمود حسن إسماعيل.. كانت قهوة عبدالله تجسيدًا للحالة الثقافية وارتباطها بالحياة الواقعية، لذلك كان روادها فى طليعة القوى المؤثرة فى حركة التنوير التى شهدتها مصر.. ومع نهاية الخمسينيات تختفى قهوة عبدالله بعد أن يهدم المبنى وتبنى مكانه واحدة من أكبر العمارات التى تطل على ميدان الجيزة.

مقاهى ذاك الزمان كانت حلقة الوصل بين الأجيال بما تشهده من نقاشات حادة بين المدارس المختلفة.

وحكى الراحل محمود السعدنى خلال لقاء تليفزيونى عن مقهى عبدالله قائلاً: كان يجلس عليها كبار الأساتذة فى الصحافة والأدب والفن قبل إغلاقها عام 1960، مشيرًا إلى أنها أثرت فيه كثيرًا.