الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عبدالرحيم منصور من قنا لقاهرة المعز

الراقص على الحصى.. غريب قتلته الحكمة

لا أعلم ما الذى ساقنى إلى هنا فى هذا الوقت المتأخر من الليل، ربما روح  الشاعر الكبير الراحل عبدالرحيم منصور  لا تزال تصرخ لتعلن وجودها فى المكان، وربما روحى هى التى لا تزال تحن له وتبحث عنه.



31 ب شارع عدن متفرع من شهاب المهندسين، قبل شروق الشمس ببضع دقائق، وجدتنى أرتدى ملابس الخروج، وأسير فى طريقى وقررت أنى ذاهبة إليه.

 

وكأننى سأجده فى انتظارى فاتحًا ذراعيه متأهبًا لاحتضاني، ركنت السيارة وسرحت بخيالى حتى رأيت بليغ حمدى ينتظره بسيارته أسفل المنزل ويتأفف لتأخره عليه كالعادة، وكالعادة بليغ مستعجل على اللقاء، وكالعادة عبدالرحيم منصور يحمل فى يده مجموعة من الأوراق غير المنمقة، تضم كلماته.

«هنا عاش الشاعر عبدالرحيم منصور»..

كُتِبت هذه الجملة على لافتة نحاسية صغيرة وكأنها كل ما تبقى، و معظم ما كتبه عبدالرحيم منصور كان نابعًا من تجربة شخصية عاشها وكتبها بصدق فوصلت لنا بنفس الصدق وعاشت معنا حتى يومنا هذا، وكثيرًا ما كتب عن الغربة والتغريبة وحب الحياة فهو الذى قال: على الطريق وش غربة وخطو مالوش صاحب/ والوقت ميت فى تربة والتربة ما ليها صاحب.

بالرغم من كثرة المحبين حوله؛ فإنه افتقد فى حياته الصديق الحقيقي، لم يصادق كثيرين فى حياته.. إلا ما كان لغرض الشغل لتتحرك العلاقة فى هذا الإطار.

كان بسيطًا يعشق البسطاء ولا فرق عنده بين الوزير والخفير كلاهما واحد ورسالته هو أن تصل كلمته للخفير قبل الوزير، لذلك عشق الحرية ودائمًا ما كان يردد أنه عصفور يحط على كل غصن ويسافر وقتما شاء.

سيبونى أمشى لوحدى سيبونى أتوه عريان.. الدنيا توب على قدى وما أطقش أنا الغطيان

والحب كان الملهم الأعظم لعبدالرحيم منصور كان يجد نفسه فيه، لذلك كان محبًا لكل شيء معطاءً بكل ما تحمل الكلمة. لا يبخل بلقب «ابني» أو لقب «ولد عمي» كما ينطقها بلهجته الصعيدية التى تعتصر طيبة وحنانًا، وكل يوم حياته كأنه كان على موعد مع بنت جميلة لم تأت بعد لذلك كان دائمًا «مستعجل»!!

لو جلست معه على المقهى ربما يتركك فجأة ليركب أول قطار إلى الصعيد وينزل فى محطة المنيا ينتظر حبيبته التى لم تأت بعد، ثم يعود وهو منشكح وحيد ليؤلف قصيدة حب ملأت قلبه.

وُلد عبدالرحيم منصور عام 1941، بمحافظة قنا، وعانى فقدان الأب فى طفولته المبكرة فصارت علاقته بالأم التى تحفظ كل تراث الجنوب الشعبى شديدة الخصوصية.

كانت الأم هى الوطن تعلم منها جزءًا كبيرًا من الموروث الذى حمله الفتى الصغير، وكأن والدته قد أعطته جواز سفره وهى ترتجل الأشعار أمامه.

قال عنها ذات مرة «أمى هى الجذور الشعرية التى أمسكت بها ، فعندما كنت صغيرًا كنت أجلس بجوارها أمام الفرن تجهز رغيف الخبر على نيران خشب السنط.. كانت تغنى أمام النار فأشعر بغنائها مثل النقوش والرسومات الملونة المحفورة على جدران معابد الفراعنة».

 

 

 

علاقته بإخوته

لم تكن علاقة الشاعر عبدالرحيم منصور بإخوته أخوة فحسب؛ إنما شملت كل المعانى الإنسانية.  أما علاقته بتوأم روحه الشاعر «حمدى منصور» فكانت علاقة خاصة جدًا ولو تركنا القلم لـ«حمدى» سيكتبها من نزيف روحه. جمعتهما صفات عديدة مثل الصدق والإخلاص واحتضنتهما جنيِّة الشعر دون تفرقة.

أجاب «حمدى منصور» مرة عن علاقته بـ«عبدالرحيم منصور» بعد فترة صمت وشرود بعينيه الدامعتين ليقول «عبدالرحيم أنا» أوقف الشاعر حمدى منصور الزمن على لحظة رحيل «عبدالرحيم» توأم روحه ومنذ لحظتها وهو يعاقب الحياه وكل من فيها حتى نفسه على رحيل من كان يجلب الشمس للحياة.

نبدأ الحكاية باجتماع تحرير فى مجلة صباح الخير برئاسة الكاتب الكبير فتحى غانم ذلك الوقت، حيث كان يحضر الاجتماع الصحفى الشاب لويس جريس، الذى اقترح على رئيس التحرير رحلة للبحث عن المواهب الشابة وتقديمها بمجلة صباح الخير.

ولما وافق فتحى غانم ورحب، انطلق جريس لوجه قبلي، كما انطلق الكاتب الكبير عبدالله الطوخى لوجه بحري، لاكتشاف المواهب فى أنحاء الجمهورية.

 

مع أحمد منيب .. رحلة طويلة
مع أحمد منيب .. رحلة طويلة

 

انتهت رحلة لويس جريس بشاب أسمر يرتدى جلبابًا صعيديًا فضفاضًا يصطحبه إلى منزل الراحل أمل دنقل فلم يجده، وإلى منزل القاص والروائى يحيى الطاهر عبدالله فلم يجده أيضًا، وكذلك منزل الشاعر عبدالرحمن الأبنودى ولم يجده هو الثالث، حيث سبقوه ثلاثتهم إلى القاهرة قبل مجيئه بأيام.

استقل لويس جريس القطار متجهًا  للقاهرة مقررًا ، متخيلاً أن الرحلة انتهت دون العثور فى أى مبدع وجهًا لوجه. بينما يستعد القطار للمغادرة دس له عبدالرحيم منصور بضع ورقات كتبها بخط اليد، أخرجها من جلبابه الفضفاض، وقال لجريس: «دى كلماتى وأتمنى أنهم يعجبوك»، قرأ لويس الكلمات وأسرع على باب القطار وتمنى القفز منه ليعود لمنصور ليسأله أين كان يخبئ كل هذا الإبداع طوال الرحلة.

أول مقالات لويس جريس فى مجلة صباح الخير بعد العودة كان بعنوان «المعذبون بالفن» عن شاعر كبير اصطحبه طوال رحلته فى البحث عن الموهوبين ولم يقل عن موهبته شيئًا، ودعا ذلك الشاب عبدالرحيم إلى القاهرة، وقال إن مجلة «صباح الخير» تنتظره وتفتح له أحضانها، وفعلا جاء منصور ليبدأ رحلة تألق من هنا من مجلة «صباح الخير».

الراقص على الحصى

عام 1967 نشر «منصور ديوانه الأول، على نفقته الخاصه بعنوان «الرقص ع الحصى» وصدره بإهداء لأمه قال فيه «إلى أمى.. بنت الشيخ إسماعيل الخلاوي».

فى السبعينيات رشحه الراحل الكبير صلاح عبدالصبور ليلقى أشعاره أمام الرئيس السادات فى أحد أعياد الفن، وصفَّق الجميع.

وبعد انتهاء الحفل لم يجد من يأخذه معه فى سيارته ليوصله إلى منزله وبينما كان الجميع يركبون سيارتهم ، كان هو الوحيد الذى استقل قدميه وعاد حزيناً قائلاً «موهبتنا مش بتأكلنا ولا بترحمنا من المشى على الأقدام».

لم يلق عبدالرحيم منصور شعره مرة دون أن يتأثر.. كان يشعرك دائمًا وكأنه لأول مرة يلقى القصيدة.. يشعرك وكأنها أوحد قصائده وأعظم ما كتب وهكذا مع كل قصيدة.

إلى يومنا هذا أصدقاؤه يحتفظون له بقصاصات من قصائده كانوا يدونونها خلفه وهو يقرأ.

 

مع منير ومجدى نجيب
مع منير ومجدى نجيب

 

حاز «منصور» روحًا شعرية رحبة ومفردات شديدة الطزاجة، جمعت عبق الجنوب وتفاصيل المدينة، واقتحم عالم الأغنية فصار فى وقت قصير أحد أكثر كتابها تميُّزًا وصدقًا.

منصور وبليغ حمدى

شكَّل مع الموسيقار «بليغ حمدى» ثنائيًا فنيًا قررا التفرغ والمشاركة فى المقاومة بالغناء لرفع الروح المعنوية بعد 1967، وأسسا لمعسكر مستمر فى الإذاعة لكى يشارك الفن فى المعركة وكان من نصيب الشاعر عبدالرحيم منصور 225 نشيدًا غنت له أغلب الأصوات.

بعد نصر أكتوبر 1973 المجيد، كتب الكاتب الكبير توفيق الحكيم مقالًا عنوانه (عبرنا الهزيمة)، قرأ عبدالرحيم منصور المقال، وفورًا كتب «عبرنا الهزيمة.. يا مصر يا عظيمة» التى شدت بها شادية.

اتصل بعدها توفيق الحكيم بمنصور وطلب مقابلته، وعندما ذهب منصور قال له الحكيم إن المقال لم يقرأه الكثير ولكنك جعلت الملايين من المصريين يتغنوا بعنوانه.

تحولت أغنيات «منصور – بليغ» خلال ملاحم أكتوبر المجيد أناشيد يرددها الجميع احتفالًا بالنصر وكانت أغنية «أم الصابرين» لـ«شادية» نقلة مهمة فى مسيرة «منصور».

 

والدته زينب الخلاوى
والدته زينب الخلاوى

 

«من دهبك لبسنى العقد حبيبي/ من نيلك سقانى الشهد حبيبي/ من قمحك وكلنى اللقمة حبيبي/ من صبرك علمنى الحكمة حبيبي/ يا مصر يا أمنا،، يا مصر يا أرضنا، يا مصر يا حبنا/ يا مصر يا عشقنا»

وهذا تمامًا ما حلم به منصور فى طفولته.. تتغنى بكلماته الشعوب وتصبح مفرداته أيقونات الحب والشوق والحرب والنصر والتفاؤل والسلام.

لم يعرف الحزن طريقًا لعبدالرحيم.. الحياة للحياة وتلك كانت أشهر جمل وكان يقول وسط الكلام بكل عفوية الحياة للحياة ويكفى.

أشعار منصور على قبر يوسف شاهين
أشعار منصور على قبر يوسف شاهين

 

 

حداد ومجدى نجيب

عُرف وقتها عن شاعر العامية العظيم فؤاد حداد عزوفه عن سوق الأغانى التجارية، ولم يسمح لأحد التغنى بأشعاره، وهو ما لم يمنحه شهرة صلاح جاهين مثلاً، عاش فؤاد حداد متواريًا عن الأضواء لذلك فإن كثيرًا من أشعاره لم تخرج عن دائرة المثقفين.

وحكى الشاعر الكبير مجدى نجيب فى أحد كتبه تلك الواقعة قال:

«أقنعنى عبدالرحيم منصور بأنه لا بُد لشاعرنا الكبير فؤاد حداد من دخول مجال الأغنية لكى يظهر للأضواء.. ويومها اخترنا له أقرب موقع للغناء المحترم الذى يراعى ذوق المستمع ويرقى به من خلال صوت المطرب محمد منير.. وبألحان أحمد منيب. 

 

مع توفيق الحكيم
مع توفيق الحكيم

 

يكمل مجدي: «قلت لعبدالرحيم ونحن نهبط سلالم منزل فؤاد حداد: يا صديقى ما الذى فعلناه ؟ إن فؤاد حداد شاعر عملاق؟ وكلنا خرجنا من عباءته».

قال: وماذا استفاد هو بخروجنا من عباءته أو أنه أستاذنا ونحن نقرأ أشعاره فى لهفة واستمتاع ، بينما هو قابع فى بيته بعيدًا عن الناس.. لا يعرفه غير المثقفين».

بينما الأغنية لا يمكن أن تصادر.. ومن خلالها يمكننا قول ولو جملة واحدة مفيدة للمستمعين.. وخرج فؤاد حداد بعد محاولات نجيب ومنصور وولدت أغنية الليلة يا سمرة التى حققت شهرة واسعة. 

اقتطف محمد منير وأحمد منيب وعبد الرحيم منصور أبيات من قصيدة «الليلة يا سمرا» فى ديوان «رقص ومغنى» لفؤاد حداد وكسر حاجز رفضه اقتطاع بعض أبيات قصائده دون غيرها. وقتها عرف عبدالرحيم منصور أنه قد ربح الرهان، وخرجت كلمات فؤاد حداد من الدائرة الضيقة، وأكسبته الأغنية قاعدة جماهيرية عريضة.

تتوالى النجاحات وعام 1977 بدأ عبدالرحيم منصور فى تعاون مع «سنية قراعة» والمخرج «نور الدمرداش» فى المسلسل التليفزيونى «مارد الجبل» أحد كلاسيكيات ماسبيرو حيث كتب منصور الحوار والأشعار، قبلها قدّم العديد من الأغنيات فى السينما بدأها فى العام 1968 بفيلم «عدوية» للفنان محمد رشدى وكتب أغنية «ما على العاشق ملام».

وعام 1976 قدَّم عددًا من أنجح أغنيات فيلم «مولد يا دنيا» مع بليغ حمدى وحسين كمال عن قصة ليوسف السباعى، ثم قدم بعدها مع عاطف الطيب، وكتب سيناريو وحوار وأشعار فيلم «الزمار» بمشاركة رفيق الصبان.

كتب منصور الأغنية لمعظم الأصوات فكتب لعبدالحليم حافظ ونجاة وفايزة أحمد ومحمد قنديل ومحمد حمام ومحمد نوح وعفاف راضى وشادية وغيرهم.

وكان له الفضل فى تقديم التجارب الأولى لـ«على الحجار » فى أغنيه «على قد ما حبينا» وعمرو دياب الذى قدم له «ياطريق يا طريق» و«قلوع» كما قدم أغنيات لسميرة سعيد وأنغام ومدحت صالح وهانى شاكر وآخرين.

مع ابنته عالية
مع ابنته عالية

 

 

و تجربة الشاعر عبدالرحيم منصور مع الفنان محمد منير هى الأبرز فى مسيرة كل منهما ويرجع الفضل لمنصور فى تقديم «منير» ومساندته فى بداياته؛ حيث جاب به أماكن الصعلكه وجلسات المثقفين.

رأى منصور فى منير الجديد القادم من الجنوب لتجديد دماء الأغنية وخروجها من مأزق التكرار لتكون أقرب للناس وعلى حياتهم اليومية، وبانضمام «أحمد منيب» شكل الثلاثى أهم تجربة منذ الثمانينيات حتى الآن.

قدَّم الثلاثى عشرات الأغنيات التى حملها صوت منير لتكون مشروعًا فنيًا مغايرًا للسائد ثائرًا على النمطية فى مفردات الأغنيات واللحن وطريقة الأداء. وكتب منصور  لمنير «شجر الليمون واتكلمى، الحقيقة والميلاد، الكون كله بيدور، أمانة يا بحر، بريء، بنتولد».

وتبقى الحدوتة المصرية الأروع والأخلد والأعظم من بين كل ما كتب عبدالرحيم منصور ولحن منيب، حيث أوصى المخرج يوسف شاهين بكتابة كلماتها على قبره.

لا يهمنى اسمك/ لا يهمنى عنوانك/ لا يهمنى لونك/ ولا بلادك/ مكانك/ يهمنى الإنسان

ذات ليلة كان قد اقترب الأجل، ورحل منصور فى هدوء. تقول الرواية أنه عاد إلى بيته بعد سهرة مع بليغ حمدي، كان متعبًا فطلب من زوجته أن يستريح.

وما هى إلا دقائق حتى راحت زوجته تصرخ فى التليفون لبليغ حمدى وعبدالرحمن الأبنودي: عبدالرحيم مات.  رثاه الكثيرون وكتب فؤاد حداد يقول:

عبد الرحيم ما راحش من بالى/ الليل عتر فى الشمس قايمه لى/ على حيلها لا بتقعد ولا بتمشى/ والدمع ما بيسقطش من وشى

ولا خد ميزان الخير على غشى/ ولا خداعى.خلال جمعى كلمات عبدالرحيم منصور شممت رائحته تملأ الأجواء حولى، أشعر دائمًا به يربّت على كتفى.. بحنان دافق ويضيء خطواتى بالأمل.

بائع القناديل وعاشق البحر ومحب الحياة.. لم يمت، وسيظل دائمًا يملأ الدنيا غناءً وفرحة. وتظل الإنسانية ضمير غائب حاضر تقديره «عبدالرحيم منصور».