الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
مولــد الكتابــة فـى مصــر!

عندما وصف د.يوسف إدريس:

مولــد الكتابــة فـى مصــر!

من وقت لآخر كان د.يوسف إدريس يتوقف تمامًا عن الكتابة سواء مقاله الأسبوعى فى الأهرام تحت عنوان «من مفكرة د.يوسف إدريس» أو كتابة قصة قصيرة أو البدء فى التفكير فى كتابة عمل روائى أو مسرحى!!



كان يتوقف عن الكتابة بإرادته، لكنه كان يتابع ويقرأ كل ما ينشر فى الصحف والمجلات من مقالات وتحقيقات وحوارات.. وكانت له ملاحظات ذكية احتفظ بها لنفسه، وكما توقف عن الكتابة فجأة عاد إليها بمقال نارى صادم كان حديث الناس الذين قرأوه صباح يوم 24 يناير سنة 1983 فى الأهرام.. المقال أسعد من قرأه، لكنه أغضب من يكتبون آراء ومقالات يملأون بها الصفحات.

 

عنوان المقال الصدمة كان «مولد الكتابة فى مصر» كتب يقول:

فى تلك الأشهر التى توقفت تحريرًا وتسجيلًا، أبدًا لم أتوقف تأملًا وإعمالا للفكر وقد وجدت الحياة والكتابة والطريقة والمواضيع التى بتناولها قد أبت إلى زقاق مسدود! واستحال الكتاب محررو الأعمدة وراصدو اليوميات والمعلقون والمحررون إلى «كورس» هائل الفخامة كثير العدد، قليل التنوع تمامًا وكأنهم جميعًا يرددون كلمات قد تختلف مفرداتها وتعلو أو تنخفض أنغامها ولكنها تكاد جميعًا تقول نفس الشىء، تنقد الروتين وتندر بالكسل، تصرخ طالبة النظافة تتساءل عما جرى لحياتنا من تغيير, تجمع كلها أنه كله إلى أسوأ وتختلف اجتهاداتها فى الإجابة ولكنك تقرأها جميعًا فلا تحس أنك تقدمت فى معرفة السبب خطوة ولا عرفت بداية لأى حل، وكأنك كالملايين التى تملأ شوارع القاهرة فى عز ساعات «الدوام» هجرت العمل، وانتشرت فى قلب المدينة تمشى ولا تسعى، تتمنى لسعيها غاية فتتوه بسعيها الغاية، مذهولة تتساءل، وتتلفت ولا تجد لآلاف استفساراتها مجيبًا، ولا لهواجسها مطمئنًا، كالأطباء تحولوا يطلبون العلاج من المرضى، ومرضى يعالجون مرضى، وأصحاء يمرضهم أنهم لا يرون علامات لأى صحة فى أى شيء!

ويضرب د.يوسف إدريس عشرات الأمثلة من المجارى إلى لصوص التطفل والإثراء السريع إلى المط فى المسلسلات والإنتاج هو الحل.. و.. إلى أن يقول: «تشابهت عند كل الأقلام المشاكل وتشابهت أنواع الحلول! وفى الآونة الأخيرة وبجانب الانفجار السكانى حدث انفجار فى كم الأبواب الصحفية والكتابية، ونفس المطالبين بتحديد الأبناء والنسل تنتشر أبوابهم وكلماتهم على هيئة «انفجار كتابى» فى أكثر من مكان فى الصحيفة الواحدة أحيانًا وبأكثر من طريقة، وكأن همّ كل واحد منهم أن يستحوذ على أكبر عدد من «البوتيكات الكتابية» فبقدر ما لديه من بوتيكات يتأكد ماله من نفوذ ويتربع كقاضى الأمور الكلية (بتاع كله) يصدر الأحكام بلا نقض ويشرع لكل شيء فى مصر!

يعلم «يسرا» كيف تتقمص الدور ويزجر «عدوية» ويؤنب رئيس الحى ويثبت أنه أول من نبه إلى خطورة الاقتصاد فى نمو المجتمع! ويتطوع برأى غير مسبوق فى أحقيتنا «لطابا» وينعى على بحيرة السد العالى سمكها الذى أهُمل صيده حتى بلغ حجم الديناصورات! وبالمرة يؤكد أن لا عدول عن القطاع الخاص وأن «الأهلى» أثبت كالعادة أنه حديد و.. وكثيرًا ما ينهى كلامه قائلًا: ألا هل بلغت اللهم فاشهد!

أبلغ من؟ الحكومة؟! وكأنه يتصور فعلا أن هناك مواطنًا اسمه الحكومة يسمع ويعى وكأنها ليست أجهزة لا نهائية العدد والاختصاصات لها طول قطارات البضاعة وقدمها وانفصالها عن بعضها البعض! ولكنه يصر أنه نبه الكائن البشرى الذى اسمه «الحكومة» وأنه «ها هوذا» يعيد تنبيهه وسجل فى لوح التاريخ وعلى مرأى ومسمع من ملايين المواطنين الشهود أنه كتب ولم يتحرك أحد، وأنه بثاقب نظره أثبت الحالة وأنه أرضى ضميره والعيب أبدًا لم يعد عيبه!!

ويمضى د.يوسف إدريس فى مقاله المهم فيكمل قائلًا:

«مولد كتابة ينتهز بعض «كُبار الكتاب» فرصة الدوشة والازدحام وخاصيتنا القومية فى ضعف الذاكرة من هول ما تكدس ويتكدس فيها ويعدد للناس مواقفه الخطيرة مع الشعب ضد الملك قبل الثورة ومع الديمقراطية ضد الطغيان وعصر عبدالناصر ومراكز القوى، وأنه هو ولا أحد غيره الذى وقف ضد السادات وأخطائه، ويفعل هذا بجرأة يحسد عليها، وكأنه يخاطب أطفالًا لم يروه يؤله الملك ويعادى الشعب ويمجد عبدالناصر والثورة وبالذات فى المواقف التى كان الكل يعارضونها ويسبح بحمد السادات ويكرر الشيء نفسه مع «مبارك»!

وأهو مولد وصاحبه الشعب يتصور الناس أنه غائب أو ساذج غير فاهم، أو ناسى، ولو عرف هؤلاء أن أحدًا لم ينس من مواقفهم شيئًا وأن شعبنا من أذكى شعوب الأرض، وذكاؤه هو الذى يدفعه أن يترك الناس يزوّرون ويكذبون حتى يوقعون هم أنفسهم بأنفسهم!!

ويمضى مقال د.يوسف إدريس بنفس الصراحة والقسوة قائلا:

 

 

 

«مولد كتابة» لشهور عشته لم أعشه اقرأ، اتفرج على أصوات النصب والدجل وإثبات الذات بإعلاء الصراخ والزئير، أتفرج وأسمع هلوسات اللابسين مسوح الإمامة والوعظ، أصحاب بنوك العملات الزائفة، والمنطق الغوغائى الذين دفعوا القلة القليلة الأصيلة التى تعرف والتى لديها فعلًا ما تريد قوله وتستطيع قوله، القلة التى لا تستطيع أن تتدافع بالمناكب لتأخذ مكان الصدارة فى مجالات القول والفعل، القلة التى لا تكتب، حين تكتب لإثبات الوجود وفرض الوجود بقوة الذراع، القلة التى لاتستطيع أن تبدى رأيها إلا برأى عام يطلبها ويستمع ويخرس الضوضاء لكى لا تفوته حرف من كلماتها حين تتكلم! ذلك إنها لا تكتب أو تتكلم إلا ولديها ما تقوله وما ينفع الناس فعلًا، ويحل لهم أزمة أو يفتح الأذهان لرؤى تكشف الضباب وتهدى سواء السبيل!

المتزاحمون بالمناكب من كل حدب وصوب من جامعيين يئسوا من إثبات وجودهم علمًا فلم يعد أمامهم إلا أن يصرخوا بوجودهم صحافة ومقالات، ومديرين وكبار موظفين، وغواة كتابة متطوعين، وغالبية من قراء وجدوا ألا مانع بالمرة مادامت الكتابة قد أصبحت لا تكلف إلا ورقة وقلمًا وأى رأى يعن وفى أى موضوع فلماذا لا يحولون أنفسهم من قراء إلى كُتاب وهل فلان أو علان أحسن منهم؟!

إلى درجة تدهش لتفاهة ما يرون ويقترحون.

وانظر إلى هذا الذى يدبج مقالة عريضة يطلب فيها أن يقتصر الترشيح للمجالس الشعبية على حملة الشهادات العليا! وليست الكارثة فى الرأى، الكارثة فى المسئول الصحفى الذى ينشره على أنه «رأى» دون أن يتصور أنه نوع من الجهل الصارخ بأبسط معانى التمثيل النيابى أو الشعبى، أو هذا السفير أو المدير أو الوزير الذى يصر على ذكر لقبه (لبث الهلع فى نفس القارئ) وهو وهم وما ينشرونه على الناس وفى كل جريدة أو مجلة متناولين أى موضوع يعن لهم وبمواضيع إنشائية يبدون فيها آراء عمرها ماقدمت ولا أخرت، فلا شيء فيها جد، ولا شيء غير مسبوق وإن هو إلا تكرار لدردشات مقاه روادها حتمًا لا يقرأون أو يكتبون!

وهذا الذى انتهز فرصة ترشيح نفسه لجائزة علمية وقد تربع على عرش الإفتاء فى كل زاوية من زوايا حياتنا، وكأنه لم يعد مرشحًا لجائزة وإنما يمهد لترشيح نفسه رئيس حزب أو جمهورية وبطريقة تميت القارئ الذى يتمتع بأبسط قدر من الوعى أو الاطلاع تميته ضحكًا لضحالة وسخافة وسوقية ما يفرضه من آراء على الناس.

ناس يملأون الدنيا كتابة لأنهم يتصورون أنها أسهل وأسرع طريقة لإثبات الوجود، ويتصور حتى المتخصصون أن مجرد تخصصهم الأكاديمى يؤهلهم بحكم الشهادة للكتابة فى فرع تخصصهم فى حين أن الكتابة المتخصصة الحقيقية ليست مجرد تلخيص لرسالة دكتوراة أو بحوث، وإنما هى رأى متفرد يخرج به الواحد منهم أو حتى يخرج به غير المتخصص على الرأى العام، رأى مبتكر كالاكتشاف العلمى أو الاختراع لأنه لو لم يكن كذلك لما ارتقى لمستوى الرأى، ولما كان له الفاعلية الحقيقية التى يحدثها الرأى، فالرأى الحقيقى هو الكتابة القادرة على تغيير رأى عام سائد ربما لنقيضه - أو فتح عين المجتمع على منظور لوجوده لم يكن يراه أو يتصوره قبلا!».

ويمضى د.يوسف إدريس ممسكًا بسماعته الطبية الماهرة ومشرطه فيقول:

«تحولت الكتابة فى الصحافة والإصرار على النشر هو أيضا الوسيلة الأسرع لتحقيق المكانة وهو الحديث المكتوب وتحقيق الذات بالنشر عن الذات! وليلة كتابة فى رأيهم تغنى عن عام بحث جاد أو عمل، ولأن كم الكتابة قد تضخم، بحيث قد حدث لدينا بجانب الانفجار السكانى «انفجار كتابى» فقد أصبح التسابق هو فى رفع العقيرة أكثر، ومداومة الصراخ حتى يلفت الصوت المتكرر العالى الأنظار، ولهذا يصبح الحق هو للأعلى حنجرة وجعجعة وأصبح الضجيج هائلًا:

وإذا تفحصت هذا الضجيج لا تجده يقول شيئا بالمرة تجده فى الحقيقة صمتًا تامًا، صمتا موجودا على هيئة ضجيج!». وللمولد بقية!